تشهد المنطقة العربية، أكثر من سواها ربما، اختباراً قاسياً هذه الأيام يطاول عملية البناء الوطني فيها ومدى استيفاء شروط هذا البناء في ظروف تعزز فرص الإعضال والتعثر أكثر مما تعزز فرص الاستقرار على نصاب سياسي وطني جامع ومشترك. هذا ما يتبادر الى الذهن لدى القاء نظرة ولو خاطفة الى الاستحقاقات السياسية في ثلاثة"بلدان"في الأقل: فلسطين والعراق ولبنان. ولنسارع الى القول ان انكفاء الجماعات المحلية على ذاتها، وهو انكفاء نشط ومحموم، يتوافق مع، أو يستنهض، ذاكرات خصوصية يعول عليها انشاء صورة كلية عن قوام وزمانية الجماعة. بعبارة أخرى، يتخذ الصراع على الدولة في الأمكنة المذكورة، دون ان يقتصر عليها بطبيعة الحال، صورة صراع بين ذاكرات تسعى كل واحدة منها الى جعل نفسها مادة التاريخ ومآله. وقد سبق لبعض علماء الاجتماع في بلدان أكثر استقراراً وأكثر اندراجاً في متطلبات منطق اشتغال الدولة الوطنية أو ما يعرف بالدولة - الأمة، ان تحدثوا عن انتقال الصراعات في هذه المجتمعات التاريخية الناجزة من صراع الأعراق قبل تحقق الاندماج الاجتماعي، أي في مرحلة ما قبل القومية، الى صراع الطبقات الاجتماعية الذي اعتبرته الماركسية طوال قرون وعقود محرك التاريخ ومداره، وصولا الى شكل جديد للصراع بدأت تتجلى ملامحه منذ ثمانينات القرن العشرين الفائت، وهو الصراع على الأمكنة والمواقع والمقاعد. أولئك الذين تحدثوا وما يزالون عن الصراع على المقاعد والمكانات التقطوا نتائج التحولات الاجتماعية والثقافية في البلدان المتطورة ما بعد الصناعية، وهي تحولات طاولت التمثيلات المعهودة للهويات الاجتماعية، وأسفرت بالتأكيد عن تبدلات حقيقية في خريطة وقوام الطبقات الاجتماعية وأشكال التمثيل المهني والسياسي التي ارتبطت بها. الثورة النيوليبرالية التي انطلقت في عهد رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، والهادفة الى تحرير السوق ولعبة التنافس وتقليص دور دولة الرعاية، لعبت وتلعب حتى اشعار آخر دوراً بارزاً في انتاج صورة شديدة التبسيط عن منطق الانقسامات الجديد. فهذا المنطق يكاد يتلخص في التعبيرات الشائعة في ايامنا عن انقسام بين ناجحين أكانوا دولاً أم شركات أم أفراداً فهموا بذكاء منقطع النظير طبيعية الكائن البشري، وبين فاشلين أكانوا ايضاً دولا أم افراداً أم ثقافات يرفضون الاعتراف بفشلهم مما يحملهم على الحسد والغيرة والرغبة في الانتقام من الناجحين الذين اصطفاهم الرب دون سواهم، في رواية ايمانية - دينية، واصطفتهم الطبيعة في رواية دنيانية تستخدم كما يحلو لها ما بات يعرف بالداروينية الاجتماعية والثقافية. يستفاد من هذا ان عمليات الاصطفاء والفرز الاجتماعيين، الجارية على قدم وساق، تستولد مناخاً من النكوص والرجعة كي لا نقول الرجعية عن فلسفات ونظم تعهدت طويلاً الحفاظ على التماسك الاجتماعي الوطني، بحيث صار شائعاً الحديث عن موت هذه الافكار والنظم ودفنها مع"نهاية الايديولوجيات"ومع انتهاء الحرب الباردة، من دون ان نعلم كيف احتضرت، مما يرجح الظن بأنها تتعرض للدفن وهي ما تزال بعد حية ترزق. في هذا السياق، يمكننا ان نقرأ بعض دلالات حوادث العنف المديني في الضواحي الفرنسية"الصعبة والحساسة"كما يقال. وليس من قبيل المصادفة ان يترافق هذا الاضطراب الاجتماعي الساخن مع اندلاع المناظرة حول حرب الذاكرات أو صدامها، بالاستناد الى تصويت البرلمان الفرنسي في شباط فبراير من العام المنصرم هذا 2005 على نص تشريعي يتحدث عن الدور الايجابي للحضور الفرنسي أي للاستعمار في المستعمرات الفرنسية السابقة. وما تشهده فرنسا، تشهده كذلك وان في صيغ مختلفة بعض الشيء بلدان أوروبية اخرى، والحبل على الجرار. تتغذى حروب الذاكرات في منطقتنا من هذا المناخ النكوصي المعولم، فيما هي مدعوّة بإلحاح الى اجتراح وحدة