صادف اني كنت في فيينا لالقاء محاضرة اخيراً واُتيحت لي الفرصة لزيارة معرض فرويد الذي شاركت في تنظيمه "دار سيغموند فرويد" ومكتبة الكونغرس. ليس هناك من ابناء جيلي من لم يتأثر بقراءة اعمال فرويد الكاملة الرائعة ومعايشتها بالاشكال شتى، لذا كانت المجموعة الكبيرة من المخطوطات والاشياء والصور الفوتوغرافية والافلام التي جمعت في قاعة معرض جوزفسبلاتز بالنسبة الي مذكّراًً يبعث على الاعجاب بسعة الجهود المثابرة التي بذلها على صعيد ما كان في ذلك الحين تأملاً عميقاً منفرداً في النفس البشرية. لكن شيئين على وجه التحديد استأثرا باهتمامي. كان احدهما تسجيلاً لحديث باللغة الانكليزية اجرته هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي" مع فرويد في مرحلة متقدمة من حياته حول عمله، بكل انجازاته وعذاباته. بعد ان يقول فرويد بلكنة قوية ونبرة حازمة أنه كان محظوظاً باصدقائه واتباعه، يختم قائلاً بصرامة "لكن الصراع لم ينته بعد". كان الشيء الثاني هو العدد الكبير من المخطوطات المعروضة، وكل واحدة منها تحمل آثار الجهد اليدوي المضني، إن لم يكن المذهل، الذي كان يبذله فعلاً في انتاج نصوص إبداعية مثل "تفسير الاحلام" و "موسى وديانة الوحدانية" و "مستقبل وهم". ولفتت امينة المعرض انتباهي الى ان مخطوطات فرويد لم تُكتب بخط ممتاز بل كانت كلها تحمل آثار اعادة كتابة وتصحيحات وعبارات شُطبت واعيدت صياغتها. كان هناك مشهد اكثر تأثيراً في النفس، فعلى جانب الصندوق الزجاجي الكبير الذي احتوى الاريكة التي اعتاد مرضاه الاستلقاء عليها خلال جلسات علاجهم، والتي كان فرويد يستخدمها ايضاً كسرير اثناء النهار عندما كان الالم في فكه المصاب بالسرطان يقتضي فترة راحة، استقر لوحده قلم حبر اميركي الصنع لونه اسود يرجع الى اواخر الثلاثينات، حسب ما روت امينة المعرض التي بدت متعجبة. اوضحت لها انني نشأت وسط مثل هذه الاقلام لان بيع القرطاسية ومعدات المكاتب الذي امتهنته عائلتي كان يشمل بالضبط هذا النوع من ادوات الكتابة كما اعتاد والدي ان يسميها. قد يبدو هذا موضوعاً تافهاً بالنسبة الى القارىء، لكنه بالنسبة الي مشبّع بدلالات شتى. فهو لم يكن الاداة الرئيسية لجهد فرويد كعالم فحسب بل كان، الى جانب الورق المرتب بعناية، التعبير المادي الخالص عن ارادته الفكرية. لا اريد ان ابدو عاطفياً على نحو مفرط، لكن القلم والحبر والورق جسدت فعلياً الغاية العلمية، الانسانية ايضاً لفرويد، إذ ابلغ ذات مرة صديقه لودفيغ بينسوانغر انها تتمثل بالتنقيب في الطابق السفلي للحياة البشرية لا الطوابق العليا للصرح. كان هناك على نحو مماثل معيار مادي ملموس لعمل فرويد ترمز اليه فكرة العمل، والجهد الكتابي الصرف المتواصل وتجسيده المادي، والغياب التام لأي نوع من العون الالكتروني او حتى الكهربائي كما وجد تعبيره في القلم المستلقي بتواضع الذي ملأ بمداده الصفحات بطريقة بدت خشنة وغير منظمة. لم يكن القلم وحده الذي عُرض كتذكار من نوع ما، فهكذا ايضاً كانت المخطوطات ذاتها تؤرخ العصر كله الذي بدا ان اوراق فرويد وقلمه يمثلانه بشكل رثائي الى هذا الحد، عصر النص المنتج يدوياً، وبصورة بطولية، الذي كان واحداً من آخر ممثليه على مثل هذا المستوى الرائع مؤسس طريقة التحليل النفسي ذاته. واود هنا التذكير بأن صفحات كثيرة وعدداً وفيراً من المقالات والكتب اثار اخيراً تدهور معرفة القراءة والكتابة وموت الادب