بعد مناورات دامت بضعة أشهر، فشل خلالها في الحصول على موافقة الكونغرس على تعيين مرشحه جون بولتون مندوباً دائماً للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة، لم يكن أمام الرئيس بوش، في ظل إصراره على التمسك بمرشحه، من مخرج سوى إصدار قرار تعيينه أثناء عطلة الكونغرس. وعلى رغم أن الدستور الأميركي يعطي لرئيس الولاياتالمتحدة هذا الحق، فإن حسن استخدامه يتطلب توافر ظروف قاهرة تقضيها مصالح أميركية عليا لم تتوافر عليها دلائل ملموسة إلا في إدراك الرئيس بوش وحده. ولذلك يرى كثيرون في استخدام الرئيس الأميركي لحقه الدستوري في هذه الحالة تعسفاً واستهانة بسلطة تشريعية اشترط الدستور الأميركي موافقتها على الترشيحات الخاصة بالمناصب العليا. ما يعنينا هنا هو محاولة تقصي أسباب تمسك بوش وإصراره، إلى حد المخاطرة بإغضاب الكونغرس وإثارة حنقه، على تعيين شخص أمضى معظم حياته معادياً للأمم المتحدة ورسالتها، مندوباً دائماً للولايات المتحدة في هذه المنظمة الدولية. وليس لهذا الإصرار، في تقديرنا، سوى معنى واحد وهو أن الرئيس الأميركي مصمم على المُضي قُدماً بعزيمة لا تلين في تنفيذ أجندة المحافظين الجدد. ولذلك فمن المتوقع أن يكون تعيين جون بولتون بداية لمرحلة جديدة في علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة. وكي تتضح لنا طبيعة هذه المرحلة وسماتها علينا أن نضعها في سياق العلاقة التاريخية الأشمل للولايات المتحدة بالتنظيم الدولي عموماً، وبالأممالمتحدة على وجه الخصوص. في تقديرنا أن هذه العلاقة مرّت بعدد من المراحل المتميزة يمكن إجمالها على النحو الآتي: - المرحلة الأولى: يمكن أن نطلق عليها مرحلة التردد والشك، وهي تمتد في ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن المعروف أن الأهوال التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى، والتي كانت الولاياتالمتحدة اضطرت إلى المشاركة فيها خروجاً من حال عزلة كانت فرضتها على نفسها منذ مبدأ مونرو عام 1823، ساعدت على خلق تيار مساند ومطالب بمشاركة الولاياتالمتحدة في التنظيم الدولي. وكان على رأس هذا التيار ويدرو ويلسون الذي تولى بنفسه رئاسة اللجنة المكلفة بصوغ مشروع"عصبة الأمم"في مؤتمر الصلح. غير أن الرأي العام الأميركي لم يكن ناضجاً أو مستعداً بعد لتقبل خطوة بدت كأنها تشكل قطيعة مع تقاليد انعزالية راسخة، ما أدى إلى رفض الكونغرس التصديق على معاهدة الصلح وحال من دون أن تصبح الولاياتالمتحدة عضواً في أول منظمة سياسية دولية كان رئيسها هو أكبر الداعين لها والمشاركين في وضع دستورها. ولا جدال في أن غياب الولاياتالمتحدة كان بين أهم الأسباب التي أدّت إلى إضعاف العصبة وتركها نهباً لصراعات أوروبية ما لبثت أن أفضت إلى حرب عالمية ثانية. ولا تكفي هذه العوامل الذاتية وحدها لتفسير أسباب عزوف الولاياتالمتحدة عن المشاركة في عصبة الأمم. فالواقع أن الظروف الموضوعية المؤهلة لدور قيادي تلعبه على الصعيد العالمي لم تكن اكتملت بعد، إذ كانت القوى الأوروبية التقليدية المتنافسة على قيادة النظام الدولي لا تزال تتمتع بحيوية كبيرة، ما جعل الولاياتالمتحدة تفضل استكمال إحكام سيطرتها المنفردة على نصف الكرة الغربي الأميركيتين قبل أن تتطلع إلى دور عالمي ما لبثت الحرب العالمية الثانية أن وفرت ظروفه الموضوعية والذاتية معاً. على الصعيد المحلي، شهدت سنوات الحرب نشاطاً منسقاً بين الحكومة الأميركية ومؤسسات المجتمع المدني الأميركي لبلورة صيغة لمشاركة أميركية في"الأممالمتحدة"تحظى بإجماع الشعب الأميركي ككل، أسفر عن بلورة الأفكار الرئيسية التي صيغت في شكل مشروع للميثاق تم التفاوض حوله مع كل من الاتحاد السوفياتي وبريطانيا أولا قبل طرحه للنقاش في المؤتمر التأسيسي للمنظمة الدولية الجديدة. وعلى الصعيد الدولي بدا العالم كله حريصاً كل الحرص على ضمان مشاركة الولاياتالمتحدة في المنظمة الجديدة وقدم كل ما في وسعه من وسائل الإغراء والتشجيع لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الموافقة على عقد المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو، واتخاذ مدينة نيويورك مقراً دائماً للأمم المتحدة. ولذلك لم يكن غريباً أن يوافق مجلس