ان تتحول الأرض التي نقيم عليها الى وطن، والإنسان الذي يعيش فيها ويشارك في صوغ حياتها الى مواطن، ويوثق هذا الواقع في دستور، تلك هي المواطنة، أي مشاركة المواطن الأصيل في صنع القرارات، ما يتيح له تكوين نظرة متوازنة الى ذاته وبلده وشركائه في صفة المواطنة، على اساس المساواة في الحقوق والواجبات. وإذا ما كانت المواطنة هي التي تجعل من قبولنا بالتعدد امراً أبعد من الرضا بالأمر الواقع، فإن الدولة هي تكييفها المدني على موجبات قانونية، تنتقل بهذه الدولة الى مستوى المسوغ او الموجب الأقوى لنشأتها، كضرورة اجتماع تتحرك بحركته وتتجدد بتجدد شروطه. وهنا يمسي شرط الحرية الذي تتيحه الدولة وتضمنه حافظاً للنصاب التبادلي او التكاملي بينها وبين مواطنيها. ولعل من اهم مشكلاتنا مع دولتنا الحديثة، عربياً وإسلامياً، انها قصّرت في اداء دورها الجامع لاجتماعها المتعدد، فأغرته بعدم الاجتماع، أي عدم اكتمال نصاب المواطنة في وعيه وسلوكه وعلائقه، فإذا الأديان والمذاهب والجماعات عموماً، كيانات متفاصلة في الكيان الواحد، ومفتوحة على المزيد من الكينونات الفرعية على مقتضى الخصوصيات المتحققة او المخترعة او المتوهمة، ما اغرى اعداءنا بالتدقيق في اختلافاتنا، واستغلال خلافاتنا في توليد فوارق اضافية، لتأسيس الصراعات عليها، وتفجيرها في لحظات اكتمال قناعاتنا بضرورة النهوض والتضامن وتحقيق التنمية الشاملة، وتغليب جاذب الاندماج على جاذب الانسلاخ بين مكونات المجتمع أقواماً وأهل اديان ومذاهب. ان الدولة المعاصرة الموصولة بأصولنا، أي التي لا ترى مثالها ناجزاً جاهزاً في موروثها، ولا ترى الحداثة تحديثاً شكلانياً قاطعاً مع الذاكرة، أي الدولة التي لا تفتعل معركة بين الثابت والمتغير، هذه الدولة هي الكفيلة بتحويل المواطنة من فرضية الى واقع واحتياط من الوقيعة. وتكف المواطنة عن ان تبدو وكأنها بديل للدين او المذهب او أي رابطة او جماعة مؤسسة على مشتركات موروثة او مستحدثة. ويكف الدين او المذهب او الجماعة الأهلية او المدنية عن ان تبدو وكأنها بديل للدولة او الوطن، بما في ذلك من إفراغ للدين من معناه وللوطن من مواطنيه، الذين، وليكونوا مواطنين او اذا اصبحوا مواطنين، اصبح الوطن سكناً لهم وهم سكن له، ومن دون مواطنة قائمة على الحق والقانون والحرية والعدل والحب الذي يحتمل الاختلاف ويتحمله بل يقتضيه، يصبح الوطن مكاناً محايداً يابساً وبارداً، وفراغاً في الروح، يسهل التنازل عنه او نسيانه. اقول هذا والإسلام السياسي يجاهر بمشروع دولة دينية، أي مذهبية اقصائية، إن لم تكن مذهباً من داخل المذهب، ما قد يجعل المواطنة كناظم علائقي وقانوني، امراً مستبعداً، إلا في حدود استتباع الأكثرية الغالبة للأقلية المغلوبة، فهل يغير ذلك من قناعتنا بأن الله تعالى لم يتعبدنا بشكل من اشكال الدولة، بل ترك مساحة الدولة حيزاً لعقلنا المشترك الذي يجدد العقد بين الحاكم والمحكوم كلما تجددت الشروط؟ ومن الشروط توكيد الشراكة بين العالمين الديني والمدني، بين الفقيه ورواد الحقول المعرفية المختلفة، وبالتالي، فإننا معنيون بتكوين ورشة تتدبر رؤية لدولة مدنية، بمعنى انها تعيد الدين الى المدينة حافظاً صائناً مصوناً، وتعيد المدينة الى الدين مكاناً حيوياً تختلف فيه العقائد وتعالج فيه الحرية كسورها بذاتها، ويتعدد فيه الاجتماع ويلتئم في ظل الدولة الجامعة، تحقيقاً لنصاب الوحدة في الكثرة ونصاب الكثرة في الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد. ويشكل هذا الإنجاز الذي لا بد من المداومة عليه حتى لا يتناقص او يتآكل، مدخلاً وشرطاً لمشروع حضاري يقوم على الشراكة في ما بيننا، عرباً ومسلمين، وبيننا وبين الآخرين، كل الآخرين، إلا من أصر على ان يعزل نفسه او ينعزل، لأننا اذا ما شرعنا في السلوك الإقصائي فلن نضمن ألا يتحول الى إلغاء كامل لكل الشركاء واحداً تلو الآخر، كما حصل في التجارب الشمولية، الدولة متغير والاجتماع متغير، وهذا التغير في الواقع - منعكساً في الوعي - لا يمس بثوابت العقيدة. والإسلام لا يمكن ان يتورط او يورط احداً في تحويل المتغير الى ثابت، تماماً كما لا يتحول الثابت الى متغير، لأنه بذلك يعرض الثوابت