مؤكداً الحاجة للعودة الى قواعد الثقافة الكلاسيكية. فمهنتنا تمزقها اليوم الهوة التي تفصل انصار كل ما يعتبر جديداً وتقدمياً عن اولئك الذين يشعرون بأنه جرى التخلي عن النص الادبي وكتّابنا العظام والقواعد المقررة وانماط البحث التقليدية واستبدالها بالرطانة واستعمال الكلمات التي تتنافى والفصاحة. لكن احد الافكار التي لم يجرِ التركيز عليها ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين هي استبدال نموذج للكتابة اقدم وابطأ، كما تجلى في نظام الكتب حسب تعبير روجر شارتيه، بانماط الاتصالات الاحدث والاسرع بكثير التي تكاد تكون معروفة للجميع في الوقت الحاضر، اي بالطريقة الالكترونية التي جعلت الكتابة اسهل واكفأ وفي المتناول الى حد اكبر بكثير، فضلاً عن امكان التخلص منها. الغى معالج الكلمات الازعاج الناجم عن كتابة مسودات باليد ثم اعادة كتابتها او طبعها او وتصحيحها حتى يتم انجاز نسخة نهائية. ويتجلى هذا بشكل مثير في تأثيره على ما يكتبه الطلبة. فبينما كان الاستاذ يلتمس من طلبته تقديم تقارير فصلية تقع في 8 الى 10 صفحات، اصبح في الوقت الحاضر مضطراً الى التأكيد بمنتهى الحزم عدم استعداده لقراءة اي شيء يزيد على 15 صفحة. فطريقة الكتابة التي يستخدمها الطلبة، واعضاء الهيئات التدريسية ايضاً، بما توفره من سرعة في قدرات التحرير والنسخ والتعديل واللصق، ادت الى ضعف بنيوي ملحوظ ونفش غير جذاب. واصبح في امكان المرء ان يكتب باستخدام لوحة مفاتيح من دون ان يبذل جهداً سوى ما يتطلبه الضغط على مفاتيح وازرار لمعالجة النصوص. فيمكن حفظ النص وتعديله وتحوير ودمج اعداد هائلة من الكلمات من دون جهد او كدح على ما يظهر. واخذت الصحافة المنحى ذاته مع تماثل في الاسلوب الغى تقريباً خصوصية الكتابة باليد وما تمتاز به من تأمل عميق لا يربطه المرء بشكل رمزي وفعلي ايضاً باسلوب فرويد ككاتب فحسب بل بشخصيات ادبية عظيمة معاصرة له مثل بروست ومان وفيرجينيا وولف وباوند وجويس وطه حسين ونجيب محفوظ ومعظم العمالقة الحداثيين. كان ما استطاعت الكتابة باليد ان تنقله هو احساس قوي بالتغلب بشكل جسدي تقريباً لا على مقاومة الصمت وحده بل على فراغ الصفحة ايضاً وتلك العقبات المادية التي يمثلها الورق والحبر والقلم. لا ينبغي للمرء ان يبالغ في انواع المقاومة هذه، لكنها تتقاسم شيئاً ما مع حاجة النحات الى ان ينحت الاعمال الفنية من الخشب او الحجر، او اتكال الرسام على مواد كالاصباغ وقطعة القماش والفرشاة، اذ يعطي كل منها ملمساً مميزاً ومظهراً وخاصية تنطوي، مثل الورق والحبر لدى الكاتب، على تناقض ظاهري يعيق ولكن يمكّن ايضاً من انتاج نص او لوحة او تمثال. تحل هذا العام الذكرى ال 250 لوفاة يوهان سباستيان باخ، الذي يعد احد الجبابرة بين الموسيقيين نظراً للمثل الابداعي المذهل الذي ضربه من خلال براعته الرائعة في ان يعرض بجد ومثابرة اكثر من اي شخص خفايا فن مزج الالحان، الذي بلغ ذروته فيه، وكذلك بسبب تبجيله لاساتذة الموسيقى السابقين. ويُحكى عن باخ انه عندما حجب احد اشقائه الاكبر سناً عنه مقطوعات موسيقية على الأرغن، امضى ساعات طويلة من الليل ينسخ سراً باليد موسيقى باشيلبل وفروبرغر. وهو عمل ينطوي على تبجيل وفي الوقت ذاته على تعبير بطولي عن الموقف بالكتابة لم يعد له مكان في الوقت الحاضر، اذ يمكن القيام بمسح الكتروني واستنساخ وبث نصوص موسيقية وصور فوتوغرافية ورسومات معقدة