أجمل الرحلات هي تلك التي لا أغادر فيها مكاني. أصعد إلى قمم الجبال وأشق طريقي في الصحارى والغابات وأطير عابرا المحيطات ثم أسافر برا إلى حيث أشاء بغير عائق. هي سفرات لا تحدث بالمعنى الواقعي، غير أنني لا أعترف بأن الواقع نفسه واقعيا، بل أزعم أن الخيال أكثر منه واقعية لأنه أشد قربا من الحقيقة. رحلتي الأخيرة إلى لندن كان الهدف منها هو مقابلة بعض علماء النفس الإنكليز لمساعدتي في إلقاء مزيد من الضوء، عبر مدرسة التحليل النفسي، على المصطلح الشعبي المصري الشهير"يسوق الهبل على الشيطنة"كمدخل إلى فهم عقلية المتطرف المحرض على الإرهاب. بمعنى أدق كنت أبحث عن الترجمة العلمية لهذا المصطلح الذي يلخص في دقة مذهلة آليات التفكير عند المتطرف المحرض. علما بأن ثقتي في المصطلح الشعبي والمثل الشعبي لا حد لها، بوصفهما من إنتاج اللاوعي الجمعي للبشر وهو قطعا لا يعرف الزيف. ولما كانت طبيعة بحثي تتطلب التعريف من خلال لغة الكتابة والقراءة، كان تعريفي لهذا المصطلح، مع اعترافي مقدما بأنه مجرد اجتهاد، يتلخص في"الرغبة القوية في العدوان على الآخرين مع القدرة على ممارسته تحت غطاء من ادعاء الجهل بعواقب هذا العدوان"، وهو ما يسمى في العامية المصرية"الاستهبال". وأريدك أن تلاحظ أن العامية في كل اللغات صادقة تمام الصدق، بمعنى أنها تلبي احتياجاً حقيقياً عند العقل لوصف فعل لم تغطه الفصحى في فترة تاريخية معينة. المصطلح يصف بشكل عام الشخصية السيكوباتية والسيكو - اجتماعية، أي أنه يصف الشخص المصاب بخلل نفسي، إضافة إلى إصابته بالخلل في علاقته بالمجتمع. غير أنني وجدت أن هذا التعريف ينطبق على المجرم التقليدي بوجه عام، أقصد ذلك النوع من البشر الذي ينتهك القانون ويقبض عليه ثم يحاكم ويدخل السجن. غير أنه بالقطع -"لا يسوق الهبل على الشيطنة"- بل ينهار ويعترف عند مواجهته بالأدلة الدامغة على حد قول محرري صفحة الحوادث. ويكون عزاؤه في هذه الحال هو أن"السجن للجدعان"وهو بالفعل الإحساس الذي يحفظ توازنه النفسي. لكنه في كل الأحوال لا يزعم أن جريمته قانونية، أي لا يتصنع البلاهة، وحتى عندما يتصنع الجنون فهو يعرف مقدما أن هناك من سيكشف ادعاءه. وبذلك تحتل شخصية المتطرف المحرض، على رغم انتمائها النوعي للسيكوباتية، درجة عليا ومختلفة تتطلب إفراد خانة خاصة بها. ولما كان لابد من نموذج قابل للدراسة، اخترت السيد عمر بكري بوصفه واحدا من أهم النماذج التي"ساقت الهبل على الشيطنة". بيد أنني فوجئت به غادر لندن إلى بيروت التي دخلها بجواز سفر لبناني, بعدما اتضح أخيراً أنه سوري بريطاني لبناني، كما اتضح أنه"سيختفي لشهر تقريباً إلى أن تهدأ الأمور في إنكلترا"، بحسب تصريح مساعده المحامي للإذاعة البريطانية. ومع يقيني بأن الأمور في إنكلترا لن تهدأ بالمعنى الذي يقصده ولا بعد خمسين عاماً إلا أنني لا أستبعد أن يعود إلى لندن في وقت قريب. أهم ما يتسم به الشخص السيكوباتي - بعيدا عن السيد عمر بكري - هو قدرته الفائقة على البقاء، فهو يجري حساباته بطريقة شاملة، وقادر على التعامل مع كل الاحتمالات، وقادر أيضاً على إقامة الخطوط الدفاعية وإقامة الاستحكامات وعقد الصلات التي تكفل له الإفلات عند الخطر. هذا الرجل حرض المسلمين ضد الإنكليز، وأحرق علمهم