على رغم شهرته الواسعة خلال حياته، وعلى رغم ان اسم فيتوريو دي سيكا، يرد في الكتب والدراسات التي تؤرخ للتيار المسمى"الواقعية الجديدة"في السينما الإيطالية، بصفته واحداً من المخرجين الذين اسسوا ذلك التيار، ثم بخاصة بصفته صاحب الفيلم ? العلامة في"الواقعية الجديدة"فإن دي سيكا يبدو شبه منسي في ايامنا هذه. منذ زمن طويل لم يصدر عنه أي كتاب او دراسة. ومنذ زمن طويل لم تعرض افلام كثيرة له لا في صالات السينما ولا على الشاشات الصغيرة، كما ان منتجي الأسطوانات المدمجة، الذين اعادوا احياء معظم افلام السينما العالمية من جديد، سها عن بالهم التطلع صوب معظم افلام دي سيكا لإعادة اصدارها. والأدهى من هذا ان دي سيكا، الذي كان ذات زمن يقارن في بلده ايطاليا، وفي انحاء عدة من أوروبا بشارلي شابلن، لا سيما في مجال تفوقه في التمثيل والكتابة كما في الإخراج، نسي حتى كممثل. وهذا امر نادر في عالم السينما. وربما كان السبب يكمن في ذلك التراجع الخطير الذي عرفته السينما الإيطالية نفسها خلال ربع القرن الأخير، هي التي كانت طوال الخمسينات والستينات وربما السبعينات ايضاً، واحدة من اكثر السينمات تفوقاً في العالم، والوحيدة التي اعتبرت ذات يوم منافسة حقيقية للسينما الأميركية. وطوال تلك الحقبة كان اسم فيتوريو دي سيكا ملأ الأسماع والأبصار، كما ان فيلمه الأشهر"سارقو الدراجة"كان دائماً فيلماً مرجعياً في كل حديث عن واقعية السينما. حقق فيتوريو دي سيكا هذا الفيلم في العام 1948. صحيح ان"الواقعية الجديدة"كانت ولدت قبل ذلك بسنوات، مرات عدة، أولها على يدي لوكينو فيسكونتي في"الأرض تهتز"، ثم على يدي روبرتو روسليني في"روما مدينة مفتوحة"ثم في"برلين العام صفر"، وصحيح ان افلام فيسكونتي وروسليني الأولى كانت اكثر استيفاء لشروط الواقعية الجديدة المتحدثة عن سينما وثائقية اكثر منها عن سينما روائية، ولكن في الحساسية الشعبية العامة، لا شك في ان"سارقو الدراجة"كان اهم وأشهر، ذلك لأنه، ومن دون ان يتخلى عن المبادئ الرئيسة للتيار، عرف كيف يضفي عليه مسحة انسانية عاطفية -- اقتربت في لحظات من حدود الميلودراما - ما قرب تلك السينما النابعة من نبض الشارع والحياة اليومية، من الناس اكثر وأكثر، موجداً تلك المعادلة الذهبية بين رغبات المبدعين المثقفين المجددين، وتراث المتفرجين الذي بنته فنون وآداب تغوص عميقاً في الزمن، وبعيداً في وجدان الناس وأفئدتهم اكثر مما تغوص في عقولهم. بالنسبة الى دي سيكا كان الغوص في العقول غاية اساسية، ولكنه كان يعرف انه ليس ثمة ما هو أقوى وأفعل من الوصول الى العقول من طريق القلوب. ومن هنا كانت جدة"سارقو الدراجة"وفاعليته... ونقول فاعليته، لأن هذا الفيلم قُلّد وأثر كثيراً في الكثير من مخرجي السينما في العالم كله، اكثر كثيراً مما فعلت بقية افلام"الواقعية الجديدة"بما فيها تلك التي تفوق فيلم دي سيكا فنية وتجديداً... وهي كثيرة على اية حال. فما الذي حكى عنه"سائقو الدراجة"وكيف حكى موضوعه بلغته السينمائية الخاصة و... الفاعلة؟ موضوع"سارقو الدراجة"ويترجم الى لغات اخرى بصيغة الفرد، لذلك هو في الفرنسية والإنكليزية"سارق الدراجة"، يتحدث عن روما، بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية التي كانت الهزيمة فيها من نصيبها. في ذلك الزمن، وسنين قبل"معجزة"خطة مارشال وانبعاث الاقتصاد الإيطالي، كانت المدينة تعيش اوضاعاً اقتصادية شديدة الصعوبة، والبطالة تطاول شرائح بأسرها من المجتمع... كان الوضع يهدد كل عائلة وفرد والحلول تبدو عجائبية بعيدة جداً. ذات بعد ظهر يوم عادي، يحدث لرب عائلة عاطل من العمل، هو انطونيو، ان يعهد إليه بعمل موقت كلاصق للإعلانات، وكان من الطبيعي