الشيوخ الأميركي على ميثاق الأممالمتحدة بغالبية ساحقة هذه المرة 98 صوتًا ضد صوتين، وأن تصبح الولاياتالمتحدة هي أول دولة تصدق على الميثاق. - المرحلة الثانية، والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة المشاركة النشطة والمتحمسة، تمتد منذ قيام الأممالمتحدة وحتى نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي. فعلى رغم توجس الولاياتالمتحدة من المشاركة للمرة الأولى في تاريخها في منظمة دولية مسؤولة عن حفظ السلم والأمن في العالم، إلا أن تلك المشاركة أتاحت لها فرصة فريدة لتحقيق مزايا استراتيجية كبرى عدة: منبر دائم مقيم على أرضها تستطيع أن تتعرف من خلاله على مجمل ودقائق الشؤون الدولية، وشبكة اتصالات وقنوات ديبلوماسية مفتوحة، بأقل كلفة، مع الغالبية الساحقة من دول العالم، في وقت كانت فيه هذه الدولة الكبرى حديثة العهد بالشؤون الدولية تهيئ نفسها لتولي مسؤوليات عالمية كبرى. على صعيد آخر، لم يكن بوسع المنظمة الدولية الوليدة أن تقيد إرادة الولاياتالمتحدة أو تعرقل خططها في شيء وذلك لعوامل تعود إلى طبيعة الأممالمتحدة وبنيتها، من ناحية، وإلى ما تملكه الولاياتالمتحدة من أدوات للضغط والتأثير على سياسات وبرامج هذه المنظمة، من ناحية أخرى. فمجلس الأمن، وهو الفرع الوحيد الذي يملك صلاحية وسلطة إصدار القرار الملزم، لا يستطيع أن يتخذ قراراً ضد رغبتها بسبب حق الفيتو الذي تملكه، والجمعية العامة تتشكل من دول حليفة في معظمها تمكنها من التمتع بغالبية مريحة أتوماتيكية داخلها. يضاف إلى ذلك أن الولاياتالمتحدة، وبسبب ثقلها الاقتصادي الضخم، كانت تسهم وحدها في الموازنة العادية للأمم المتحدة بنسبة تجاوزت 40 في المئة في البداية قبل أن يتم تحديد حد أقصى لنسبة مساهمة أي دولة منفردة بنسبة 25 في المئة. وهو ما مكّنها من ممارسة نفوذ فريد لم يكن بوسع أيّة دولة أخرى أن تمارسه داخل الأممالمتحدة. وهكذا راحت الولاياتالمتحدة تمارس دورها الجديد في السياسة العالمية كقوة عظمى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي مطمئنة إلى أن الأممالمتحدة لا يمكن إلا أن تكون سنداً لسياستها الخارجية من دون حاجة لممارسة ضغوط عليها. تجدر الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة لم تكن في حاجة لاستخدام الفيتو خلال هذه المرحلة، بينما أسرف الاتحاد السوفياتي في استخدامه ليبدو وكأنه القوة المعزولة دولياً والمعرقلة لنشاط الأممالمتحدة ودورها. واستطاعت الولاياتالمتحدة أن تحقق كل ما تريده من الأممالمتحدة خلال معظم هذه المرحلة: قادت الحرب على كوريا الشمالية في بداية الخمسينات بتفويض من الأممالمتحدة، وتبنت مشروع"الاتحاد من أجل السلام"الذي قصد به الالتفاف على الفيتو السوفياتي، ومنعت الصين الشعبية من ممارسة أي دور داخل الأممالمتحدة حتى بداية السبعينات، وأفسحت المجال أمام حكومة تايوان لشغل مقعد الصين في الأممالمتحدة، بما في ذلك مقعدها الدائم في مجلس الأمن! غير أن الرياح ما لبثت أن جاءت بما لا تشتهي السفن الأميركية بعد التزايد التدريجي لأعداد الدول النامية في الجمعية العامة. - المرحلة الثالثة: والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الصدام وتكسير العظام واستمرت حتى بداية التسعينات. وخلالها بدت الأممالمتحدة والمنظمات الدولية المتخصصة المرتبطة بها وكأنها محكومة، في الإدراك الأميركي، بغالبية عددية كاسحة يعبر عنها تحالف موضوعي بين دول العالم الثالث، من ناحية، ودول المعسكر الاشتراكي، من ناحية أخرى. وبالتدريج بدأت الولاياتالمتحدة تضيق ذرعاً بقرارات هذه الغالبية"الأتوماتيكية"، وخصوصاً ما يتعلق منها بإقامة"نظام عالمي جديد"في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. غير أن القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقولون، جاءت مع تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379 الذي يعتبر الصهيونية لوناً من ألوان العنصرية، وكان بداية لحملة أميركية وعالمية منظمة بالغة العنف ضد الأممالمتحدة والمنظمات المتخصصة المرتبطة بها. ووصلت هذه الحملة ذروتها بوصول تيار المحافظين الجدد بقيادة رونالد ريغان إلى السلطة. وشهدت هذه المرحلة محاولات