كان ديغول يرى ان مسألة نظام فيشي المتعاون مع الاحتلال الألماني في اثناء الحرب العالمية الثانية ثانوية. فالخصم الأول هو ألمانيا. فهي خصم"حرب الثلاثين عاماً"1914- 1945 على ما كان يقول ديغول. ومنذ تحرير باريس 1944 اوحى بأن مرحلة فيشي طويت من غير ان تخلف أثراً. فتعمد، في خطبه، ابراز دينامية التحرير، على مثال فرنسي عريق هو مثال الشعب المسلح والمتصدي للعدو صفاً واحداً. فمدح تحرير باريس قائلاً:"باريس حررت نفسها بنفسها..."، وهو لم يقل مرة واحدة ان فرنسا حررت نفسها بنفسها. وما رمى إليها من وراء هذا هو محو هزيمة 1940، ووصل ما انقطع من تقليد بطولي بعد مهانة الاحتلال وإذلاله. وإلى هذا، ابرز ديغول ضرورة المصالحة. ودعا الفرنسيين الى الإجماع على قيمهم الأساسية والثابتة، تلك التي لم تنفك حية وقائمة على غرار الجمهورية. وعلى هذا رفض ديغول تجديد اعلان الجمهورية فهي لم تنقطع جراء نظام فيشي، وعلى خلاف زعم النظام هذا. وأما الانقسامات الداخلية، فألقى تبعتها على الحرب. وعلى خلاف بعض تيارات المقاومة الفرنسية، والحزب الشيوعي احد هذه التيارات، لم يضرب ديغول على وتر الثأر. وهو لم يرغب في محاكمة المارشال بيتان رأس نظام فيشي، على رغم مكانة تطهير الإدارة والسياسة الفرنسيتين من المتعاونين، ومحله من سياسة الحكومة الموقتة التي ترأسها ديغول بعد الحرب. فشغله الشاغل هو إرساء شرعية دولة متجددة، قادرة على النهوض بأعباء بناء فرنسا بناء جديداً. فالخروج من الاحتلال الأجنبي، والخروج من نظام فيشي المتعاون مع المحتل، والخروج من الحرب، مسارات ثلاثة متباينة. وتترتب على المسار الواحد منها مخاطر ومخارج متضاربة قد يكون فهمها اليوم علينا ايسر في ضوء"صور انتقال ديموقراطي"قيضت لنا ملاحظتها بأميركا اللاتينية وأوروبا الوسطى والشرقية. ويومها كانت فرنسا منقسمة انقساماً عميقاً، على رغم الفرق الكبير بينها وبين اليونان ويوغوسلافيا حيث ادى الخروج من الحرب الى حروب اهلية متطاولة. ولا ريب في ان مرابطة الجيوش الحليفة على الأراضي الوطنية، والوحدة التي فرضتها الظروف على المقاومة، واختلال الموازنة بين قوة المقاومة وبين هزال القوى الموالية للنازيين في صيف 1944، حالت دون دوام الخلاف الداخلي وإطالته. ... ولكن ذلك لم يمنع من بلوغ عدد المتعاونين الفرنسيين الذين قتلوا انتقاماً، في 1944 و1945، خمسة اضعاف عدد النازيين الألمان الذين اعدموا في مناطق احتلال القوات الحليفة بألمانيا كلها. وبلغ عدد قتلى التطهير"خارج هيئات القضاء"10 آلاف، على رغم ان فرنسا شأن ايطاليا لم تشهد في اثناء الاحتلال الألماني ما شهدته اوروبا الشرقية من اعمال تدمير ومجازر جماعية وجماهيرية قد تسوغ حملات الانتقام العريضة. وأما الانتقال السياسي فجرى من غير حدة او اضطراب قوي. فالحكومة الموقتة جازت إقراراً داخلياً وخارجياً بشرعيتها لم يتأخر. وأما الخروج من الحرب، على خلاف الخروج من الاحتلال ومن النظام المتعاون معه، فتأخر انجازه. فاستسلام ألمانيا، في 8 ايار مايو 1945، هو وثيقة حقوقية، ولم تنجم عنه عودة ناجزة الى حال السلم. والخروج من الحرب هو عملية