تابعت على مدى الأيام القليلة الماضية الأصداء وردود الفعل العربية والاسلامية والأجنبية على وفاة فقيد العرب والمسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز وتولي خادم الحرمين الشريفين الجديد عبدالله بن عبدالعزيز الملك ومبايعته مع ولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز فلفتني فيها الإجماع على آراء ومواقف موحدة وانطباعات حول النقاط التالية: 1 - انصاف الراحل الكبير والإجماع على حجم الخسارة الكبرى في غيابه والاشادة بخصاله الحميدة وشخصيته الآسرة وقيادته الحكيمة ودوره البارز في الداخل والخارج وعلى كل الأصعدة وانجازاته الكبرى التي حققها لوطنه ولأمته العربية والاسلامية وفي خدمة دينه الحنيف وشعبه. ولخص تعليق في ال"سي ان ان"ردود الفعل كلها بالاعتراف بأنه ملك عادل قفز بالمملكة العربية السعودية من دولة صحراوية الى دولة عصرية. ولم تنكر حتى الصحف وأجهزة الاعلام المغرضة التي كانت تهاجم المملكة هذه الحقائق بل اعترفت بانجازات الراحل الكبير رغم محاولتها دس السم في العسل. أما على صعيد العالمين العربي والاسلامي فالاجماع كان شاملاً والحزن كان عاماً على فقدان صاحب الأيادي البيضاء على الجميع حتى قيل فيه انه ما من عمل خير ودعم لقضايا الأمة الا وكانت لفهد في ذلك يد والتفاتة طيبة أو بادرة ما، وما المراكز الاسلامية والاكاديميات ومراكز الدراسات الاسلامية سوى شاهد واحد على عطاءاته الخيرة. 2 - الاجماع على الاعجاب بعملية الانتقال الهادئ والرصين للملك بيسر وسهولة وانتظام وانضباط وتدافع المواطنين لمبايعة ملكهم الجديد وولي العهد بعد انتهاء مراسم وداع الراحل العظيم. وهو ما درجت عليه المملكة منذ وفاة المغفور له الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. فقد تابع العالم كله عبر الفضائيات باحترام بالغ الطريقة التي انتقلت بها السلطة من السلف الى الخلف، مما يؤكد حالة الاستقرار التي تعيشها المملكة والروابط القائمة على المحبة والاحترام والتقدير التي شهدناها عندما رأينا الشعب الذي بكى والده الوفي بالأمس يقف صفاً واحداً ليبايع الملك عبدالله وولي العهد الأمير سلطان على الولاء والطاعة ورفع راية التوحيد في خدمة الوطن ورفعة الأمة العربية والاسلامية وقضاياها ومقدساتها. هذه الاستمرارية أعطت للمملكة عبر تاريخها الحديث صدقية ورسوخاً وتأكيداً على احترام مؤسساتها علماً ان تاريخ حكم آل سعود يمتد الى 300 سنة مضت في الدولتين الاولى والثانية وازدادت رسوخاً في عهد الملك الموحد عبدالعزيز الذي أسس أول وحدة عربية قوية البنيان والاستمرار كما أقام كيان دولة مترامية الأطراف دستورها الاسلام وحكمها يقوم على العدل والشورى. وجاء من بعده الملك سعود الذي تسلم الأمانة بكل رجولة رغم الاعتراف بصعوبة أن يخلف أحد عبدالعزيز حتى ولو كان أحد أبنائه وتبعه الملك فيصل ليكرس قيام دولة المؤسسات وينتقل بالمملكة الى بر الأمان من عواصف عاتية وتهديدات جدية. ورغم ان الفيصل قد اغتيل بيد غادرة في ظروف حرجة وأحدث اغتياله هزة كبرى في الداخل والخارج فإن عملية الانتقال سارت بكل يسر ليتسلم الملك خالد من بعده ويسهم في بناء دولة مزدهرة في عصر الفورة الكبرى، وكان رحمه الله بسيطاً صافياً كسماء الصحراء شامخاً كالجبل هادئاً متواضعاً مؤمناً يخاف الله ويستمد سلوكيته من الأخلاق الاسلامية السمحة. وهي سلوكيات وأخلاقيات اخوانه نفسها، وعلى رأسهم الملك فهد الذي خلفه بالآلية الطبيعية نفسها يحيط به اخوانه وشعبه ويمنحونه الكثير من الحب والاحترام فنجح باقتدار وحنكة وحكمة في تجاوز المحن وانقاذ البلاد من لهيب نيران المنطقة الحارقة وأزماتها المتفجرة ويبني المشاريع المنتجة ويحقق الازدهار وينقل المملكة الى مرحلة التكريس والرسوخ كشجرة مثمرة. 