بمجرد الكبس على زر. او هناك الكاتب الاندونيسي المعاصر انانتا تور براموديا، الذي فرضت عليه الاقامة الجبرية في منزله لسنوات طويلة من جانب نظام مستبد دعمته الولاياتالمتحدة، وتمكن على رغم ذلك من ان يكتب باليد روايته الشهيرة "ارض الانسان". ليس مصادفة اطلاقاً انه بمقدار ما يتعلق الامر بالكتابة باليد كانت الفيلولوجيا هي فرع المعرفة الذي ارتبط بقراءة وتفسير الكتب والنصوص التي سلمت عبر الانتقال من العصور القديمة الى العصر الحديث. والفيلولوجيا في أسمى صورها كعلم يتصف بالبطولة والمغامرة استندت الى الكتب، بالاضافة الى شكل خاص من العمل الفكري الذي عبّر فيها عما عُرف في التقاليد الاوروبية وغير الاوروبية بالانسانية. وألفت هنا استطراداً الى ان الكثير من مواقف الغطرسة التي اعتبرها منفرة الى ابعد حد في ما كيل من مديح لمدرسة الانسانية من جاكوب بركهاردت الى بول كريستلر، الى ألان بلوم واتباعه، استند على جهل مكابر وعميق على نحو معيب بشأن مدارس اخرى توصلت الى الكثير من المواقف والممارسات التي تُربط بشخصيات مثل فيشينو ومونتيني وايرازموس قبل ان يتوصل اليها الاوروبيون بوقت طويل. وينطبق هذا بشكل خاص على المدارس الاسلامية، بالاضافة الى الانسانيين الهنود والصينيين الذين كانوا يمارسون ما نعتبره بشكل غريب نوعاً ما اشياء "غربية" قبل ان يصبح الغرب قادراً على الالمام بها او القيام بها بوقت طويل. وكشف بحث مهم اجراه زميلي في جامعة كولومبيا جورج صليبا عبر ادلة مقنعة جداً انه في العلوم الجافة الفلك والرياضيات والفيزياء، وغيرها اعتمدت شخصية ثورية مهيبة تماماً مثل كوبرنيكوس على علماء سابقين غير اوروبيين لتحقيق انجازها الكبير. المسألة التي احاول ان الفت اليها هي ان ممارسة الكتابة التي تنطوي على جهد مركز، والتي يبدو انها تبلغ ذروتها لدى الكتاب الانسانيين الاوروبيين والاميركيين المحدَثين الذين ذكرت، لها تاريخ طويل ومتنوع جغرافياً وثقافياً. واذا اخذنا في الاعتبار انعدام الوسائل الآلية او الالكترونية المتاحة للعلماء والكتاب والمفكرين البارزين قبل عصرنا الالكتروني، فإن ممارسة الكتابة فرضت نظاماً بطولياً من الانضباط والعمل لم يعد له مثيل. وكان نظام العمل هذا، على نحو ما كان يفعل فرويد، جزءاً من مشروع جماعي يمثل فيه الفرد ذو الميول الانسانية جزءاً من جماعة عالمية تضم افراداً ذوي ميول متماثلة بسبب التزامهم الاهداف ذاتها المتمثلة بالعمل والانتاج والتفسير ذي النزعة الانسانية. خلف هذا المشروع الجماعي يكمن ما أود العودة اليه الآن، أي المثال البطولي الذي اعطى تلك الانجازات معناها في ذلك الوقت: مثال الانسان الذي يجلس منفرداً وسط صخب الحياة اليومية وفوضاها، في يده القلم وأمامه الكتاب، مستغرقاً في محاولته استجلاء المعنى. هل من المبالغة القول ان فقد هذا المثال هو السبب في وضعنا الحالي، نحن الباحثين والمعلمين في مجال الأدب، بالخلافات العميقة التي تفصل بيننا، وحقول البحث الجديدة المركبة الأسماء والغامضة التحديد، التي لا تختص في حالات كثيرة بالألسنيات أو التحليل النفسي أو الأنثروبولوجيا أو التاريخ أوالاجتماع أو الفلسفة، بل تحوي نتفاً من كل هذه الحقول التي تطغى على ما كان في المجال العلمي من صفاء اذا كان يسوده الصفاء أصلاً!، برطاناتها الجديدة المتضاربة التي تلقى من النقاد التقليديين الاستنكار واللا فهم؟ الانسانية، لدى كل الشخصيات التي ذكرت، هي في واقعها نمط من التحقيق العقلاني والتفسير المتعين النابع من حاجة تكاد ان تكون جسدية وتصميم عميق على المخاطرة، وهو ما حاولت التعبير عنه من خلال صورة فرويد وقلمه وحبره وأوراقه التي استعنت بها اعلاه. لا أقصد بهذا دعوة بدائية لرفض الوسائل الالكترونية رهن ايدينا رغم ان عليّ ان اعترف بأنني لا ازال من اصحاب القلم واكتب كل مقالاتي وابحاثي يدوياً، كما لا أريد اضفاء هالة رومنسية على الأزمنة الماضية واغراقها بالثناء. بل أهدف الى الاشارة الى شيء آخر وهو أن الممارسة كما فهمها الباحثون والمفكرون الذين ذكرت، في مجالات العلوم الانسانية مثل التاريخ والثقافة والفن وعلم النفس، تنطوي دوماً على رفض بطولي للتوقف عند حد توطيد النتائج المتوصل اليها سابقاً. لأن كلاً من النصوص الصعبة الولادة التي وصفتها بأنها سابقة على عصرنا، عصر الانتاج واعادة الانتاج الالكتروني مع اشتمالها على بعض أوجه ذلك العصر يرمز، كما اعتقد، الى مثال بطولي يطمح الى المغامرة الى ما هو أبعد، الى اقلاق واعادة اكتشاف ذلك المخفي أو المنسي تحت ما اسماه فرويد الطوابق العليا لبيت الوجود الانساني. وهكذا فإن النظرة الانسانية تدور على الكشف، انها قوة، انها اغراق الذات في المادة التاريخية، انها استنقاذ العنصر العقلاني من الواقع الحياتي المتضارب، ثم اخضاع ذلك الواقع بدقة الى عمليتي الانتقاد والحكم العقلانيتين. هناك، اذن، أهمية كبيرة الآن، اذ نودع القرن العشرين، لاستعادة صورة او مثال البطولة والهيبة للجهد في المشروع الانساني، ذلك الجهد الذي كاد ان يختفي في السنين الأخيرة من دون ان ندري. ان النقاش في ما يجب ان يكون عليه التعليم والبحث والتخاطب في مجال الآداب يلغي جانب الالتزام والفعل الانساني، وهو ما رمز اليه بالنسبة الي قلم فرويد وتقاريره المكتوبة بحرص وعناية. اضافة الى ذلك فإن المثال البطولي في العلوم الانسانية لا يشكل موقفاً محافظاً يكتفي بتوثيق ما تم التوصل اليه سابقاً والتعبير عنه، مقدماً الاحترام والود الى المرجعيات المتعارف عليها. كما انه بالتأكيد لا يدور على اكتساب التقدير للذات والرضا عنها. لأن جوهر النزعة المعرفية الانسانية، حتى اثناء محاولتها دراسة الماضي باقصى ما يمكن من التفهم، هو المحافظة على موقف المقاومة والنقد - مثلما نجد في ايمان فرويد العنيد بأن الصراع لم ينتهِ بعد، بل انه لن ينتهي أبداً. أو، حسب تيودور ادورنو، ان "المفكر الانتقادي الذي لا يلين، والذي لا يجّير ضميره لأحد ولا يدع شيئاً يرهبه الى حد الاندفاع الى العمل، هو حقيقةً الشخص الذي لا يستسلم. التفكير ليس اعادة انتاج ما هو موجود في أية حال. وللتفكير، اذا لم ينقطع، ادامة قبضته على حيز الامكان. انه يرفض تلك الحكمة الحمقاء التى تسمى الاستسلام لأنه يتسم بنهم دائم وكره للاشباع السهل السريع. ان اللحظة الطوباوية في التفكير يمكن ان نضيف، "البطولية" تكون أقوى كلما قل ميلها - وهو أيضا نوع من النكوص - الى تحقيق طوباويتها، وبالتالي اضعاف امكان التحقيق الفعلي لتلك الطوباوية. التفكير المفتوح يشير دوماً الى ما هو أبعد منه". "نماذج نقدية"، 293. ويمكننا ان نضيف الى هذه الملاحظة قول الفيلسوف العظيم ليو سبتزر "يؤمن حامل النزعة الانسانية بالقوة المعطاة لعقل الانسان للبحث في عقل الانسان". "الألسنيات"، 24. كما اعتقد ان الراحل اسحق دويتشر كان على حق عندما أرجع مشاعر