لا خرائط واضحة للعقل البشري تحدد تضاريسه وآلياته، وكل ما نعرفه عنه مستمد من التاريخ الذي هو سجل سلوك البشر، أو تعرفنا عليه من قراءة النماذج العظيمة في الأدب والميثولوجيات القديمة، إلى أن جاء فرويد ووضع لنا الكثير من النقاط على القليل من الحروف، ففتح طريقاً جديداً لاكتشاف المزيد عن ذلك العضو المحيِّر... العقل الذي أنتج موتسارت وشكسبير، وأنتج في الوقت نفسه أبو مصعب الزرقاوي. غير أننا عندما نتجول داخل الجهاز النفسي للإنسان فنحن لا نمشي في غابة دامسة الظلام. هناك أماكن كثيرة استطاع علماء التحليل النفسي أن يلقوا عليها بقعاً من الضوء تسمح على الأقل بالتعرف على بعض تفاصيلها، ومنها طاقة العدوان الغريزية في الإنسان، ومتى تنطلق في غياب تام للعقل لتفجر الناس في الأسواق أو في أنفاق القطارات في لندن، عاصمة العقل والحرية. إن مدرسة التحليل والطب النفسي الإنكليزية تتسم بالقوة والوضوح، وعندما نتكلم عنها فلابد من أن نذكر بكل الخير أنطوني ستور الباحث والكاتب والطبيب النفسي المعالج وواحد من أهم تلامذة فرويد ونقاده أيضاً. غير أننا سنلاحظ أن البيروقراطية الإنكليزية ممثلة في رجال السياسة ورجال الأمن في السنوات الطويلة الماضية أبدت قدراً كبيراً من الفقر المعرفي في مجال علم النفس السلوكي مع فقر أشد في فهم خريطة العقل الأولية عند المتطرف. ومع اعترافي لهم بأعلى درجات الكفاءة في عملهم بشكل عام، فهم كانوا أشبه بالرجل صحيح الجسم الذي سمح بدخول الفيروسات جسمه احترامًا لحقها في التجول والتغول بداخله. على المشتغلين بالسياسة وقادة المجتمعات في الغرب أن يأخذوا مدرسة التحليل النفسي على محمل الجد، فلديها إجابات كثيرة عن أسئلة قد تبدو لهم من دون جواب. أطلب منهم ذلك لأنهم عاشوا في بيئات ديموقراطية حرة معقمة امتلأت بالصدق والتهذيب والمباشرة فعجزت عقولهم عن فهم العدوان المراوغ، وهو الركن الأساس في عقل المتطرف الديني. كما أطلب أيضاً من أساتذة الطب النفسي في الغرب ألا يكتفوا بأبحاثهم وعلاج مرضاهم وترك ما لقيصر لقيصر، بل أن يتقدموا الصفوف في هذه الحرب الدائرة بين التطرف والحضارة المعاصرة، لكي يمدونا بالمعرفة اللازمة للانتصار في هذه الحرب. إنني أطلب ذلك من الكتاب منهم فقط، أقصد هؤلاء القادرين على مخاطبة القراء العاديين، فلا شيء يفيد علم النفس عندما يتحول إلى طلاسم. أعرف كم هو أمر ثقيل على النفس أن يقدم كاتب من العالم الثالث النصح إلى ساسة ومفكرين في الغرب، ولكن دعوني أنبهكم إلى ما تعلمته من حضارة الغرب ومفكريه، إضافة بالطبع لسنوات طويلة هي عمري الذي عشته متنقلا من تطرف إلى تطرف. وحتى لا يبدو كلامي طائراً في الهواء بغير دليل مقنع، سأذكر مثالاً واضحاً عما أسميه الفقر المعرفي الشديد عند رجال السياسة في مجال علم النفس. عضو الكونغرس الأميركي عن ولاية كولورادو توم تانكريدو، سُئل في برنامج إذاعي في فلوريدا عما يجب أن تفعله أميركا ردًا على احتمال قيام"الأصوليين الإسلاميين المتطرفين بهجوم عليها"، فأجاب: أحد الردود المحتملة هو تدمير أماكنهم المقدسة، وعندما سأله المذيع: هل يعنى ذلك ضرب مكة بالقنابل؟ فأجاب: نعم... وبعد ذلك وفي مؤتمر صحافي في الكونغرس ردًا على الانتقادات الموجهة إليه رفض الاعتذار، وقال: إنه أمر يصعب التعامل معه، فالأشياء الصعبة تقال، ويجب ألا نتهرب من التعبير عما يجب أن يقال. إنني أقدر كل التقدير حريته في التعبير، وإذا كان الإنسان سيعجز عن قول ما يجب أن يقال في أميركا، فأين يقوله إذاً؟ المشكلة الحقيقية هي في تصوره أن الأماكن المقدسة عند المتطرفين توجد في مكة، وأن تدميرها فيه ردع لهم. هو لا يعرف أن مكة فيها الأماكن المقدسة عند المسلمين وليس عند المتطرفين، هو أيضا لا يعرف - ربما لأن ذلك حدث قبل اهتمامه بالسياسة - أن المتطرفين منذ أكثر من ربع قرن هاجموا الكعبة نفسها واحتلوها وأداروا من داخلها معركة انتهت بخروجهم منها إلى السجون أو القبور، أي أنهم استخدموها كساحة قتال وليس كمكان مقدس. وهو أيضاً لا يعرف أن الحركات الثورية المتطرفة في التاريخ الإسلامي سبق لها ان ضربت الكعبة بالمنجنيق قبل ظهور عصر البارود. لا يوجد عند المتطرف ما هو مقدس. المتطرف يقدس شيئًا واحدًا هو التطرف. والتطرف هو حال عقلية، وكان مفتي المسلمين في استراليا أكثرنا شجاعة عندما صرح بأن المتطرفين الذين ضربوا قطارات لندن هم جماعة من المجانين الذين يجب عزلهم في مصحات عقلية. وعندما يكون السؤال هو: ماذا نفعل إذا استطاعت جماعة متطرفة الحصول على سلاح نووي ضربت به أميركا؟ الواقع أنه سؤال قديم لم يقدم أحد الإجابة عنه بعد، وإذا كان لا بد من إجابة فهي: إذا استطاع المتطرفون أن يفعلوا ذلك بالحضارة المعاصرة فلا بد من أن المنتمين إلى هذه الحضارة يستحقون الفناء لعجزهم عن حماية أنفسهم. الحرب ضد المتطرفين تتطلب ضرب التطرف نفسه وأماكنه المقدسة داخل العقل ذاته، وذلك بمطاردته داخل بيئاته الحاضنة لها. المتطرف كما يقول المصطلح المصري هو شخص"يسوق الهبل على الشيطنة". أي أنه قادر على تغطية شره تحت غطاء من البلاهة المتعمدة، وهي حال معروفة جيدًا عند الفكر الشعبي عبَّر عنها في المثل القائل:"نام لما أذبحك، فقال له... ده شيء يطيَّر النوم". هذا هو بالضبط ما فعله المتطرفون مع الإنكليز. قالوا لهم: أيها السادة. ناموا لكي نذبحكم، غير أن النوم لم يطر من أعينهم بل استولى عليهم النعاس بالفعل إلى أن استيقظوا على التفجيرات الأولى والثانية. عضو الكونغرس أيضاً لا يعرف أن كلماته عن ضرب الأماكن المقدسة لن تسعد أحداً فوق الأرض إلا المتطرفين. الآن فقط هو أعطاهم الذخيرة التي يحشون بها مدافعهم ضد الغرب الوغد الذي يريد ضرب الأماكن الإسلامية المقدسة. الواقع أن التطرف الديني ليس له صلة بالدين كتعليمات، بل كغطاء يتغطى به للتعبير