وهو واثق سلفا أن القانون الإنكليزي لا يجرم ذلك لأنه يضعه في خانة حرية التعبير. هذا الرجل قام بتشويه سمعة الإسلام والمسلمين عندما أعلن عن فرحته علنا بتفجيرات مدريد. كما أعلن بعد خروجه من لندن أنه لن يقوم بإبلاغ الشرطة الإنكليزية عن أي جماعة تخطط للعدوان على الشعب الإنكليزي إذا علم بذلك وأنا لا أصدقه، فالمتطرف المحرض في موقع الزعامة على استعداد للتضحية بالمسلمين جميعا طلبا للإفلات بجلده. لا بد من الاعتراف بأن رجال المباحث في بريطانيا أكثر ذكاء مما كنا نظن. ضيع الرجل عليّ فرصة البحث العلمي فقررت العودة إلى القاهرة، ولكنني قبل ذلك جلست لاحتساء القهوة في مقهى في ادجوار رود في لندن. لاحظت شخصا يكلم نفسه. عدد كبير من البشر يكلمون أنفسهم هذه الأيام ثم تكتشف أنهم يكلمون شخصا آخر في الهاتف المحمول، ولكنه لم يكن يتكلم في المحمول، لا سماعة في أذنه ولا ميكروفون أمام فمه، كان يتكلم فعلا مع أشخاص لا وجود لهم: ضاعت الحرية في عاصمة الحرية. هم يقلدون الآن عواصمنا المتخلفة. سيفتحون رسائلنا وبريدنا الإليكتروني وسيتنصتون على محادثاتنا، ويمنعوننا من التعبير عن أفكارنا. كل مكان فيه كاميرات. وهنا حانت منه التفاتة تجاهي فواصل كلامه: أنت عربي... عرفت ذلك بسهولة من علامات الحزن واليأس البادية على وجهك. نعم، احزن يا صديقي. سيضعون الكاميرات في غرفة نومك وحمامك. قلت له: وماذا في ذلك يا عزيزي؟ أنا أرحب بذلك أشد الترحيب إذا كانت هذه الإجراءات ستحميهم من القتلة ومن المتفجرات. أنت تتكلم عن حرمانك من التفكير. ما هي بالضبط الأفكار التي ستحرم سيادتك من إعلانها. قال: أنا أفكر في أنه لابد من قتلهم لكي يشعروا بآلامنا ومشاكلنا فيهتمون بحلها. قلت: هم مهتمون فعلا بحلها، فهل ما زلت تطلب حق التعبير علنا عن رغبتك في إبادتهم؟ قال : نعم، حرية التعبير مقدسة وكان يجب عليهم احترام هذه القداسة، واحترام خصوصية الإنسان الفرد. إنهم ينفذون الآن ما تنبأ به جورج أورويل في روايته 1984، سيضعون الكاميرات في كل مكان، ألم تر الأربعة الذين صوروهم في محطة القطار؟ قلت: هل ضايقك ذلك؟ لقد تمكنوا من الإمساك بهم عن طريق هذه الكاميرات، هل كنت تتمنى أن يتمكنوا من الإفلات. أنا سعيد لأنك من قراء جورج أورويل. حدثني إذاً عن مزرعة الحيوانات. أنت تخشى أن يراقبك الأخ الأكبر... من هو ذلك الأخ الأكبر الذي سيراقبك في إنكلترا؟ الشرطة الإنكليزية؟ هل تعتقد أنهم أصدروا قانونا لتحويل رجال الشرطة إلى أوغاد يلفقون التهم للناس؟ هل هذا ما تخشاه؟ قال في عصبية: أنت لا تعرف ماذا سيفعلون بنا بعد هذه القوانين الجديدة. قلت لك سيضعون كاميرا في كل حمام. رددت عليه أنا الآخر في عصبية: وأنا قلت لك إن هذا الأمر لا يضايقني. لأنني في الحمام أفعل ما تفعله الناس جميعا. هل تفعل أنت شيئا آخر تخشى أن تعرفه الشرطة الإنكليزية؟ الأمر الذي يجب أن تعرفه أنت وزملاؤك بوضوح أن أوروبا كلها لم تكن تعرف من أنتم وما أنتم ودفعت ثمنا غاليا جراء ذلك... تتكلم عن حرية التعبير والتفكير؟ هل تخشى على قصائدكم الشعرية وإبداعكم الفني والأدبي وأبحاثكم الإنسانية وآرائكم الحرة الضرورية لدفع المجتمع الإنساني إلى الأمام؟... يا راجل اسكتوا... اسكتوا. وغادرت المقهى. كاتب مصري.