ان يتطلب منه ذلك العمل ان تكون لديه دراجة يتنقل بها من مكان الى آخر للصق الإعلانات. وهو لكي يحصل على تلك الدراجة يرهن زوج اغطية كان الشيء الثمين الوحيد الذي يملكه في بيته، ويحصل على الدراجة بالمال الذي حصّله. ولكن في اليوم نفسه الذي يتعين عليه ان يبدأ العمل الذي يشكل بالنسبة إليه فرصة نادرة للحصول على رزقه ورزق عائلته، يكتشف ان دراجته سرقت... وعلى الفور، اذ يتجاوز لحظات الفزع واليأس الأولى، يقرر ان يشرع برفقة ابنه الصبي برونو، في البحث عن الدراجة لاستعادتها. ورحلة البحث هذه تشكل العمود الفقري للفيلم، ذلك انها رحلة تقود انطونيو وبرونو الى المناطق الأكثر فقراً وقذارة في روما ذلك الزمن، بين الأسواق والمتسولين وحثالة القوم. هي رحلة في عالم واضح المعالم بفقره ويأسه، منظوراً إليه بعيني ذاك الذي كاد يأمل قبل ساعات في ان يخرج من تلك الوضعية. في نهاية الأمر، وبعد ان يكون الفيلم قد جال بنا على ذلك العالم السفلي، بأقل قدر ممكن من الحكي والتعليق، وبأكبر قدر ممكن من المشاهد والصور المعبرة، يتمكن انطونيو بمساعدة ابنه من العثور على السارق: انه بدوره عاطل من العمل، من الواضح ان فقره وجوعه يفوقان حال انطونيو بكثير. فما العمل: يشفق انطونيو على سارقه هذا، ويرى ان الحل الوحيد المتبقي امامه، هو ان يسرق بدوره دراجة رآها مركونة في الطريق، وإذ يفعل يقبض عليه المارة بالجرم المشهود ويوسعونه ضرباً وركلاً، من دون شفقة او رحمة، ليجد في النهاية ان ليس ثمة سوى يد واحدة امتدت إليه محاولة إنقاذه من ايدي السابلة: انها يد ابنه برونو. لقد ارتبط اسم فيتوريو دي سيكا بهذا الفيلم المؤثر، والمؤسس لما سمي يومها"ثورة داخل الثورة"أي ثورة جمالية وتعبيرية داخل تيار الواقعية الجديدة. ومن هنا اضيف كون دي سيكا مخرجاً قديراً الى سمعته كممثل مرموق، لكن ما نسي في ذلك الحين، هو ان"سارقو الدراجة"ينتمي الى كاتب السيناريو تشيزار زافاتيني بقدر ما ينتمي الى دي سيكا كمخرج - والحقيقة: بأكثر مما ينتمي الى دي سيكا. ذلك ان الجديد الثوري في هذا الفيلم كان كتابته، وليس اخراجه، ففي مجال الإخراج، وإذا تغاضينا عن القوانين الأساسية للواقعية الجديدة التصوير في الشارع، مواضيع تطلع من نبض الحياة، الاستغناء عن النجوم، الحوارات الواقعية، الابتعاد عن الديكورات قدر الإمكان، فسنجدنا امام لغة اخراجية كلاسيكية تكاد تبدو تنفيذاً حرفياً بصرياً لكتابة سينمائية مرسومة بدقة لتخدم موضوعاً خطيراً ودقيقاً، وهذه الكتابة كانت من انجاز زافاتيني الكاتب الماركسي، الذي آمن دائماً بالخلط بين الفردي والجماعي، بين الواقع والحياة، بين السبر الجواني للشخصيات، وسماتها البرانية. وكان دي سيكا تعرف إلى زافاتيني خلال تلك المرحلة ووجد امكانية كبيرة للتعاون معه. كمخرج وممثل، وأحياناً كمخرج من دون تمثيل. من هنا فإن زافاتيني هو المحرك الثوري لتلك الوجهة الجديدة التي اتخذتها الواقعية على"يدي"دي سيكا. ولقد تواصل تعاونهما زمناً طويلاً، اذ حققا معاً افلاماً لاحقة حققت من النجاح دائماً ما فاق نجاحات"سارقو الدراجة"، مثل"معجزة في ميلانو"1951 وپ"اومبرتو د."1952، وكلها - وما تلاها - كانت افلاماً عايشت"دراما البروليتاريا"واستدرت"دمع البائسين شخصيات ومتفرجين". وفيتوريو دي سيكا 1901 - 1974 يعتبر معلماً اساسياً من معالم الفن الإيطالي خلال القرن العشرين، وحتى رحيله، في المسرح والسينما، في الإخراج والتمثيل، كما في الغناء ايضاً. وكان توجهه الأساس في تمثيله كوميدياً، اما في افلامه فكان اكثر جدياً، هو الذي اعتبر دائماً ان"سارقو الدراجة"وپ"معجزة في ميلانو"وپ"اومبرتو د."تشكل ثلاثية اطلق عليها اسم"ثلاثية دموع الفقراء".