عن رغبته المرضية في تدمير الذات والآخر. وهو إحساس قوي للغاية يشعر به المتطرف إزاء هؤلاء الذين يشعرون بالراحة أو الهدوء أو الفرحة. لذلك ستجد معظم التفجيرات تحدث في أماكن البهجة المفترضة مثل الأماكن السياحية والمنتجعات، وكان أمراً طبيعياً عند المتطرف أن يكون التفجير الأول بعد فرحة الإنكليز العارمة بحصولهم على شرف تنظيم الأولمبياد المقبلة. من الصعب باستخدام المنطق الصوري أن نفهم أن بعض الناس يشعرون بالألم الشديد عندما يجدون شخصاً في حال ارتياح أو فرحة، غير أن الواقع العملي الحافل بآليات التطرف في منطقتنا كثيراً ما ينبهنا إلى ذلك. وإذا كنا نتعرف على الحقيقة فقط من فلتات اللسان والنكتة أيضاً وهو ما يصر عليه فرويد، لذلك لا بأس من إيراد نكتة توضح لك ما أقصده: شخصان حكم عليهما بالإعدام، وفي اللحظات التي تسبق التنفيذ سُئل الأول: ما رغبتك الأخيرة؟ فأجاب: أشوف أمي. وعندما سئل الثاني عن آخر رغباته أجاب وهو ينظر بغّل إلى الشخص الآخر: ألاّ يرى هذا الشخص أمه. المتطرف حتى وهو في طريقه إلى الموت سيشعر بالألم إذا عرف أن شخصاً ما يستمتع بشيء وإن كان رؤية أمه قبل أن يموت. هل تعتقدون أن هذا الشخص سيشعر بارتياح عندما يعيش - أو حتى يولد - بين ملايين البشر السعداء بإنجازاتهم وحريتهم ورفاهيتهم؟ ولي كلمة مع زملائي الكتِّاب: السيد حامد قرضاي في محاضرته الأخيرة في لندن قال عن أصحاب التفجيرات: هؤلاء ليسوا بمسلمين... وهو أيضاً ما يحلو لنا أن نردده دفاعا عن أنفسنا وعن ديننا، غير أن هذا الموقف للأسف يتيح للقتلة الهروب من مسرح الجريمة وإعاقة تعقبهم. وفي ذلك أيضا اتهام لنا بأننا عاجزون عن مواجهة موقف مؤلم لنا، إنه تشخيص خاطئ مريح يسمح فقط باستفحال المرض. الموقف الصحيح هو أن نقول الحد الأدنى الذي نعرفه عنهم وهو أنهم مسلمون متطرفون. وبذلك نتحمل مسؤوليتنا عن كشف تطرفهم ومجالاته وآلياته وخط سيره وكيفية مواجهته. وهو أيضاً ما يجعل مهمة بقية المتطرفين أكثر صعوبة في"سياقة الهبل على الشيطنة"، أو على الأقل يدفعهم للمزيد من السيطرة على شياطينهم. الحديث عن الإرهاب والإرهابيين يعمي أعيننا عن تفاصيل مسرح الجريمة ويهدد بهروب القاتل ليواصل جرائمه في أماكن أخرى. وعلى صفحات هذه الجريدة، قبل حوالي أربعة أعوام وبعد حادث أيلول سبتمبر المشؤوم، استخدمت مصطلح"المتطرف الفعال"، وهو منتج حتمي لحال تطرف شامل وهادئ وقادر على الإفلات من الحساب. فعندما يتقدم مئة متطرف لمنع ابنتك أو زوجتك من قيادة السيارة فهم في الوقت نفسه يقومون على مهل وفي إتقان بصنع متطرف فعال سيلقي زجاجة حارقة على السيارة عندما تسمح القوانين الوضعية للمرأة بقيادتها. أفكار التطرف الشاملة الهادئة تبدو للرائي من بعيد حميدة وغير خطرة بل مطلوبة أحيانا، غير أنها مثل نيران الفرن الهادئة تنضج الطعام على مهل، أقصد تنضج المتطرف الفعال على مهل. كاتب مصري.