التخبط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه العالم العربي اليوم، هو في جوهره غير مستحب للتبيان أيديولوجياً. ففي أطواره المابعد - كولونيالية ، وعلى رغم تغييرات راديكالية في العالم تمخضت عن اختفاء وظهور كيانات سياسية كثيرة، بقي العالم العربي متأثراً بأقدامه الثابتة في وحل تخلف اجتماعي وثقافي منعزل عن مفاهيم التحول. وقد لا يشكل التحول اليمني الذي هيمن من خلاله الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح على اليمن الجنوبي"الاشتراكي"في بداية تسعينات القرن الماضي، سوى خطوة إلى الوراء، وفيه، انتفت الحاجة للتحول السلمي طالما ابتغى"الرادع العسكري"الإمساك بجميع الوسائل. قبل الحدث اليمني المشروط بالتصدع الداخلي، كان الغزو العراقي للكويت 1990 الذي انتفخت فيه السياسة اثر تضخم المطلق القومي واكتفاء الأيديولوجيا البعثية بالثابت، مناسبة أُخرى لردع احتمالات التغيير. فعلى رغم ان الغزو وشروطه غيّر خطوط بيانية عريضة في السياسة العربية حينئذ، وأحدث إمكانات ارتجالية كثيرة لمراجعة العلاقة بين القومية والدولة، لكن رغبة تذليل الإمكانات الارتجالية ذاتها بين الأنتلجنسيا العربية كانت أقوى. وإذا ذهبنا أبعد من تسمية العروبة، التي أطلقها قوميون عرب على مشروعهم الهادف إلى الوحدة المجردة من التنوع، يمكن وضع"القُدسي"في سياق وضع"ثورة"، اُستحضرت فيه المحاكاة السياسية شرطاً للنجاح. فتأثير حركة"الأتراك الجدد"القومية بعد هيمنتها على الثورة المشروطية في تركيا على رموز العروبة الأوائل كان واضحاً، وأصبحت رغبة تقليد النموذج التركي لدى كل من زكي آرسوزي وساطع الحصري جزءاً من قيم العروبة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال ان العروبة تشكلت في رحم غيرها ولا تملك شروطها الذاتية، وإنما هناك، تكريساً للمحاكاة الثورية ضمناً، بيئات اجتماعية ثقافية مختلفة تحاكي بعضها البعض وفقاً للمقومات البسيكولوجية للانتماء القومي. بيد ان نجاح كل من القوميين الأتراك والعرب في الوصول إلى السلطة، على رغم انحيازهما المختلف للتاريخ، يعد عاملاً مستقدماً على التاريخ نفسه، ذلك ان مقاسات قومية مركزية مستقوية بعَسكَرَةُ حضورها، أصبحت قرينة أي أُفق لتجانس الاختلاف القومي والثقافي. وفي خاتمة المشهد العثماني الصدئ في أوائل العشرينات من القرن الماضي، والتصدّع الذي خلفه ورائه، أصبحت فكرة الاستقواء بجديد غير مولود على أيدي القوميين مشروعاً غارقاً في الرمزية الوطنية، وفيه أيضاً - المشهد - تأسلب نموذج القومية الأوروبية كمدخل للتمارين والمحاكاة. كل ذلك، والقديم الإمبراطوري العثماني الذي،"فضّل عدم التعرض للغات الأُمم التي دخلت في حيازته"بحسب سليمان البستاني 1856-1908، كان يحتضر ولم يمت، وكانت الإشكالية التاريخية بين جديد القوميين وقديم الإمبراطوريين غاية في التعقيد إذا استعرنا تعبير غرامشي لذلك. فالفكر القومي عند العرب والأتراك بهذا المعنى ال"غرامشي"لجدلية القديم والحديث، كان جزءاً من عملية تأصيل العلاقة"السببية"وأزماتها المتكررة نحو نقطة أبعد وهي العلاقة القسرية أو الزواج الكاثوليكي كما هو شائع في اللغة السياسية. لان العلاقة ذاتها، وفي طورها العثماني تميزت بأبعاد أُخرى مما هي كانت عليه في ظل القوميين لاحقاً. يقول سليمان البستاني في مقاله المشهور عن"الدستور والتعصب": وهو معلوم ان سياسة التسامح التي جرت عليها سلاطين آل عثمان، في عدم التعرض للغات الأُمم التي دخلت في حيازتهم، كانت مع كل حسناتها سبباً في بقاء كل هذا الأُمم على غير تلاؤم واندماج. واللغة التركية على كونها لغة الحكام كانت بحكم المجهول في بعض أجزاء السلطنة. والظاهر انهم حاولوا بعض المحاولة تلافي ذلك التباعد إذ يروى عن السلطان سليم الأول انه على اثر فتح مصر ومبايعة المتوكل على الله العباسي له بالخلافة أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية فلم يتسن له ذلك ، فلا ذاعت العربية ولا عمت التركية. فبقيت كل أُمة منفردة بلغتها وليس لها ما يكفي من الإلمام بلغة الدولة الحاكمة. وحيث لا يحصل التفاهم لا يحكم الاندماج والتمازج. وبعد انتصار"الأتراك الجدد"إذ سيطروا على منظمة"الاتحاد والترقي"عام 1908 ولاقى مشروعهم القومي"الطوراني"رواجاً، سارع القوميون العرب إلى طرح بديل واضح لتلك"الفوضى اللغوية"المتنوعة التي كانت ترسم للعثمانية معاني للسياسة والحكم. ولكن البيئات العربية"المشرقية تحديداً"، والتي كانت - ولا تزال - تعاني مشكلات دينية ومذهبية، إضافة إلى ظروفها الاقتصادية والاجتماعية القاهرة، وقفت بعيداً عن الفكر الذي طرحه العروبيون. ذلك انها كانت تحمل من الرمزية الشعبية والدينية"الشفاهية"أكثر من المعاني القومية. فحتى الطبقة المثقفة العربية في الفترة التي سبقت ظهور الحركات القومية المستولِدة لمعاني المحاكاة السياسية، كانت تنقسم بين فئتين دينيتين، احتلت الأُولى مراكز رسمية واضطلع دورها في إيضاح المثل الدينية والمعنوية للمجتمع في كل من الحياة اليومية والمناسبات الاحتفالية باعتباره صوت الجماعة. بينما احتل العلماء المتوسطون مناصب في الجوامع والمدارس الدينية والأضرحة المحلية بعيداً من الموظفين العثمانيين الكبار، وكانوا منهمكين في الوقت ذاته في أداء الشعائر الشعبية. على هذا النحو، تلخصت العلاقة بين القومية المستولَدة من بيئة اجتماعية وثقافية راغبة للإخضاع وبين رغبة محاكاة غيرها، في حمولة رمزية اندرجت في سياقها إمكانات تحول لا متكافئ، ذلك ان أسطرة"مجتمع ذو صوت واحد"أصبحت مشروع الدولة الوحيد. فالواقع الاجتماعي الذي كان يتميز بتنوع ثقافي وطائفي وتمزق تاريخي أيضاً، أُستُبدل بأيديولوجيا منقوعة في القومية الاشتراكية والأصالة العرقية، وتم تغليف الواقع بالتالي وفق استعارات خطابية اعتمدت"الداروينية الاجتماعية"في تأسيس بيئة السلطة السياسية. وفق هذا الانتقاء الفكري الذي أبرزته الحداثة والذي سمي بالداروينية الاجتماعية بعدما تأسس كتيار مستقل بذاته في الأوساط الأوروبية والأميركية، جاءت"العروبة"لتحدث التحول الأقسى في المنطقة وهو تأصيل النزعة القومية ليس سياسياً فقط، بل اجتماعياً وثقافياً. هناك نص في دستور حزب البعث يقول: أقر حزب البعث في المادة الخامسة عشر من دستوره بأن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة امة واحدة, وتكافح جميع العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية. يمكننا القول بأن النص هذا، الذي تنتفي فيه الحاجة للاختلاف، يجمع القوميين والاشتراكيين و"الاجتماعيين الجدد"والإسلاميين على رغم تنوع مشاربهم. ومن هنا يتبين مدى المسافة التي تفصل بين هذا الفكر والواقع المؤسِس لمعضلاته التاريخية والثقافية، لأن هناك حالة ولادة قسرية لحمولة القومية الرمزية، لكن الجنين لم يظهر إلاّ على شكل إنسان بائس ذي بعد واحد"أي ولادة نكوصية. وبما ان البلدان التي أُثقل كاهلها بعبء العروبة الرمزي ، كانت تتميز بالتنوع الثقافي والأتني وبإنشاءات كولونيالية على التاريخ والجغرافيا اتجهت"الحلول البديلة"لتلك الفوضى اللغوية التي تركها العثمانيون نحو التعريب. فبدل اعتماد الأنسنة والانفتاح على الآخر، خصت العروبة لذاتها اصطلاحاً غريباً وهو التعريب أو الانصهار كما جاء في النص الدستوري"الحزبي"المذكور. اقتصر التعريب البديل المتمثل في القومية الرمزية، على الانتماء للأُمة العربية من خلال الإيمان بأيديولوجيا العروبة"أي انه تجسد في البدء في جهاز سياسي ترك مساحة العنف وراءه. لكن التحولات العسكرية التي شهدتها بلدان مثل العراق ومصر وسورية وتجربة الوحدة المصرية - السورية، وفيها الانقلابات، إذ وصل البعث بمقتضاها إلى السلطة في كل من سورية والعراق، أوجدت آليات جديدة لتوسيع مفهوم العروبة وهو استقدام المساحة العنفية تلك إلى واجهة الحياة السياسية. * كاتب كردي مقيم في كندا.