3 - الاجماع العربي والاسلامي والدولي على الاشادة بخصائل الملك عبدالله الذي حمل الأمانة منذ وقت طويل ثم حملها مضاعفة كمسؤولية ورسالة يوم مبايعته نظراً الى ما عرف عنه من مواقف تتسم بالإيمان والحزم والشجاعة والجرأة والتواضع وعفة اليد واللسان ووصفه بأنه زعيم اصلاحي حتى في الاعلام الغربي وتفانيه في الدفاع عن القضايا العربية والاسلامية وجهوده لإحلال السلام في المنطقة ووقف التدخلات الاجنبية وتحرير الأراضي العربية المحتلة وانقاذ المقدسات الاسلامية وتشجيع الحوار والفكر واحترام الرأي الآخر ورعاية الثقافة والأدب والإعلام. هذا الاجماع تمثل ايضاً في الاشادة بولي العهد الأمير سلطان نظراً الى ما عرف عن شخصيته الفذة وما يملكه من قدرات وامكانات وعلاقات وجهود خيرة لخدمة المملكة وتحصينها في وجه الأخطار ورعاية قواتها المسلحة والدفاع عن قضايا أمته العربية والاسلامية بحزم وحنكته السياسية وتعامله الانساني مع كل من يلتقيه وتفانيه في جهود الخير والانفاق على رعاية المحتاجين والمتفوقين وتواضعه وحكمته وصراحته. 4 - الاجماع الدولي والعربي والاسلامي وفي مختلف وسائل الاعلام على ان المملكة دولة مستقرة وتملك استراتيجية واضحة تحافظ على الثوابت وتنطلق من مبادئ تحافظ عليها ولا تتخلى عنها مهما بلغ حد المخاطر والتهديدات. هذه الاستمرارية في التمسك بالثوابت تجلت في شتى المراحل التي عاشتها وتجددت معانيها في انتقال الملك. صحيح أن لكل رجل طريقته واسلوبه في الحياة والتعامل وهذا لا شك أمر صحي طبيعي الا ان العناوين الكبرى تبقى ثابتة مثل التمسك بمبادئ الشريعة السمحة وعدم التخلي عنها وانطلاق السياسات والقوانين على أسسها والدفاع عن القضايا العربية والاسلامية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والقيام بمبادرات دائمة لحل الخلافات العربية والاسلامية ودعم الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة المؤتمر الاسلامي والسياسة النفطية واقامة علاقات قوية متوازنة مع جميع دول العالم من دون أي استثناء على أساس الاحترام المتبادل ورفض أي تدخل في الشؤون الداخلية بالاضافة الى الثوابت الوطنية مثل دعم القوات المسلحة وتوفير كل الامكانات لتمكينها من الدفاع عن الأرض والمقدسات وخدمة الحرمين الشريفين ورعاية ضيوف الرحمن ومتابعة أمور المواطنين في المجالس المفتوحة على الملأ واقامة المشاريع الانتاجية ورعاية حق التعليم والشورى وتكريس الأمن والأمان والرفاهية لكل مواطن. هذه الثوابت كان يؤمن بها الفقيد الكبير ولا شك ان الملك عبدالله سيواصل المسيرة بكل ثقة واقتدار لما لمست فيه من قدرات وإيمان وصراحة وصدق. فخلال عملي الاعلامي على امتداد 40 عاماً تعرفت الى معظم الملوك والأمراء في السعودية وكان لي شرف السبق الاعلامي باجراء أول مقابلة تلفزيونية شاملة مع خادم الحرمين الشريفين لل MBC عام 1992، بعد مقابلة صحيفة"الشرق الأوسط"عام 1985، وقد خصني بها وكرمني عندما قال لي في ختامها وكأنه يتنبأ:"ترى انت حققت سبقاً اعلامياً لم يسبقك اليه أحد ولن يسبقك اليه أحد في المستقبل ان شاء الله". وبالفعل أحدثت المقابلة دوياً هائلاً ونقلتها عشرات الصحف والاذاعات والتلفزيونات العربية والاجنبية بينها ال"بي بي سي"وال"سي ان ان"والتلفزيونات الفرنسية والالمانية، كما أحدثت صدى واسعاً