بعد سنتين فحسب من تقليده جائزة"الأسد الذهبي للحياة الفنية"يعود النجم العربي الكبير عمر الشريف إلى مدينة البندقية لاستلام جائزة"مدينة البندقية"التي ستُمنح له اليوم"الجمعة"في حفلة خاصة تقيمه المدينة العائمة ضمن فعاليات الدورة ال62 لپ"مهرجان البندقية السينمائي الدولي". وبمناسة الجائزة سيُعرض فيلم"نار في قلبي"من إخراج الإيطالي لامبيرتو لامبيرتيني. أحداث الفيلم تجري في مدينة نابولي الجنوبية الإيطالية إبان كانت تحت سيطرة أمبراطورية نابليون. الفيلم من بطولة عمر الشريف إلى جانب النجمة الهندية سونالي كولكاريني وعدد من الممثلين الإيطاليين. وعلى رغم اختلاف الشخصية الحالية التي يؤديها عمر الشريف عن فيلمه"السيد إبراهيم وأزاهير القرآن"، فإن الفيلم الجديد يبدو وكأنه استكمال لذلك الشريط، إذ يشكل الحوار بين الجماعات المختلفة والمتباينة المشارب والانتماءات الهاجس الأساسي. كلوني في أوليمب المخرجين قلّما شهد البساط الأحمر أمام قصر السينما في جزيرة الليدو بمدينة البندقية، الاحتفال بنجم كما حدث قبل بضعة أيام لدى استقبال النجم الأميركي جورج كلوني. فعلى رغم أن التوقعّات بأن يكون استقباله حافلاً كانت قائمة، إلاّ أن الحشد الكبير الذي تجمّع أمام قصر السينما أدخل تنظيم المهرجان في حال من الارتباك وأخّرَ عرض فيلم"عمتم مساءً وحظاً سعيداً"، وقتاً أطول من المعتاد. المنتظرون أمام القصر لم يكونوا مجرّد مراهقين معتادين من الذين يحتشدون عادة إما لرؤية البطل أو الحصول على أوتوغراف"عَجل"منه، بل كان هناك كم كبير من الناس البالغين الذين جاءوا ليرحبّوا بهذا النجم الذي قرر في هذه المرحلة من إنجازه الإبداعي الدخول في منطقة الإلتزام في عمله السينمائي. جورج كلوني لم يأت إلى المهرجان بطلاً لأحد الأفلام، بل مخرجاً لعمل يبدو وكأنه وضع يده منذ اللحظة الأولى على أهم جائزتين من جوائز المهرجان، أي الأسد الذهبي لأفضل عمل وكأس"فولبي"لأفضل دور رجالي لممثله المبدع ديفيد ستراثيرن، الذي أدى دور إدوارد. آر. مارّو في شكل رائع. وعلى رغم أن النتائج النهائية التي ستقرّرها لجنة التحكيم الدولية برئاسة الأوسكاري الإيطالي دانتي فيرّيتّي، ستعلن يوم غد فإنه ليس مغامرة على الإطلاق أن نتوقّع بأن يكون كلوني المخرج من بين أؤلئك الذين سيحصلون على جائزة الأسد الفضي كأفضل مخرج، وإذا ما حدث ذلك، فإنها ستكون مستحقّة بالتأكيد. كلوني أنجز فيلماً ينتمي إلى السينما"الخالصة"أي أنه أنجز شريطاً ينتمي إلى تلك المرحلة من السينما عندما كانت"الحدّوتة"هي العنصر البطل في العمل السينمائي، وليس الخدع والفذلكات السينمائية التي باتت تهيمن على كم هائل من الأنتاج الأميركي وتجاوزت عدواها إلى أماكن أخرى، كما شاهدنا في فيلم"السيوف السبعة"للفيتنامي الأصل تسوي هارك، الذي عرضه مدير المهرجان ماركو موللر في حفلة الافتتاح. الشريط يروي قصة بضعة أسابيع من حياة الصحافي التلفزيوني الأميركي المشهور إدوراد مارّو، الذي يقرر في لحظة ما من حياته، مدعوماً بمنتجه فريد فريندلي، أداه بتواضع شديد كلوني نفسه، أن يقف إلى جانب