تنحو تجربة الشاعر العراقي هاشم شفيق، وهذا ما يلاحظه القارئ في بعض مجموعاته الشعرية الأخيرة ومنها "ورد الحنّاء"*، إلى امتحان شواغل اللغة والتأليف أكثر من شواغل القصيدة والكتابة، وإلى أسلَبَة هذه اللغة على حساب معظم رصيد القصيدة من المعنى والقول والأسئلة والتجريب وسيولة الكلام وبنائية الجملة وإلى ما هنالك من شؤون القصيدة الراهنة، والتي تُكتَب هنا وهناك إلى جوار تجربة هاشم شفيق نفسه، بصرف النظر عن عمر التجربة أو مجايلتها الزمنية. القصد أن المادة الأولى التي يدفعها الشاعر ويفضّل أن يلمسها القارئ في قصيدته، هي شكل القصيدة ودفقتها اللغوية المصنوعة من افتتان بالحرف والكلمة، ومن لوعة بالجرس والجزالة والنقش، ومن شغف في طَرْق لغة القصيدة في عمل دؤوب ومثابر أشبه بعمل ودأب ومثابرة أصحاب الحرف وجَلَدهم. أولئك الذين يعملون بأدوات صغيرة وهشّة وشفافة، فيبدو على هيئاتهم الإهتمام بالعمل أكثر من العمل نفسه. شغل هاشم شفيق يدنو من مهن الصاغة والمنمنمات والتوريق وسواها من مهن الزخرفة والوشي ذات الدقة العالية التي هي مجهرية أو تكاد أن تكون. والحال، فإن الإيقاع العادي الذي يسم ويطبع قصيدة التفعيلة، وهي القصيدة التي تمرّس هاشم شفيق في كتابتها كثيراً، لا يعود وحده يحفظ شكل قصيدته أو أسولبيتها، بل يضاف اليه كل ما ذكرناه، بحيث تتحول القصيدة، أحياناً، إلى محض إيقاع وإلى زخرفة لغوية خالصة. وهذا ما من شأنه أن يخفّف من وقع الكلمة ويزيد من إيقاعها، وأن يُبْطئ حركة المعنى على حساب حركة الإيقاع، وأن يقلّل من حضور زخم التجربة وسعة المخيّلة في موازاة الإنهماك المستمر باستيهامات اللغة وتدبير بدائلها الأكثر رقة وليونة، والتي يتصوّر الشاعر أنها تتناسب مع دقة عمله الشعري ص35: في القلعة قنديلٌ زيتيٌ ونبيذ قروي وبقايا شمعة تُسفر عن قطعة ظلّ وشرائح ضوء لا ريح هنالك لا أحراس وراء السّور ولا أجناد مدرّعون خلا قنديل زيتيّ يحرسُ وجه ملاك محفور في دمعة لا يعثر القارئ في قصيدة مثل هذه على نتوءات أو نوافل نافرة في جسمها اللغوي الذي يمثّل معظم حضورها كقصيدة. ولا يجد كذلك تعبيراً خشناً يمكن أن ينشأ من الإخلاص العفوي لحركة العبارة وتكويناتها شبه الإلهامية. بالعكس، فهذه القصيدة تقدّم درساً نيرفانياً في الأداء الصافي، انها شيء يصعب لمس معناه في القراءة العادية بسبب الحمولة الزخرفية والثقل الحرفي الذي تنوء به الكلمات والإستعارات، والتي تضخّم المستوى الأدائي في القصيدة على حساب المستويات الداخلية العميقة، تلك التي يستخرج منها القارئ التجربة الصعبة والفريدة للكتابة. إنها قصيدة تقترب من شكل أدائي خالص وهي، إلى ذلك، مصقولة وقصيرة ومضغوطة وتفتقد إلى التجاويف والندوب، أو انها، بحسب هذه الصفات، تستعصي المجال للقراءة كي تحفر وتجول في طريقة تأليفها ونسق كتابتها. قصيدة مثل هذه، يمكن القول، تنتسب إلى صاحبها وتبدو معروضة أمام القارئ أكثر من كونها في حوزته. أي انها مادة كتابة اكثر من ان تكون مادة قراءة ص11: لوحة في الجدار أمامي تباغتني بالمياه التي انفلتت من إطار الخشب عادةً في الصباح أنظّف شكل الإطار لأقصي الطحالب والموج والريح لكنني دائماً حين يأتي المساء أُفاجأ بالبحر مستلقياً فوق هذا الجدار تتعرّض القصيدة، تبعاً لذلك، الى شحنات لغوية زائدة او اضافية، بحيث تبدو هذه الإضافات ضرورية لازمة لإخراج القصيدة بالشكل الذي تكتب به، الى درجة يمكن للقارئ ان يزعم ان البريق الذي تعكسه سطوح هذه القصائد تعوق نفاذ القراءة الى اعماقها. ولذلك فان القارئ وهو يطلع عليها يصعب عليه التكهّن بعصب القصائد ونواتها الخفية. فهي غالباً هناك تحت سطح لامع ومزخرف ومصقول. ما يصل الى القارئ هو، على الأرجح، شغل الشاعر على هذا السطح، أما شغله الأعمق والأكثر سرية فيبقى مبهماً وعصياً على الإستيعاب والقراءة. إن العناية اللغوية الشديدة والمرهفة التي يبديها الشاعر حيال كل كلمة او جملة في قصيدته تجعلها تبدو وكأنها قصيدة يتم تعريبها اثناء كتابتها مع انها مؤلفة من مواد أولية لغوية عربية، ولكن هذه العناية تمنح القارئ إحساساً بأنها معربة اكثر من اللازم معربة من الإعراب وليس من الترجمة. وانها فصيحة تلك الفصاحة التي تأتي من الإتقان والرهافة لا من الرطانة والتصويت العالي والبليغ. بالعكس فقصيدة هاشم شفيق خافتة، وهذه خصيصة شعرية يمكن رصدها من وجهة نظر اخرى ليس هنا مجالها. في هذا السياق يمكن العثور على امثلة كثيرة تدل على تلذّذ الشاعر وافتتانه باختيار وتشذيب الكلمات وبحسب وقعها الإيقاعي والزخرفي الذي يكون ضرورة وزنيّة أحياناً. ولذلك يزداد الوصف والتصوير والإقبال على تخيّل مشهد للقصيدة، حيث تؤدي الكلمات دوراً سينوغرافياً في هندسة بنائها الذي يروح يمتلئ، تدريجياً، برائحة المعنى، تلك التي تصل الى القارئ بصعوبة وسيولة اقل. هذه قراءة في مجموعة هاشم شفيق الأخيرة، وهي، كما هو واضح، تمثّل وجهة نظر تجرّب ان تتابع وترصد تأثير صناعة القصيدة على الهيئة التي وصفناها في تجربة كتابتها. وفي معنى آخر، تأثير العناية الإيقاعية واللغوية والزخرفية في مرونة معنى القصيدة ذاتها. انها وجهة نظر لا تصادر قراءات محتملة اخرى او وجهات نظر مغايرة يمكنها ان ترى سمات مختلفة ومتنوعة في تجربة هاشم شفيق وفي كتابته عموماً. وهي تجربة اكثر حضوراً وتميزاً من الملاحظات التي أوردناها حيال ما يمكن تسميته وعاء القصيدة أو شكلها. وكمثال على ذلك، فإن فرقاً أسلوبياً ولغوياً واسعاً يمكن ان يلاحظه القارئ بين هذه المجموعة وبين مجموعات وقصائد أخرى للشاعر ذاته. * صدرت عن دار المسار، بيروت، 1999.