باستثناء اشارة عابرة الى المستوطنات الاسرائيلية وضرورة وقف توسعها، وازالة العشوائي منها، مع التأكيد، وفق صحيفة"هآرتس"الاسرائيلية، نقلاً عن موظف في الادارة الاميركية، ان هذه المطالبة"ليست موازية"على المستوى الاخلاقي، ولجهة الاهمية، لمطالبة السلطة الفلسطينية ب"محاربة الارهاب"التي تعتبر المفتاح لأي تقدم سياسي، اضافة الى رفع الفيتو عن مشاركة حركة"حماس"في الانتخابات التشريعية المقبلة، لم يسمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في واشنطن أي جديد مهم من الرئيس جورج بوش، يساعده في اقناع الفلسطينيين بجدوى سياسته القائمة على أولوية ووحدانية التفاوض كمنهج واسلوب للتعاطي مع الاحتلال الاسرائيلي، حتى ولو كان هذا الجديد من طبيعة"ميدانية"من نمط المساهمة في وقف بناء الجدار الفاصل الذي بات مقبولاً أميركياً ما دام"أمنياً وغير سياسي"، ووضع حد للحصار المفروض على قطاع غزة، واطلاق الاسرى، ووقف عمليات الاغتيال والاعتقال اليومية، والانسحاب من المدن الفلسطينية، لا بل على العكس من ذلك، فقد ابلغ عباس بإمكان ترحيل مشروع الدولة الفلسطينية الى اجل غير مسمى، وبقرار فرز مبعوث اميركي خاص جديد تكون مهمته، هذه المرة،"مساعدة السلطة"في تفكيك بنى التنظيمات المسلحة. هذه المواقف الاميركية التي تمثل تراجعاً عن سابقاتها، ولا سيما بالنسبة الى موعد اقامة الدولة الفلسطينية، وضمناً، تواصلها الجغرافي بعد الصمت على قرار اسرائيل منع الفلسطينيين من استخدام الطرق الرئيسة في الضفة الغربية، والعودة الى نغمة الوظيفة"الامنية والسياسية"للجدار الفاصل، لم تمنع"أبو مازن"من البحث عن مبررات وذرائع لبوش واعتبار تصريحاته"وقتية ومن دون تخطيط"، وأنه لم يقصد بكلامه المتعلق بعدم واقعية تحديد جدول زمني لاقامة الدولة الفلسطينية، تأجيل العملية الى ما بعد انتهاء ولايته عام 2009، ذلك ان الرئيس الفلسطيني لا يملك، في الواقع، سوى هذه"البضاعة"المستهلكة وخطابها البلاغي الذي ربما يتمكن من اقناع الفلسطينيين بجدوى وأهمية الموافقة الاميركية وفي ما بعد الاسرائيلية على اجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية في الثلث الاخير من كانون الثاني يناير المقبل وضمان مشاركة"حماس"فيها، لا سيما ان سلطته"الوطنية"تعيش أزمة بنيوية مركبة يزيد من تفاقمها شروع اسرائيل، وفق صحيفة"معاريف"، في تنفيذ خطة الفصل الشاملة في الضفة الغربية التي أعدها الجيش قبل شهور للوصول في غضون سنة أو سنتين الى القطيعة التامة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، تحت وابل من عمليات الاغتيال والقتل والاعتقال ومواصلة الحصار، والتمنع عن"مساعدة"السلطة في أي من القضايا الاجرائية التي تم الاتفاق عليها في قمة شرم الشيخ، وكذلك تداعيات تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ومن بعده تقرير المبعوث الدولي تيري رود لارسن الخاص بتنفيذ القرار 1559 على الجوار الاقليمي سورية ولبنان ومحاولة تل أبيب الحصول على مقابل سياسي وأمني ومادي لعدم تدخلها"العلني"في هذا الملف الذي سيعيد صوغ المحيط الاستراتيجي لاسرائيل. ومع أن من الممل اعادة عزف النغمات نفسها الصادرة عن أجندة رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي لم يغادر جوهر طروحاته منذ نهاية الثمانينات، وانما أعاد ترجمتها بطريقة"عصرية"تتناسب والمستجدات الحاصلة، إلا ان الحال يقتضي التشديد على ان هذه الاجندة القائمة على محاولة بلورة اكثرية اسرائيلية تؤيد الانفصال عن الفلسطينيين وفق قاعدة"اكبر كم من السكان على اقل مساحة من الارض"، وتوسيع التعاون مع الولاياتالمتحدة الى حد التماهي مع سياستها في المنطقة للحصول على مكاسب استراتيجية لا يمكن الحصول عليها في الظروف الطبيعية، والهاء الفلسطينيين بالقضايا الفرعية والاجرائية مثل قضية المعابر والانسحاب من المدن والاسرى وسواها، في مقابل تشديد الضغط على السلطة وابتزازها بكل الوسائل الممكنة لتنفيذ التزاماتها الواردة في خطة"خريطة الطريق"التي لم يعد لها من مهمة في اسرائيل سوى ابقاء الصلة والتواصل مع المجتمع الدولي لتفادي ضغوطاته