هيلين توماس، المراسلة المخضرمة في البيت الأبيض، قالت ذات يوم منذ ثلاثة أعوام:"لم أعمل قط مع رئيس كان يريد حقيقة وفعلياً الدخول في حرب"، في إشارة واضحة إلى أن الاستثناء الوحيد هو الرئيس بوش. وبعد ثلاث سنوات يتأكد أن ما ذكرته هيلين توماس لم يكن بعيداً عن الواقع، فقد سعت إدارة الرئيس بوش إلى شن حرب ضد دولة صغيرة، ثم إلى شن حرب ضد دولة صغيرة أخرى، بينما تدور حرب ثالثة على مساحة أوسع ولأهداف أكبر. ويبدو أن ما عبرت عنه الصحافية الأميركية بكلمات قليلة صارت تعبر عنه جماعات ودول متعددة بكلمات وأفعال مختلفة. ففي أنحاء متفرقة من العالم لا يخفى القلق والخشية من أن إدارة الرئيس بوش، وقد تبقى لها في الحكم ثلاث سنوات، قد تسعى إلى شن حرب رابعة قبل انتهاء مدتها. حفزني على الكتابة في الموضوع انبهار المراقبين المتخصصين في العلاقات الصينية - الأميركية بما يجري من تحولات على قمة النظام الدولي. ففي ظن هؤلاء أننا نعيش مرحلة تشهد تفجر نزاع إرادات بين دولة قررت الصعود إلى القمة الدولية ودولة أعظم في القمة عازمة بكل الإصرار على منع هذه الدولة الصاعدة من الوصول إلى القمة. هذا النزاع ليس من دون جذور، بل بجذور ضاربة في القرنين الماضيين. نذكر مثلاً فترة الخمسينات من القرن الماضي حين دشنت القيادة السياسية في الصين حملة المزارع الجماعية"الكوميونات"تحت شعار التفوق على بريطانيا العظمى في إنتاج الحديد والصلب، رمز التقدم في ذلك الحين، وبعدها صار الهدف التفوق على الولاياتالمتحدة. وقد تحقق بالفعل الهدف الأول حيث تحتل الصين حالياً مكانة ثاني اضخم ناتج محلي بعد أميركا وقبل اليابان، وتطالب بمكانة في القيادة الدولية تتناسب وهذه المكانة الاقتصادية ومكانتها الإقليمية المتميزة. يلفت النظر في انطلاق الصين نحو القمة والكوابح التي تستخدمها أميركا لتقييد سرعة هذا الانطلاق، هذا المزيج العجيب من عناصر التلاحم والتنافر التي تشكل في مجموعها العلاقة الصينية - الأميركية. فقد تداخل اقتصاد الدولتين إلى حد يجعل انفكاك أحدهما عن الآخر لأي سبب وتحت أي ظرف أمراً شديد الصعوبة وباهظ التكلفة. وكان توماس فريدمان الكاتب الصحافي في جريدة"نيويورك تايمز"أطلق على هذا الوضع تعبير التوأم السيامي، أي الملتصق جسداهما، وكان سبقه ديفيد روثكوبف الباحث في مؤسسة كارينجي بتعليق مماثل عن هذه العلاقة الوطيدة. رأينا كيف شجعت الولاياتالمتحدةالصين على استخدام عائد صادراتها في شراء بضائع من أميركا أو الاستثمار فيها وشراء سندات خزانتها لتحافظ على سعر الفائدة منخفضاً. واستجابت الصين لأنها إن لم تفعل تباطأ النمو الاقتصادي الأميركي وانكمشت السوق الأميركية في وجه السلع الصينية. لم تفعل الصين ما فعله بعض الدول العربية في بداية طفرة النفط حين حاول الاحتفاظ بعائدات النفط نقداً في خزائن شخصية أو عامة، ولم تفعل ما فعله هذا البعض العربي في ذروة الطفرة حين شجعت حكوماته مواطنيها على الاستهلاك الواسع. هكذا وصل معدل الادخار في الصين إلى مستوى لم تصل إليه دولة أخرى في العالم وهو ما يقترب من نصف الناتج المحلي. وعملت في الوقت نفسه على تأمين استقرارها الاقتصادي فرفعت