لا شيء يعفي اسرائيل من مسؤوليتها عن البؤس المعاش في قطاع غزة حتى لو انسحبت منه. هذا ما تخلص اليه قراءة الوضع الاقتصادي لهذا الجزء من الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 والذي لا تتجاوز مساحته ال 365 كيلومترا مربعا ويسكنه مليون واربعمئة الف شخص. بؤس هؤلاء ليس نتاج الاغلاق والاحتلال واستغلال الارض والمياه من جانب المستوطنين فقط، بل عملية تدمير منهجي للاقتصاد الفلسطيني الداخلي مارسته اسرائيل على مدى السنوات الخمس الماضية في محاولة لتطويع شعب وسلب كرامة اناس يسعون الى توفير لقمة العيش لاطفالهم. وصف قطاع غزة ب"السجن"لا يلامس الحقيقة الا قليلا بحسب المشاهدات التي رصدتها"الحياة"في جولة امتدت من اقصى جنوبه في رفح وحتى شماله بيت حانون. فالجدران والأسيجة والحواجز العسكرية التي اغلقت من خلالها اسرائيل القطاع على من فيه ومنعتهم من العمل في اسواقها رافعة نسبة البطالة فيه الى اكثر من 80 في المئة تعبر عن المشهد الخارجي الذي يطالع الداخل الى غزة من حدودها الشمالية عبر حاجز"ايرز"العسكري الذي يكاد يخلو من اي مواطن غزي باستثناء عشرات العمال المحاصرين في اطار"حلابات"حديد حيث ينتظرون وهم كاشفين البطون في طابور تعليمات تأتيهم من الاثير عبر مكبرات الصوت لتحديد خطواتهم وحركات ايديهم، يصدرها جندي يرصدهم من خلال عدسات الكاميرا. وقد يطول المشهد او يقصر قبل ان يُسمح لهم باجتياز"الحلابات"ليخرجوا منها مباشرة باتجاه باص يحاكي مظاهر البؤس البادية على ركابها المنتظرين ولتقلهم الى"منطقة ايرز الصناعية الاسرائيلية". عدد من العمال، قال ل"الحياة"ان"احد العاملين على الجانب الفلسطيني من الحاجز مات خنقا من شدة تدافع العمال ليكونوا من المحظوظين القلائل الذين تسمح اسرائيل بتشغيلهم في مصانعها داخل حدود القطاع وليس في اسرائيل نفسها". وهناك من الاطفال من اغلقت البوابة الحديد الضخمة على قدمه او يده عن طريق الخطأ. "اسرائيل عودتنا على شيء واحد فقط ... فتحت ابوابها لعمالة رخيصة مستعبدة، وفرت المال لنا ثم قطعته فجأة ... عندما يكون بانتظار العامل 15 او 20 فردا من عائلته للحصول على كسرة خبز ... فالاحساس بالمهانة والذل ترف لا يملكه احد". في الطريق الى قلب غزة، طالعتنا بيت حانون، البلدة الزراعية التي كانت توفر"سلة الخضار والفاكهة"... تحولت اراضيها الزراعية الى صحراء قاحلة بعد ان جرفتها الدبابات والجرافات الاسرائيلية خلال اجتياحات متكررة. هذه الاراضي تشكل الجزء الاكبر من اكثر من 30 الف دونم زراعي جرى تجريفها وتدمير حقولها الزراعية وبساتينها في القطاع على مدى السنوات الاربع الماضية. الاجتياحات والاعتداءات الاسرائيلية على الارض الزراعية كانت البديل للجيش الاسرائيلي عن معاقبة الفلسطينيين من دون ان توقع خسائر في صفوفه، فدخول التجمعات السكنية المكتظة التي قام الاف المسلحين بحمايتها كان بمثابة انتحار لقوات الاحتلال. في الجهة المقابلة، وعلى طول الطريق المؤدي الى جباليا ومخيمها، تستقبل القادم رائحة المجاري"الصرف الصحي"النتنة رغم محاولة التغلب عليها بالتوقف عن التنفس عن طريق الانف."البرك"التي تحسبها لوهلة جزءاً من بحر غزة ، ما هي الا جزء من مخلفات مستوطنات الاحتلال. تحت لهيب الشمس الحارقة والهواء المشبع بالرطوبة القاتلة، تستوقفك مشاهد الاف الاطفال حفاة شبه عراة جوعى تتصلى جباههم كما اقدامهم بنار الرمل الساخن، يلعبون في ظل دمار نحو 6400 منزل جرى تدميرها جزئيا او بالكامل. هذه المنازل، بحسب احصاءات مركز"الميزان"الحقوقي، كانت مأوى ل 58210 أشخاص. باتجاه الحافة الوسطى نحو دير البلح ووسط اللامكان، تظهر الابراج العسكرية الاسرائيلية الكثيرة، او ما يسميه اهل غزة"القلبات". ابراج اصطنعت مناطق صحراوية مقفرة لا وجود لمنازل فلسطينيين كانوا يعيشون فيها ولا مصانع وورش وأبنية كانت توفر لقمة العيش للسكان. هنا حطام شاحنات لمصنع باطون لم يبق منه سوى بعض الانقاض ... وهناك عشرات السيارات المهروسة بفعل الدبابات ... وفي المجمل، هدمت اسرائيل 530 محلاً تجارياً و 27 منشأة وورشة و 54 شاحنة ومركبة. في الموقع الذي يسمى"حاجز ابو هولي"الذي كسب شهرته الكبيرة من كثرة اغلاقه من قبل قوات الاحتلال، تتضح أكثر فأكثر معاني عبارة"تقطيع او تقسيم القطاع". فعلى هذا المفترق تحكمت اسرائيل بشريان اقتصاد قطاع غزة وفصلت شماله عن جنوبه. وباقفاله، تعز حبة البندورة عن اهل غزة، في حين تتلف وتبور في خان يونس ورفح ويخسر المزارعون كل ما استثمروه من مدخرات شحيحة وعرق وتعب ... فلا تصدير ولا يحزنون في أرض محاصرة ومعزولة. حبات الجوافة الصفراء في مواصي خان يونس، تستجدي قطفها واصحابها يجلسون تحت ظلها يضربون كفاً بكف على تعب عامهم الرابع على التوالي. اعضاء"البرلمان الفلسطيني الصغير"الاطفال ... كتبوا على لافتة الترحيب المعلقة على مداخل رفح:"رفح المنسية ترحب بكم". رفح التي هجرها الكثير من سكانها ليس هربا، لكن لان الوصول اليها عبر حاجز"ابو هولي"في المرات التي لا يكون ذلك مستحيلا، يعني بالضرورة عدم الخروج الى اماكن العمل في شمال القطاع او العودة منها . وتبلغ مساحة محافظة رفح 60 كيلومترا، اي ما نسبته 16 في المئة من مساحة القطاع، وخسرت جراء التجريف والتدمير اكثر من 400 دونم من اراضيها الزراعية الخصبة. احد المواطنين هنا قال ل"الحياة":"اسرائيل فشلت في اخضاعنا وتحويل ارضنا الى جزء من مشروعها الاستيطاني، وعندما توصلت الى هذه النتيجة قررت تدميرنا من الداخل وقضت على مواردنا الطبيعية واقفلت اسواقها في وجوهنا. رابين تمنى أن لو يستفيق وغزة تغرق قي البحر، وشارون يسعى الى انهاء انسحابه منها وان يقتتل الفلسطينيون في ما بينهم على كسرة خبز، فيرتاح من سكانها الذين اثبتوا فشل مشروعه الاستعماري".