في المملكة بعدما أعلن فيها عن قرب اعلان النظام الأساسي ونظام المناطق ونظام مجلس الشورى، إضافة الى تعرف الناس على جوانب جديدة من شخصيته المحببة وجرأته في الرد عندما استأذنه أو أوجه اليه بعض الأسئلة المحرجة التي نصحني وزير الإعلام السابق الفريق علي الشاعر بعدم طرحها، فرد عليّ قائلاً:"اسأل ما تريد فإن ليس عندي ما أخفيه وكل شيء اقوله في العلن لا في السر... والمسؤول المخلص لا يخاف من السائل". وكان رحمه الله إعلامياً بالفطرة، يعرف متى يتكلم ومتى يصمت ويتابع الأخبار والتعليقات والأحداث بعين ثاقبة ويتصل بالإعلاميين في أحيان كثيرة مباشرة ليدلي برأي أو يخص بخبر أو يصحح واقعة أو يشيد برأي أو لينتقد خطأ ما، فقد كان دقيقاً حاسماً وحازماً وشديداً في أحيان ومتسامحاً ومسامحاً ورؤوفاً في أحيان أخرى. لقد قيل الكثير خلال الأيام الماضية في هذا القائد الكبير الفذ ولن أردد الحديث عن انجازاته الداخلية الكبرى ودعمه لقضية فلسطين وكل قضايا العرب والمسلمين، وخدمته للمشاعر المقدسة ومشاريعه الكبرى في توسعة الحرمين الشريفين ورعاية الحجاج، ومبادراته لحل الأزمات والمشاكل والخلافات وانهاء حرب لبنان وتحرير الكويت وانجازاته التعليمية والزراعية وبناء المؤسسات والنظم الأساسية، فقد سبقني اليها الزملاء والقادة ولكنني أحببت أن أدلي بهذه الشهادة كأمانة من خلال مواكبتي له عن كثب لأكثر من 20 عاماً. فرغم كل ما قيل فيه قبل وفاته وبعدها، أعتقد جازماً أنه لم ينصف في حياته كما انصف في مماته، ولا شك أن التاريخ سينصفه أكثر عندما يسجل مواقفه وأعماله ودوره الكبير في الدفاع عن العرب والمسلمين وقضاياهم وانقاذ المملكة من تهديدات جديدة كادت تعصف بها لولا فضل الله عليه في حزمه وحكمته وقراراته الصائبة وبينها قرار تحرير الكويت. وقد شرح الراحل الكبير في مناسبات عدة ما بذل من جهود لمنع قيام الحرب وانهاء الأزمة بانسحاب القوات العراقية من دون جدوى. فقد حاول الاتصال بالرئيس العراقي السابق صدام حسين لاقناعه بالانسحاب ومنحه ما يريد، لكنه رفض الرد عليه، ووسط الملك حسين والرئيس ياسر عرفات فلم يرد عليهما، ثم وجه اليه نداءات متكررة فسرها بعضهم بأنها جاءت عن ضعف، ولكن من عرف الراحل الكبير كان يؤمن بصدقيته واخلاصه وجهوده لرأب الصدع وحقن الدماء، لكن صدام أبى واستكبر وضربه الغرور. والواقع أن الملك فهد كان حزيناً جداً ومصدوماً من أفعال صدام وجحوده ونكرانه الجميل، فقد كان يكن له كل مودة ولم يقصر يوماً في دعم العراق وتمكينه من الدفاع عن أراضيه خلال حربه مع ايران، لكنه انقلب على المملكة وأساء لمن أحسن اليه، وأوصل جيوشه الى حدود المملكة ليهدد أمنها وكانت خطته، كما أكدها لي رحمه الله، أن يحتل المناطق النفطية السعودية ليساوم عليها ويفرض الأمر الواقع على الجميع. وروى لي أيضاً أنه قبل أيام من غزو الكويت كان، رحمه الله، يخيم في حفر الباطن، فإذا بصدام حسين يهبط فجأة بطائرته ويطلب مقابلته لأمر طارئ وعاجل، فاستقبله بكل مودة ولهفة وكرم الضيافة، فإذا به يعرض عليه توقيع معاهدة حدودية واتفاق عدم اعتداء ويطلب 10 بلايين دولار فوراً لحاجته اليها... فوجئ الملك الراحل بالطلب العجيب، وقال له: والله يا أخي أنا لا اعتدي عليك ولا نوي الاعتداء على أحد، فما بيننا أكبر من المعاهدات، أما الأموال فأنا لا استطيع أن اتخذ بها قراراً لوحدي بل لا بد من التشاور بشأنها والتفكير بالأمر... وعندما غادر الرئيس العراقي غاضباً، فكر ملياً وحذر اخوانه من أن صدام يدبر أمراً كريهاً وأنه ينوي شراً