رصيد احتياطها من العملات الأجنبية إلى ما يزيد على 750 بليون دولار، أي إلى الحد الذي يجعل المساس به مساساً باستقرار الاقتصاد العالمي. ثم أنها حين قررت منذ أيام"تحريك"قيمة عملتها المحلية اليوان، تأكدت من أن هذا الإجراء الذي احتار في فهمه، وبالتالي عجز عن تفسيره، كل من بول كروغمان وبوب صامويلسون الخبيران الاقتصاديان في صحيفتي"نيويورك تايمز"و"واشنطن بوست"، سيتم بشكل يعزز تداخل المصالح الاقتصادية بين الصين وأوروبا وأميركا. تكاد الصين في كل ما تفعله على صعيد علاقاتها الدولية تقول للدول الغربية إنها لن تسمح لأي قوة خارجية باستنزاف دماء الشعب الصيني وثرواته وكرامته كما فعلت دول الغرب في القرن التاسع عشر، وإن حاولت فستدفع ثمناً باهظاً. وتقول أيضاً، وهو ما يستحق منا التأمل، إن العولمة"لنا ولكم وعلينا وعليكم"، بمعنى أنها ستتعامل مع مسيرة العولمة بانتقائية تأخذ منها ما يفيد شعب الصين وترفض أو تقاوم ما يؤذيه. لن تعود العلاقة مع الغرب إلى قاعدة المعادلة الصفرية، أي أن ما يكسبه الغرب تخسره الصين حين كانت هذه القاعدة لب العلاقة الاستعمارية وجوهرها. إنما ستتعامل الصين مع العولمة، التي هي شكل جديد من أشكال الاستعمار الغربي، بأسلوب يختلف عن أسلوب تعاملها مع الاستعمار القديم في القرنين التاسع عشر والعشرين. ستستفيد من العولمة بقدر ما يستفيد الغرب الرأسمالي والليبرالي. وقد جاء تأكيد هذا التوجه حين أقدمت الصين على عمليات شراء شركات عملاقة غربية، وبخاصة محاولتها الأخيرة لشراء شركة UNACOL الأميركية المنتجة للنفط. كانت المحاولة وردود الفعل الأميركية عليها فرصة لتتعرف مختلف دول العالم النامي على جوانب في العولمة غامضة، ولتعرف أن الكرة الأرضية ليست منبسطة كما يقول توماس فريدمان في كتابه الواسع الانتشار، بل كروية وستظل كروية رغم كل مبالغات فلاسفة العولمة. إذ أنه بمجرد الإعلان عن رغبة الصين في شراء شركة أميركية منتجة للنفط حدث استنفار في الولاياتالمتحدة باسم الوطنية والأمن القومي والدفاع عن الشركات التي تنتج"سلعاً استراتيجية". وهاج الكونغرس باعتباره قلعة الشوفينية الأميركية. ويخلص جيري تايلر، الباحث في مؤسسة"كاتو"للدراسات ومقرها واشنطن، خلال جلسة استماع في الكونغرس إلى أن لا ضرر اقتصادياً أو أمنياً يصيب أميركا نتيجة هذه الصفقة، وإنما القصد من الحملة ضد الصفقة سياسي وفي رأي آخرين عسكري - استراتيجي. ويلجأ معلقون إلى المقارنة بتجربة العلاقة الأميركية مع اليابان. لكن الصين ليست اليابان، والظروف غير الظروف، وإن وجد قاسم مشترك، وهو أن إنعاش اقتصاد كل من اليابان ثم الصين كان مفيداً للاقتصاد الأميركي. ولكن اليابان لم تحلم بيوم تعود فيه لتنافس أميركا، على عكس الصين. ثم إن الاتحاد السوفياتي كان على زمن نهوض اليابان رادعاً طبيعياً لأي قوة صاعدة في آسيا. ولا يوجد في آسيا، أو قريباً منها من يقوم الآن بدور الرادع للصين الناهضة، وربما تفسر الحاجة الأميركية الشديدة لتوفير هذا الرادع وبالسرعة المناسبة، الإعلان المفاجئ الذي صدر في واشنطن خلال زيارة مانموهان سنغ من أن الهند ستحصل على ما تشاء الحصول عليه من تكنولوجيا