المحتملة وكسب معركة العلاقات العامة، والعمل على منع الوصول الى قضايا الوضع النهائي التي ينبغي ان تتجاوز، في حال بحثها، قضيتي القدس واللاجئين، وفق زعيم"العمل"اليساري شمعون بيريز، هذه الاجندة تجد طريقها الى التحقق على ارض الواقع بأسرع من الصوت تحت ظلال الازمة الداخلية الفلسطينية الخانقة، والسعي العربي الى ارضاء شارون، وتالياً الادارة الاميركية، وتداعيات تقريري ميليس ولارسن، ليس على سورية وحسب، وانما على صورة الجوار الاقليمي بمجمله. في المقابل، تقف السلطة الفلسطينية التي لا ترى فيها اسرائيل سوى"أداة أمنية"مهمتها ضبط ايقاع الفلسطينيين، قوى وفصائل وميليشيات ومنظمات أهلية وسواها من التعبيرات، في شكل يتناسب ومصالحها ورؤيتها لوسائل حل الصراع. تقف هذه السلطة نفسها في موضع لا يتيح لها سوى البحث عن مخارج للمحافظة على الذات بأقل الخسائر الممكنة، ولكن من دون الاخذ بالاسباب الضرورية لأداء هذه المهمة، اذ بدلاً من التوجه الى جوهر الازمة الداخلية المتمثل في الاصلاح السياسي وفتح باب المشاركة السياسية الحقيقية لكل اطياف العمل الوطني الفلسطيني، وفق قواسم سياسية مشتركة افصحت مواقف الفصائل المختلفة، ومنها حركة"حماس"عن امكان الوصول اليها، ما يعبد الطريق في اتجاه"وحدة وطنية"ناجزة تمكن من ازالة الكثير من الاحتقانات الطافية والكامنة تحت السطح، وترفع الغطاء عن منتهكي القانون والفاسدين والمفسدين، وتحجم التدخلات المحلية والمناطقية والعشائرية التي باتت تشكل بديلاً فعلياً للمؤسسات المتهتكة، ما زالت السلطة تحاول القفز عن ذلك كله عبر اعادة انتاج السياسة البهلوانية نفسها التي قادت المنظمة ايام الراحل ياسر عرفات الى اتفاق اوسلو، أي الشروع في مفاوضات سرية في شأن القضايا العالقة ومسائل تتعلق بالتسوية الدائمة، وهو ما رفضته اسرائيل والولاياتالمتحدة، وتجريب بعض الحلول الجزئية المرتجلة كالسعي الى دمج عناصر"كتائب الاقصى"في الاجهزة الامنية للتخفيف من حدة الفلتان الامني. والحال، ان هذه السلطة تجد نفسها اليوم عالقة بين فكي التصعيد الميداني الاسرائيلي المطعم بالضغوط التي وصلت الى حد التهديد بمحاصرة محمود عباس في مقر المقاطعة اذا لم يقم بمحاربة الفصائل المسلحة، والاهمال الدولي من جهة، والتشظي الداخلي المتكئ على رزمة عوامل موضوعية وذاتية، من نمط ارتهان هذه السلطة وصلاحياتها للاتفاقيات الموقعة مع اسرائيل، وازدياد تآكل رصيدها الشرعي نتيجة تعارض نهجها وسياساتها مع طيف واسع من الفصائل الفلسطينية، وتعرض حزبها الرئيسي حركة فتح الى تصدعات وخضات سياسية وتنظيمية واسعة، ما حولها الى طرف في المعادلة الحزبية والفصائلية الداخلية، ناهيك عن تآكل المنظومة القيمية في المجتمع الفلسطيني الذي يفسح في المجال امام كل انواع الفلتان والفساد والرشوة والمحسوبية والانتهازية وما الى ذلك من امراض مجتمعية مزمنة، وفشل النظام السياسي في بناء المؤسسات الفعلية القادرة على تنظيم المجتمع وعلاقات افراده، وغياب مفهوم سيادة القانون عن الثقافة والممارسة السياسية الفلسطينية، من جهة ثانية. المشكلة، في هذا الخضم الذي يحتاج الى تضحيات هائلة وجهد جبار ووسائل وأدوات استثنائية للخروج من متاهة هذه الازمة التي تأخذ منحى تصاعدياً، هي ان معظم اركان السلطة والكثير من الاكاديميين وصناع الرأي، يعوّلون على اجراء الانتخابات التشريعية، التي اجلت ثلاث مرات متتالية، للخروج من هذا النفق كونها ستعيد صوغ الحالة السياسية الفلسطينية ومأسستها، ما يعني، اتوماتيكياً، اعادة النظر، على الاقل في القضايا الممكن التصدي لها ومعالجتها. ولكن من قال ان اجراء الانتخابات في موعدها المقرر مسألة محسومة؟ وهل من المنطقي والمعقول ان يتمكن استحقاق ديموقراطي دستوري مهما علا شأنه وارتفع منسوب المراهنة عليه، من اجتراح المعجزات والقضاء على كل هذه الامراض المستعصية بضربة واحدة من عصاه السحرية؟ ومن يضمن ألا تشكل هذه الانتخابات المأمولة، في حال حدوث اشكالات وتدخلات وعمليات تزوير وما شابه، مدخلاً لمزيد من الاحتقانات الداخلية، وربما الى انفجارات داخلية؟!! كل الاحتمالات واردة. كاتب مصري