اجتماعية طويلة تتميز وجوهها بعضها من بعض ولا تستوي على نحو واحد. فتقنين توزيع الغذاء دام الى 1949. وصور الحرب وخيالاتها ظلت تلح على المشاعر والأذهان. ورفدتها الحرب الباردة بروافدها في 1946. وتسريح الأجساد والعقول من تأهب الحرب وعداواتها لم يكن على سوية واحدة في احوال الجنود والمسجونين والمنفيين والمعتقلين السياسيين واليهود الذين لم تقتلهم الإبادة وبقية السكان. ومعظم الفرنسيين كانوا نهباً لقلق العودة الى الحياة العادية واليومية. فكان عليهم احصاء موتاهم، واستقبال عائديهم من المعتقلات والمنافي وإدماجهم في مرافق مناسبة، وبعث لحمة الأسر او من بقي منها على قيد الحياة ووصلهم بعضهم ببعض، وقياس النتائج الفردية او الشخصية للحرب. وقلة عدد القتلى الفرنسيين في الحرب الثانية، قياساً على الأولى 400 ألف الى 1.4 مليون في 1918، لا تقلل من وطأة او ثقل الفروق بين فئاتهم، فثمة فرق كبير بين الجندي القتيل على الجبهة في حزيران يونيو 1940، والمقاوم المتوفى في معتقل بوخينفيلد، والأسرة اليهودية ضحية الغازات القاتلة في معتقل اوشفيتز .... وإلى 1970 غلبت صورة"النصر"الحربية على الاحتفال بختام الحرب. فتقدم الاحتفال، وعرضه العسكري في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1945، المقاتلون، والمقاومون المعتقلون، ومسجونو الحرب. ولف الإغفال والنسيان الضحايا الآخرين وفئاتهم. والاحتفال على هذه الشاكلة تمثيل على الصورة الغالبة عن الحرب الثانية في الذاكرة الفرنسية. فهو قرينة على إرادة إدراج النزاع وخاتمته في الحرب الكبرى الأولى وأمجادها. وهذا أمارة على خروج بعض خصائص الحرب الثانية عن إدراك نظرة الجمهور، او على ضعف التعبير العام والمناسب عنها. ومنذ 1945 تبلورت مرارة بعض فئات الضحايا الذين لم تلحظ صورة الحرب المتداولة وجودهم ودورهم، وهم المدنيون المضطهدون والملاحقون، والمعتقلون السياسيون من غير المقاومين بالسلاح، وقدامى خدمة العمل القسري، وضحايا القصف، والعمال المجندون رغماً عنهم. ويعدون مئات الآلاف، فهم شطر من السكان غير قليل .... وإلى اليوم لا ندرك ربما نتائج الإبادة، وما نجم عن انحياز دولة فرنسية مفترضة قانونية، وتمتع رئيسها بمساندة السكان، الى معسكر النازية والفاشية. فهل يجوز، بعد هذا، المضي على اليقين بأن فرنسا هي وطن حقوق الإنسان؟ والحق ان الصدع الفرنسي، ونظام فيشي جراءه، تعود جذوره السياسية الى ملابسات الهزيمة، من وجه، وإلى طبيعة الحرب العالمية الثانية- وهي حرب بين نظم ايديولوجية - من وجه آخر، وإلى تاريخ فرنسا المديد. فآثرت الدولة والنخب والمجتمع حمل النزاع على المعنى الوطني والتقليدي، وتعجيل المصالحة الداخلية، وعودة فرنسا الى مكانتها الدولية في صف المنتصرين، فلم ينتبه الفرنسيون إلا متأخرين الى ان الحرب العالمية لم تكن حرباً تقليدية بين الأمم. ولم تفهم النازية على حقيقتها إلا في وقت لاحق، على رغم سعة التطهير، واكتشاف معتقلات الإبادة، وتهديد ستالين الشاخص في صورة مقاوم هتلر اوروبا التي"حررتها"قواته. عن هنري روسو مؤرخ فرنسي، ليستوار الفرنسية، عدد خاص 7/2005