وطنية تكون القاعدة السياسية لبناء الدولة ومؤسساتها. في فلسطين يدور نزاع على المقاعد والمكانات بين ما يسمى بالحرس القديم أو"جماعة تونس"وبين جيل الشباب المقيمين أصلاً في الداخل. ويستند كل طرف من طرفي النزاع المفتوح والقابض على خناق رئيس السلطة الوطنية محمود عباس، الى ذاكرة تجربة أو تجارب نضالية يجري اعتبارها بمثابة رأسمال رمزي يؤهل أصحابه احتلال موقع بارز في قيادة الشعب الموعود بدولة مستقلة لا تأتي. والنزاع الجاري الذي عرف بعض الاستعراضات العنيفة ليس نزاعاً بين أجيال كما قد يخيل للبعض، بل هو أقرب الى أن يكون نزاعاً على المواقع في اطار لعبة مفتوحة، ما دامت الدولة السوق الأعظم وأم الأسواق على قول مؤرخنا ابن خلدون، صاحب المقدمة. ويتناظر هذا النزاع مع مستجدات السجال السياسي الاسرائيلي بعد اعلان ارييل شارون عن تأسيس حزبه الجديد"كاديما"يمكن تعريبه بكلمة قدماً، ويبدو أن الحزب الجديد والمتوقع له أن يفوز بنسبة كبيرة في الانتخابات القادمة في 28 آذار مارس، ينوي رسم حدود اسرائيل النهائية من دون تفاوض مع الفلسطينيين. فبرنامج الحزب كما نشرته صحيفة"معاريف"الاسرائيلية قبل أيام ينص على الحفاظ على وجود وأمن دولة اسرائيل الكيان الوطني للشعب اليهودي. وتقول الوثيقة البرنامجية ان"وجودنا ككيان وطني يهودي يقتضي التخلي عن جزء من أرض اسرائيل"ضمن الحدود التي وردت في التوراة. وستشمل الحدود النهائية لاسرائيل، بحسب قياديين في الحزب المذكور، كامل مدينة القدس والمجموعات الاستيطانية في الضفة الغربية. ويرفض برنامج"كاديما"قطعاً حق الفلسطينيين في العودة، ويؤكد التمسك بخريطة الطريق فيما تعتزم اسرائيل، في الوقت ذاته، توسيع مستوطنتين في جنوبالضفة الغربية واقامة منطقة أمنية عازلة تشمل أراضي واسعة في شمال قطاع غزة. قصارى القول ان برنامج"كاديما"يسعى الى تحقيق اسرائيل السلام مع نفسها ولا يكون للمفاوضين الفلسطينيين في أحسن الأحوال سوى دور الشاهد والمتفرج على انتصار الاسرائيليين على ذاتهم. لا مكان للتاريخ ولا دور له سوى القيام بخدمة ذاكرة متصلة عبر التاريخ المديد منذ التيه التوراتي الى اليوم، من دون أن تتاثر به أو تبتل بمياه أحداثه الكثيرة الا في حدود استعماله لأغراض التذكر. النزاع على نتائج الانتخابات العراقية هو ايضاً يتغذى من ذاكرات الجماعات المنتصبة عصبيات سياسية تستولي على التاريخ باسم ذاكرة مضطهدة هي نصيب جماعة في طور معين، ونصيب جماعة أخرى في طورآخر. وهذا ما ينذر بحروب أهلية لا تبقي ولا تذر، ما دامت الذاكرة رواية الوافد عن نفسه، أما التاريخ فهو رواية الجمع بين عناصر مختلفة ومتصارعة. يعيش لبنان بدوره شيئاً من هذا القبيل. فالجماعات اللبنانية تتوكأ على ذاكرات خاصة ترقى الى تاريخ نظام الملل العثماني وترى في التاريخ الحديث للبلد اللبناني، وهوتاريخ صراع على الدولة، أصداء وأشباح صور قديمة تعتبر بمثابة هويات مصمتة لكيانات متشاكلة ومتماثلة مع ذاتها. أما العيش المشترك ومساحات الاختلاط واستنباط أشكال التعالي على الخصوصيات الضيقة فهذه متروكة للتاريخ وللأقلية الصعلوكية التي تنهل منه. لقد أنتجت الوصاية السورية شعوراً وطنياً لبنانياً مرشحاً للاستدامة، في حال ما قيض لرجل الدولة ذي الحكمة الرفيعة المستوى، أي رئيسا لحكومة فؤاد السنيورة، ان ينجح في اجتراح تسوية تثبت الولاء الوطني من دون ان تعطي دروساً لذاكرات الجماعات في كيفية ودرجة الانتماء الى الوطن اللبناني. والتسوية المرجوة هذه تدعو اللبنانيين الى ادراج ذاكراتهم، وهي كلها شرعية وجديرة بالالتفات، في عملية بناء تاريخ مشترك من خلال بناء الدولة ومؤسساتها. ويمكن طمأنة أهل الذاكرة الطائفية بالقول لهم انها ليست مهددة بالزوال، الا ان التعبير عنها يكون على صعيد آخر، كالثقافة والأدب مثلاً.