نووية لأغراض سلمية، وهو حق لا تتمتع به من الدول غير الغربية إلا إسرائيل. كان سبب الذهول الذي أصاب عدداً من المتخصصين في قضايا منع انتشار السلاح النووي والناشطين في مجال تقييد استخدامات الطاقة النووية وعلماء العلاقات الدولية، أن الولاياتالمتحدة بقرارها هذا ثم بسماحها للهند بشراء طائرات مضادة للغواصات وتكنولوجيا Aegis لحماية الأسطول الهندي من الصواريخ، وهي التكنولوجيا التي لم تحصل عليها إلا اليابان، تكون قررت في ما يبدو تصعيد نزاع الإرادات الصيني - الأميركي نحو آفاق خطيرة وإحداث تحول حاسم وحازم لميزان القوى الدولية والإقليمية. بفضل هذه التطورات في العلاقات الهندية - الأميركية أصبحت الهند حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة ويتبع ذلك أن تخضع الممرات المائية في كل جنوب وجنوب شرقي آسيا ومياه المحيط الهندي والبحر العربي للعسكرية الهندية، وأن تمارس الهند نفوذاً إقليمياً معتبراً، فيتحقق للهنود حلم حاولوا تحقيقه منذ عقود بوسائل أخرى مثل قيادة حركة عدم الانحياز والتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وتتحقق للأميركيين الخطوة الأخيرة في عملية إحلال الهند ودول أخرى غير إسلامية محل الدول الإسلامية في منظومة الأحلاف الأميركية. ولا يخفى أن أميركا تسعى منذ فترة لجمع حلفاء أكثر استعداداً للتصدي للصين أو للإسلام أو للاثنين معاً، ونموذجها الهند، فاستراليا مثلاً، التي تشترك وبحماسة بالغة في الحرب ضد الإسلاميين، لم يستجب رئيس وزرائها إلى طلب الرئيس بوش أن تطرح استراليا باستمرار وإلحاح قضية حقوق الإنسان والديموقراطية في الصين وتجعلها شرطاً من شروط تطور العلاقات معها بهدف تصعيد المواجهة السياسية معها، ورفضت كانبيرا زعم واشنطن أن حلف"الأنزوس"، الذي يجمع الولاياتالمتحدة ونيوزيلندا واستراليا"ينطبق تلقائياً على حالة حرب بين الصينوتايوان. في كل مرة أقرأ تصريحاً لدونالد رامسفيلد عن الصين، كتصريحه منذ أيام عن أن الصين تنفق على الدفاع ثلاثة أضعاف ما تعلنه، وفي كل مرة استمع إلى بيان صادر عن البنتاغون يتعلق بالصين، كالبيان الذي يكشف أن الصين ستحارب تايوان خلال عامين وأنها نصبت 750 صاروخاً موجهة رؤوسها نحو تايوان، وإلى بيان أو خطاب لنائب أو شيخ أميركي يتحدث عن تعزيز البحرية الأميركية وجودها في مياه شرق آسيا، وفي كل مرة يفاجئني مسؤول صيني بحديث عن عنفوان الصين وعدم استعدادها للسكوت على التهديدات الأميركية، كالتصريح الذي أدلى به أخيراً جنرال صيني كبير يهدد فيه بالرد بالأسلحة النووية على أي تدخل عسكري أميركي في أزمته مع تايوان، وأن الصين مستعدة للتضحية بثلث أراضيها الشرقية مقابل تدمير كل مدن غرب الولاياتالمتحدة، وفي كل مرة تجتمع مجموعة شنغهاي التي تضم مع الصين وروسيا دول وسط آسيا وتصدر بيانات من نوع البيان الأخير عن النية في طلب سحب القواعد العسكرية الأميركية من الاقليم، وهو البيان الذي طار في أعقابه رامسفيلد إلى وسط آسيا ليحصل على موقف ضد الصين وروسيا، في كل مرة من هذه المرات أذكر ما قالته هيلين توماس عن الرئيس والحرب، وأذكر بكل الوضوح ضجيج الحرب الباردة. كاتب مصري