بالمملكة وبالعرب، فقد رأى في عينيه الضرر وكل ما هو مريب. وكان ما كان وأدمت جريمة غزو الكويت قلوب العرب ودمرت حاضرهم وهددت مستقبلهم. وقد قال لي الملك فهد، رحمه الله، عندما التقيته في قمة البحرين الخليجية عام 1995 وسألته عن الأوضاع وكان غاضباً:"أية أوضاع... تصور حال السعودية وحال العرب والمسلمين لولا هذه الجرائم التي ارتكبت بحقنا... عندما تسلمت الملك كان العدو الإسرائيلي يجتاح لبنان صيف عام 1982، فأمضيت 40 يوماً في اتصالات دولية لانقاذ لبنان والمقاومة الفلسطينية... ثم تركت أحداث إيران شرخاً آخر وبعدها وقعت الحرب العراقية - الإيرانية فاستنزفت ثروات العرب والمسلمين وقدراتهم. ثم جاء الغزو العراقي للكويت فكلفنا الغالي والرخيص، ودفعنا ثمناً باهظاً لأخطاء الآخرين وخطاياهم... تصور هذه الثروات لو أنها انفقت على المواطنين وعلى ابناء الأمة لكانت حلت كل مشاكلهم وعم الخير على الجميع". رحم الله الملك فهد، فقد كان زعيماً فذاً وقائداً تاريخياً ولاعباً اساسياً في السياسة العربية والإسلامية والدولية والنفطية وسينصفه التاريخ وينصف اخوانه على كل ما قدموه من أعمال خير لأمتهم ووطنهم. وإذا كانت الاستمرارية تأمنت وأن الثوابت لا خوف عليها، فإن التحديات التي ستواجه الملك عبدالله كبيرة جداً ومتشعبة. لكن من يعرفه يدرك أنه قادر على مواجهتها نظراً الى شعبيته الواسعة هو وولي عهده الأمير سلطان والاجماع على مبايعته والترحيب العربي والإسلامي والدولي بتوليه الملك، إضافة الى خصائله وشجاعته مستحقاً لقب فارس العرب وثقة المواطنين والعائلة المالكة به وبولي العهد والتفافهم حولهما من دون أن نغفل ورقة مهمة يملكها وهي الفائض في عائدات النفط والوفرة في المداخيل التي أنعم الله بها على السعودية. الانتقال سهل، لكن الصعوبات كبيرة، والمطلوب مبادرات على مختلف الأصعدة الداخلية والعربية والدولية لمواجهة ما تتعرض له المنطقة من أخطار، وأولى المبادرات تبدأ من الداخل بمواصلة سيرة الاصلاح والتحديث والتنمية وايجاد فرص العمل وبناء المشاريع المنتجة والمضي في الحوار المفتوح الذي بدأه من أجل الاصلاح ومحاربة الإرهاب ليس بالحل الأمني فحسب، بل بمختلف الوسائل المتاحة وتكرار الدعوة لتلبية نداء الملك عبدالله لعقد مؤتمر دولي جديد لمكافحة الإرهاب والتركيز على دور الإعلام ووقف التحريض على العنف. أما على الصعيد العربي، فهناك القمة الطارئة ووجوب اتخاذ موقف عربي موحد، وهناك استحقاقات الانسحاب الإسرائيلي من غزة وتطورات القضية الفلسطينية وضرورة تفعيل مبادرة السلام العربية مبادرة عبدالله لما فيه خدمة الشعب الفلسطيني ونصرته وهو ما يشدد عليه الملك عبدالله، وتفاعلات الأزمة العراقية ومخاطر اتساعها والتطورات في إيران بعد تسلم الرئيس الجديد نجاد مقاليد السلطة بانتظار تحديد مسارات سياسته المتشددة ومعرفة ما إذا كان سيواصل سياسة الرئيسين رفسنجاني وخاتمي ومبدأ الانفتاح والتعاون والتنسيق الذي كرسه الملك عبدالله عندما كان ولياً للعهد بانتهاج سياسة مكاشفة ومصالحة مع إيران وطي صفحة الماضي البغيض، إضافة الى كيفية التعامل مع الأزمة النووية المتفجرة بين إيران والغرب والتي يتوقع أن تتفاقم قريباً. إنها تحديات كبرى نأمل بأن ينجح الملك عبدالله في مواجهتها والتصدي لها بحكمته وصراحته المعهودة حتى يكمل مسيرة ايصال السعودية الى بر الأمن والأمان والاطمئنان وتعزيز موقفها وقدراتها بوصفها صمام الأمان والسند القوي والأخير المتبقي للعرب والمسلمين في مواجهة التهديدات والأخطار والمطامع. كاتب عربي.