تكشف مجموعة"العاثر أمام النهر"المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت للشاعرة السورية جانسيت علي المقيمة في نيوجيرسي عن معرفة متقدمة بالشعر وتمرس في الكتابة، على رغم أن المجموعة تمثل باكورة انتاجها على حد علمي. لا بد من ايراد هذه الملاحظة اذ يصعب نسب معظم قصائد المجموعة الى شاعرة تنشر للمرة الأولى، حتى ان لم يكن الأمر كذلك فإن ما تكتبه جانسيت علي متخلص ليس من تعثر البدايات وفجاجتها أو ضعفها فحسب، بل هو على سوية عالية من التمكن اللغوي والبنائي والأسلوبي والقاموسي، الى درجة تسمح لهذا التمكن أن يتحول الى فن خالص والى استعراض للقوة واعتداد شخصي بالقدرة على كتابة قصيدة متقنة وخالية من العيوب والشوائب. هذا كله يُحسب ايجاباً على هذه الكتابة طبعاً لولا ان الرغبة في التمكن والاتقان والاعتداد تزيد عن الحد، ويمكن رؤيتها أو تلمسها في معزل من جسم القصيدة نفسها، بل يمكن القول ان هذا الافراط في الاتقان غالباً ما يصير حاجزاً بين القارئ والقصيدة بحيث يصله الاتقان أو التمكن ويفقد التواصل مع القصيدة التي تبدو مبهمة وغائمة وغامضة خلف هذا الحاجز. القصيدة، بكاملها تقريباً، مغطاة بطبقة من مادة الاتقان والمهارة والتمكن، وقد تتفاوت سماكة هذه الطبقة بين قصيرة وأخرى بحسب الجهد المبذول فيها والذي يُجلب من مستودع التمكن والاتقان، وهكذا يصبح متوقعاً أن تزيد سماكة هذه الطبقة على ما يوجد تحتها من حركة للمعاني والصور. وبعض القصائد، يسبب كل هذا، تكتفي بهذه الطبقة السميكة وتتخلى عن المعنى نهائياً أو تقضي عليه وتكتم أنفاسه. الشغل على القصيدة، بهذا المعنى، يصبح أهم من القصيدة، وإبداء المهارة والاتقان يتقدم على مرونة المعنى وتماوجه ووضوحه. ان المراهنة أو وهم المراهنة على عدم ارتكاب أي خطأ في كتابة القصيدة والرغبة في تحشيدها بكل ما هو ممكن شعرياً وبلاغياً قد يسدّ أي منفذ يسمح بتسلل القارئ الى معناها. وهذا ما يسمح للقارئ بالتساؤل عن الهدف الذي يذهب اليه هذا النوع من الكتابة. والواقع أنه تساؤل طبيعي أمام كتابة مغلفة بتباهٍ معرفي ومشاوفة لغوية وبراعة أسلوبية. هذا اذا لم نضف الى ذلك فخامة الجملة الشعرية وأناقة النبرة ورفاهيتها. والأرجح أن هذه الصفات، مجتمعة، تستطيع أن تبعد قصيدة من هذا النوع ليس عن انتباه القارئ، بل هي تخسر هذا القارئ منذ البداية وفي شكل مسبق. كأن القصيدة ليست مكتوبة له، فهي منذ السطر الأول تمحو أي دليل أو اشارة ليبدأ منها القارئ نزهته المفترضة. غالباً ما يتخلف القارئ عن حركة القصيدة ويمكث عاجزاً في اولها باحثاً عن طرف خيط من شأنه أن يقوده في اتجاه بصيص قد يلوح في آخر نفق القصيدة. ويمكننا أن نرى شيئاً من ذلك في قصيدة مجموع الشموع على سبيل المثال:"الحجر له ركب مائية وقلائد/ الأجنة تراسل صحف المساء/ سراج يغمض ألسنة ذكره لترتد الى ليل أليف/ الزمن يعيد ترتيب ولاداته/ النعام على هيئة آباء الليل/ رمال السحرة أقفال من حجب العطر/ الكراسي شواهد في مجمع الشموع/ وتشتعل المصابيح قبل أن تؤمر الأصابع". يتضح في هذه القصيدة كيف ان المهارة في البناء والافراط في استخدام الصور والاستعارات يحول القصيدة الى لعبة أسلوبية مدهشة تسمح بإيهام القارئ بأن معنى مرهشاً يمكث وراءها، بينما هي، على الأرجح، طبقات فوق طبقات من أناقة البناء ورُهاب الاتقان والمهارات. اذ ماذا يعني أن تكون للحجر قلائد بعد أن كانت له رُكب؟ ولماذا تراسل الأجنّة صحف المساء وليس الصباح؟ ومن هم آباء الليل الذين تقلّد النعام هيئتهم؟ ولماذا ولماذا... الخ. ليس لائقاً تحليل أي كتابة شعرية على هذا النحو، ولكن القصيدة التي تكتبها جانسيت علي تقوم على مخاطرة غير محسوبة العواقب، فالعمل على تشذيب القصيدة وتكثيفها والاكثار من التشبيه والصور والتوريات ومباعدة أطراف الاستعارات ونحت المعنى وصقله... كل ذلك قد يوصل الى فقدان القصيدة ومعها المعنى الذي لكثرة ما يصقل ويُعتنى به ويُزخرف تنفد مادته وتضمحل ولا يبقى منها سوى علامات ناقصة وقاصرة ومبهمة تتلاشى وتختفي كلما اقترب القارئ ليعاين إحداها، بمعنى أن هذه الممارسات قد تعمي القارئ بدلاً من ابهاره. من حق أي شاعر أن يكتب ما يريد وبالطريقة التي يريد ولكن نسج علاقة ما أيا تكن هذه العلاقة مع القارئ لا بد أن تكون هدفاً ممزوجاً بمواد هذه الكتابة. قد يكون التجريد هو أحد طموحات كتابة جانسيت علي، وقد يكون هذا التجريد مونولوغاً داخلياً يمتلك كل تلك الصفات التي نظرنا اليها كعوائق في طريق القارئ، وقد يكون ذلك كله من متطلبات كتابة مكتفية بنفسها، ولكن كتابة كهذه قد تدفن تحتها الصوت الخاص والحميم للشاعرة الى درجة تسمح لي بالاعتراف بأنني طوال تصفحي للكتاب لم يكن يعلق ببالي أنني أقرأ لشاعرة أو لشخص يحتاج الى قراءتي أو علاقتي كقارئ معه. وهذا، في ظني، يطرح مشكلة هوية هذا الشعر الذي تصر الشاعرة فيه على تقديم الذكاء والاتقان والأناقة على العفوية والدقة والخشونة، الى درجة تبدو فيها قصائد الكتاب أشبه بأوان كريستالية غاية في المهارة والذوق بحيث يصعب أن تكون صالحة للاستعمال اليومي.