التحدي الفكري والجرأة هذه الى تقليد لا يشمل فرويد فحسب بل يرتبط أيضاً بسبينوزا وماركس وهاينه، التقليد الذي يمكن تسميته "اليهودي اللا يهودي"، أو، اذا اردنا التوسع عبر اليهودية، الى تقليد فكري علماني يرى في النقد الشجاع الصريح طريقاً الى الحرية الانسانية. بل ربما يمكننا الذهاب، مهما كانت المفارقة، الى حد تصور حامل لا انساني للنزعة الانسانية، أي شخص يتجنب في الوقت نفسه موقف الخشوع امام الماضي وأيضاً التنميق الممل والعديم المعنى. بل ربما أمكننا توسيع مقولة دويتشر أكثر لكي تشمل خياراً حقيقياً أمام الباحث الانساني الحديث مطلع القرن الواحد والعشرين، الذي يواجه تغيرات بالغة العمق في ظروف الممارسة، ولم تعد مفاهيم مثل التقاليد والطائفة والاثنية والدين كافية او مفيدة بالنسبة له لفهم تاريخ الانسان. ويا لتعقيد المشهد أمامنا الآن. ذلك ان الأشخاص بيننا الذين نشأوا فكرياً في الولاياتالمتحدة في أطار الحرب الباردة هم الآن مواطنو الدولة العظمى الوحيدة الباقية، القادرة على التدخل في انحاء العالم. وهي تستعمل تلك القدرة في حالات كثيرة لاشاعة الدمار والممارسات اللا انسانية، مثل حملة الابادة على الشعب العراقي المتمثلة بسياسة العقوبات. لكننا في الوقت نفسه لم نعد ازاء عالم خاضع لمبدأ "مركزية أوروبا"، اذ تعود الى الضوء اليوم آداب وحضارات كثيرة طمسها سابقاً ظلام الكولونيالية، وها هي تقف اليوم لتتحدى ثقافتنا. ويطرح هذا خياراً ارتدادياً تعبر عنه مقولة "صراع الحضارات"، مقابل الخيار الأفضل كما أرى، وهو توسيع مفهومنا لتاريخ الانسانية ليشمل كل تلك الحضارات. لقد حرصت علوم الامبريالية في ارادتها للسيطرة على تكوين صورة لا انسانية، بل شيطانية، للآخرين. ولكن ليس لحضارة ما ان تقوم وتستمر طويلاً اذا اقتصرت علاقاتها مع الحضارات الأخرى على مهاجمة تلك الحضارات. ان كل حضارة عظيمة، مهما كانت طروحاتها على المستوى الدعائي التبريري، تتكوّن من خلال علاقات لا نهاية لها مع الآخرين. تقوم اليوم ظاهرة العولمة وتفرض مفهوم السوق العالمية الواحدة، التي تنتج تفاوتات جديدة في مستويات الثروة والتوقعات وانتشار البضائع - وهو ما يبدو كأنه يشكل دحضاً لفكرة النمو الانساني ويثير انماطاً متشابكة جديدة من الصراع ضد الظلم. لكن لحسن الحظ فإن البحث عن البدائل قد انطلق بالفعل، كما نجد مثلاً في الأعمال الرائدة من أمارتيا سين. وكان سي. بي. سنو قدم قبل نحو أربعة عقود نظريته عن "الثقافتين"، وها هي تعود الى الحياة الآن بمعنى مختلف: فهناك من جهة اللجوء الى الأصولية الدينية والاثنية العدوانية والعسكرة المنفلتة ليس أقلاً في الشرق الأوسط وسائر القناعات الوحشية المتولدة من هذه. بالمقابل هناك الفرص الكبرى التي يعرضها الوضع الجديد لاحياء النزعة الانسانية ودفعها الى اعمق معانيها: أي العودة الى الالتزام المعرفي بالانسان، والنظرة النقدية الضرورية للحرية. باختصار، ينفتح أمامنا الآن مشهد جديد بأوجه كثيرة لم نألفها من قبل، ويقدم فرصة لا متناهية لاطلاق طاقاتنا الفكرية بتلك البطولة والمخاطرة الذاتية التي وسمت سابقاً ولمراحل طويلة أفضل الاعمال في حيز العلوم الانسانية. ولا بد ان يكون أملنا مزاوجة ثراء الماضي مع الشكوك والتساؤلات المثيرة التي يطرحها الحاضر. لكن علينا ان لا نكتفي بالأمل، بل ان ننطلق نحو الممارسة. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.