الحقيقة ويمارس مهنة الصحافة كما هي في حقيقتها، أو كما ينبغي أن تكون، بمعنى أن تكون شاهداً على الحقيقة وناقلاً محايداً لتلك الحقيقة من دون الخوف من التعرّض إلى الأذى أو الأقصاء أو حتى الموت على يد من تُضّر بهم تلك الحقيقة. أجل لقد تمكّن إدوارد مارّو، ومن دون أية فذلكة سياسية أو لُعب قذرة، من وقف ذلك السيل العارم الذي كان يمثّله السناتور جوزيف ماكارثي، والماكارثية في شكل عام. ولولاه لما كان في الإمكان وقف ذلك السيل الذي كان يوشك أن يحرق كل ما تمكّنت الثقافة والديموقراطية الأميركية من تحقيقه حتى تلك اللحظة. كان ماكارثي يمثل"محكمة تفتيش"في عصر الديموقراطية، ولأنه كان ينطق بأحكامه من كرسّيه في مجلس الشيوخ الأميركي، فإنه كان أخطر من محاكم التفتيش نفسها، ذلك لأنه كان يمتطي جواد الديموقراطية وعربة التلويح ب"الخطر الشيوعي"ضد أي رأي مخالف لآرائه، ليقيم ديكتاتورية الرأي الواحد. قد يقول البعض إن موضوع الصحافة الاميركية ليس جديداً وأن مبدعاً آخر، هو أورسون ويلز، دنا منه قبل ما يقرب من ثلثي قرن في شريطه الرائع"المواطن كين"كما أنجز آخرون أفلاماً مماثلة في تلك المرحلة التي كانت عدوى المكارثية والحرب الباردة لا تزالان قائمتين ونافذتين، إلاّ أنه لم يكن، وعلينا أن نقول ربما، لمبدعين كبار أن يُنجزوا مثل تلك الاعمال، لولا أن صحافيين وبشراً قبل كل شيء مثل إدوارد آر. مارّو كانوا قرروا الوقوف أمام ذلك السيل المرعب الذي كانت تمثّله أفكار السيناتور جوزيف ماكارثي، ويكفي أن نتذّكر ما حاق بمبدع كبير مثل إيليا كازان، الذي إنهار تحت مطرقة الماكارثية، فانشغل في"الدفاع"عن نفسه وپ"تبرير"كونه"مخلصاً"للولايات المتحدة، ما حرم السينما العالمية ممّا كان بإمكان هذا المبدع الكبير الراحل إنجازه خلال السنوات التالية. وقد يقول البعض أيضاً إن من السهل اليوم إطلاق"رصاصة الرحمة"على الماكارثية بعد أن انهارت في مهدها. ربما كان صاحب هذا الرأي على حق، لكن لا ينبغي نسيان ما تشكّله الصحافة والإعلام، وبالذات الإعلام التلفزيوني اليوم من معطى مهم وخطير في آن واحد وما تشكّله من سلطة وأداة لسلطات و"لوبيّات"سياسية وأيديولوجية، وليس ذلك في الولاياتالمتحدة لوحدها. لذا فإن استدراج حادثة وشخصية تاريخيتين مثل الماكارثية و"حفّار قبرها"، أي الصحافة الحرّة، ليس من قبيل رواية التاريخ، بل هو تأكيد على ما آلت إليه حال الإعلام في واقع اليوم وما حوّرت السياسة من مواصفات ومزايا هذا الحقل من الإبداع البشري. ليس شريط جورج كلوني مجرد بكائية على الصحافة الحرّة واحتفاءً بماضيها فحسب، بل هو دعوة لإيقاظ الضمير الإعلامي لدى الكثيرين ممّن وقعوا في شرك السلطات، وهو في الوقت ذاته إيذان بازدياد قائمة المخرجين المبدعين في العالم باسم جديد ومهم. أفضل مدير للممثلين وإذا كان كلوني قد ضُمّ، عن جدارة واستحقاق إلى"أوليمب المخرجين"، فإن زميله، الأكبر سناً منه ببضعة سنين، الأوسكاري المشهور رون هاوارد أكد بشريطه الجديد"سيندريلا مان"المعروض خارج المسابقة الرسمية، كونه أحد أهم المخرجين العالميين في الوقت