عدة لتكسير العظام تمثلت في انسحاب الولاياتالمتحدة، لفترات قصيرة أو طويلة من عدد من المنظمات المتخصصة منظمة العدل الدولية ثم منظمة اليونسكو والامتناع عن سداد حصصها المالية كاملة في المنظمات التي لا ترضى عنها. غير أن الأمر لم يصل إلى حد الانسحاب من الأممالمتحدة نفسها، إذ أثبتت التطورات السياسية أنه لايزال للأمم المتحدة دور مفيد تلعبه من وجهة النظر الأميركية، خصوصاً بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان. إذ كان بالإمكان الحصول على قرارات بغالبية ساحقة من الجمعية العامة تدين الغزو السوفياتي وتشكل غطاء مشروعا لسياسة دعم المقاومة المسلحة ضد لاحتلال السوفياتي لأفغانستان. - المرحلة الرابعة: والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الاحتواء أو حتى الاختطاف، وتشمل الفترة الممتدة من انهيار المعسكر الاشتراكي وحتى الغزو الأميركي - البريطاني للعراق. ونجحت الولاياتالمتحدة، في بداية هذه المرحلة وعلى ضوء الأزمة المترتبة على الاحتلال العراقي للكويت، في توظيف شعار"النظام العالمي الجديد"كغطاء يسمح بالتظاهر بالعمل على إحياء آلية الأمن الجماعي التي كان الاستقطاب الدولي جمدها. لكنها ما ان حصلت من مجلس الأمن على تفويض باستخدام القوة ضد العراق حتى قامت الولاياتالمتحدة بعملية اختطاف للمجلس لتنفرد هي بإدارة الأزمة العراقية على نحو يمكنها من التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي تمهيداً للانفراد بقيادة النظام الدولي. ومنذ ذلك الحين والولاياتالمتحدة تمارس سياسة منظمة تستهدف احتواء الأممالمتحدة وتطويعها بما يتناسب مع الطموح الأميركي في الانفراد بقيادة النظام الدولي. غير أن وصول بيل كلينتون إلى السلطة ساعد في تبني مفهوم للقيادة لا يقوم على فرض وجهة النظر الأميركية ويفسح مجالا للتشاور، خصوصاً مع الشركاء الأوروبيين. غير أن عودة المحافظين الجدد للسلطة بقيادة بوش أدت، خصوصا في ضوء أحداث 11 أيلول سبتمبر، إلى اعتماد مفهوم الهيمنة المنفردة بديلاً لمفهوم القيادة، ومن دون أي اعتبار للقانون الدولي أو للشرعية الدولية. وحين أصرت الإدارة الأميركية على شن حرب جديدة على العراق من دون مبرر قانوني واضح، لم تتحمل هذه الإدارة أن يهددها أحد باستخدام الفيتو ولم تتردد في شن الحرب رغم أنف مجلس الأمن. وفي سياق الإدارة الأميركية، تُدرَك المؤسسات الدولية باعتبارها عقبة تعوق تنفيذ مخططاتها. ولأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع، وربما لا ترغب أيضاً في إزالة هذه العقبة كلية، فلم يكن هناك بد من العمل على تحويلها، بالعصا والجزرة، لتصبح أداة طيعة تماماً في يدها. ومن هنا قرار تعيين بول وولفويتز رئيساً للبنك الدولي ووضع جزرته في يده، وبولتون مندوباً دائماً في الأممالمتحدة، حتى لو كان ذلك رغم أنف الكونغرس، ليمسك هو بالعصا. بوش يرغب خلال الفترة المتبقية لولايته الثانية في أن يحقق انجازاً ملموساً في ملفات كثيرة: الملف النووي لكل من إيران وكوريا، الصراع العربي - الإسرائيلي، توسيع وإصلاح مجلس الأمن... الخ. غير أن رؤية بوش الأيديولوجية ستدفعه للتساهل نسبياً مع كوريا الشمالية لكنه لن يسمح أبداً بأن تمضي إيران قدماً في تنفيذ برنامجها النووي، وسيعمل بكل جهده على فرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على العالم العربي، وهو ما قد يتطلب عزل سورية ونزع سلاح"حزب الله"، ناهيك عن توجيه ضربة عسكرية للمفاعل النووي الإيراني. لكن الملف العاجل الذي سيكون على بولتون أن يتعامل معه بأكبر قدر من فظاظته المعهودة هو ملف إصلاح الأممالمتحدة بهدف الحيلولة دون التوصل إلى اتفاق عالمي لا ترضى عنه الولاياتالمتحدة. ولذلك ففي اعتقادي أن إفشال المحاولات الرامية للتوصل إلى اتفاق حول أجندة الإصلاح في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المقبل ستكون أولى مهمة بولتون قبل أن يتفرغ للمهمات الساخنة التي تنتظره، خصوصاً في ملف الشرق الأوسط الذي سيشهد حتماً تطورات حاسمة قبل نهاية ولاية بوش الحالية! في هذا السياق تدخل علاقة الولاياتالمتحدةبالأممالمتحدة مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها"مرحلة التأديب"! * كاتب مصري.