الحالي. فبعد أن كان هاوارد أنجز أيضاً في عام 1999 شريطه"إيد تي في"وتناول فيه ظاهرة"تلفزيون الواقع"وقدرة ذلك الجهاز على"خلق"وپ"قتل"الشخصيات التلفزيونية، وبعد أن حصد جوائز الأوسكار و"غولدن غلوب"عن شريطه الجميل"بيوتيفل مايند"، يعود في شريطه الأخير إلى واحدة من الحلبات الأكثر شهرة في السينما الأميركية، أي حلبة الملاكمة وقد فعل ذلك الممثل الذي يبدو أنه بات نجمه المفضّل، بعد"بيوتيفل مايند"أي الأسترالي الأصل راسيل كرو. هاوارد أكد في هذا الشريط ليس كونه واحداً من أفضل مخرجي السينما في الولاياتالمتحدة فحسب، بل واحداً من أفضل"مديري الممثلين"على الإطلاق، فهو بفيلميه الأخيرين حوّل ممثلاً جامد القسمات ووحيد التعابير مثل راسل كرو إلى نجم يستحق الثناء والجوائز والتصفيق المطوّل، الذي دام لأكثر من خميس دقيقة في الصالة المخصصة للصحافيين في جزيرة الليدو. يروي الفيلم قصة مرحلة مهمة من حياة جيم برادّوك الملاكم الأبيض الشاب والواعد والذي يأمل منه مديروه الكثير ويعلّقون عليه آمالاً واسعة. إلاّ أن جيم، وبعد سلسلة من الخسارت في الحلبة يفقد رخصة الملاكمة ويُضطر إلى الانسحاب من الحلبة مواجهاً بذلك مخاطر فقر مُدقع، لأن الولاياتالمتحدة كانت تمر إبان أحداث الفيلم بالأزمة الإقتصادية التي ضربت العالم وضربتها في نهايات العقد الثالث من القرن الماضي. "جيم"يقبل العمل في أشغال عادية في الميناء، إنها أعمال شاقه، لكن هاجسه الأول هو إرضاء منبع طاقته الدائمة، زوجته الجميلة"ماي"- أدته رينيه زيلويغر-، إلاّ أن تلك الجهود تؤول جميعها إلى فراغ وحين تبدو خطواته أكثر تسارعاً نحو الفقر والعوز الكامل تأتيه فرصة غير مُنتظرة عندما يتمكّن مدير أعماله من استحصال فرصة أخيرة لجيم للمنازلة على حلبة ميديسون سكوير غاردن الشهير. وبدلاً من أن يكون النزال فسحة تدريبية لخصمه وفرصة لجيم للحصول على بعض المال، فإنه يُفاجئ الجمهور والصحافة ومقرّبيه بأن الخصم، الذي كان يُعد النجم الألمع في تلك اللحظة، يُردى أرضاً بالضربة القاضية الفنّية. ومنذ تلك اللحظة تبدأ الانتصارات بالتتالي وبانتصاراته يُدرك أنه أصبح بطلاً شعبياً حتى تبلغ ساعة الحسم عندما يُوافق"جيم"على نزال خطير ضد ماكس باير. عندما يصعد"جيم"على الحلبة تبدو احتمالات نجاحه واحداً على عشرة. إلاّ أن حسابات"جيم"تذهب بالضد من حسابات الآخرين. زميل ناقد عربي علّق على هذا الشريط وشريط جورج كلوني بقوله"أميركا اليوم تعيش أزمة أبطال وربما أميركا تبحث اليوم في ماضيها لتصنع أبطالها..."هذا الزميل على حق بالطبع، وأميركا السينمائية لم تفعل طوال عمرها إلاّ هذا، فعلته مع رعاة البقر ومع"المدافعين عن كوكب الأرض"ضد هجمات القادمين من الكواكب الأخرى وربما تفعل اليوم باحثة في تاريخها الماضي القريب. وحسناً جداً إذا كان أولئك الأبطال من نوعية الملاكم"جيم"الذي يمثّل أهمية إصرار الإنسان على عدم الانهيار أمام صروف الدهر، أو أن يكونوا من نوعية"إدوارد آر. مارّي"الذي احتفى به، وبشجاعته وبصدق ضميره، الصحافي جورج كلوني في شريطه"عمتم مساءً وحظاً سعيداً".