الى الاهتزاز، والثوابت لا تستغني عن مساءلتها والحوار معها تعزيزاً لها لا تقويضاً. ونلاحظ ان هناك متغيرات في الفقه بالنسبة الى كثير من القضايا في مختلف ابواب الفقه، تمثل قراءة جديدة للنصوص على اساس مستجدات في الواقع العلمي والثقافي والعلائقي، مما لاحظه الفقهاء. من هنا مثلاً، وبناء على عدم وجود رصيد نصي لبعض الأحكام في القرآن الكريم، يتحرك فهم الفقهاء او بعضهم لاستيعاب مسألة الردة كإشكالية معقدة لم يتعرض القرآن الكريم الى اصدار حكم بالقتل بناء عليها، كما هو شأن رجم الزاني والزانية، وقتل الفاعل والمفعول في اللواط، وقتل من انكر ضرورة من ضرورات الدين, او الحكم باسترقاق الأسرى، او تنصيف دية المرأة المسلمة بالنسبة الى الرجل لم يعد العمل في ايران مبنياً على هذا الحكم ويعمل بالمساواة طبقاً لمسلك فقهي جديد... وهذا ما يحيلنا على السنة الشريفة باعتبارها ناتجاً معرفياً مصدرياً من داخل العمليتين التاريخية والاجتماعية، ما يعبر عنه في الأدبيات الفقهية بظنية السند وقطعية الدلالة، بما يعنيه ذلك من كون السند اصلاً، وهو عرضة للمساءلة، وكون الدلالة فرعاً مع عدم استحالة النقاش في قطعية دلالتها، طالما ان المسألة مسألة إفهام ومسألة نص عربي محكوم بنظام بياني يتيح تعدد الأفهام... ومن الأمثلة الساطعة على ما ذكرناه ما حصل بالنسبة الى مشاركة المرأة في العملية الانتخابية في التجربة الإيرانية. معروف ان شاه ايران اصدر قانوناً قبل الثورة اتاح فيه المجال للنساء ولغير المسلمين للمشاركة في عملية الانتخاب، ما اعتبره الإمام الخميني مخالفاً للإسلام، وكتب الى الشاه رسالة بهذا المضمون قال فيها:"الحضرة المباركة جلالة الملك المبجل. بعد إهداء التحية والدعاء، انه نشر في الصحف ان الحكومة لم تشترط في الناخبين لمجالس الولايات ان يكون الناخب مسلماً، وقد اعطت للنساء حق الرأي والمشاركة في الانتخاب، وهذا الأمر موجب لقلق العلماء الأعلام وسائر طبقات المسلمين، ومعلوم لدى جلالة الملك المعظم ان صلاح الدولة في حفظ احكام الإسلام وتهدئة قلوب الشعب، نرجو ان تصدروا امراً لحذف الأمور المخالفة للدين المقدس والمذهب الرسمي من برامج الدولة والحزب، ليكون ذلك موجباً لدعاء الشعب المسلم لكم". هذا ولم يلبث الإمام ومعه سائر العلماء في ايران بعد الثورة ان سمحوا بل اوجبوا على النساء المشاركة في كل مستويات العملية السياسية، حتى تحولت المرأة عموماً الى واحد من اهم مصادر الحيوية في الحياة السياسية، لا يعادلها في ذلك إلا قطاع الشباب. ومن فتاوى العلماء في ذلك فتوى لفقيه من فريق الإمام الخميني هو الشيخ اللنكراني حيث يقول:"اذا منع الزوج زوجته من الاشتراك في الانتخابات والخروج من البيت للغاية المذكورة، فهل يمكن للزوجة ان تخرج من البيت من دون اذن وتشترك في الانتخابات؟"، والجواب:"لو كان الواجب عينياً فلا دخل لإذن الزوج اصلاً"، وقد خرجت المرأة الى صناديق الاقتراع بإقبال شديد من دون ان تتوقف احداهن عند الخلاف المحتمل بين الفقهاء، على ما اذا كانت المشاركة في الاقتراع واجباً عينياً او كفائياً"احمد القبانجي"المرأة: الحقوق والمفاهيم". وبالعودة الى القرآن كمصدر اول وكدستور، ونحن في صدد مسألة دستورية، لا نجد إلا وصفاً لمجتمع متعدد متعارف متثاقف متضامن، ملزم بمراعاة معايير التقوى، ويتعدى الوصف اولياً وعاماً وغير تفصيلي، الى الدولة بما هي ضرورة لتحقيق ذلك المجتمع، والضرورة تقع في دائرة المتغير، أي ان الدولة كضرورة إنما تقدر بظروفها، فإذا ما كانت ظروفها متغيرة فهي تتغير شكلاً وبنياناً وأداء ومصدر شرعية، تبعاً لتغير ظروفها، تماماً كما شاهدنا ذلك في عملية تشكيل الدولة بطرائق عدة، كل منها مختلف عن الآخر، في المحطات الأربع من العهد الراشدي، ما يعني اننا غير ملزمين بأي منها، لأن الشرعية غير منحصرة في واحدة منها من دون الأخريات، في حين ان السنة النبوية، في مقابل هذه السنّة المتعددة للصحابة، تمثلت في ما يعود الى هذا الشأن، اشد ما تمثلت في صحيفة المدينة التي وصفت التعدد الاجتماعي والعقدي في اطار الدولة الواحدة، أي انها قاربت الفصل بين الشأن السياسي أي المواطنة وبين التعدد الديني او الفكري او العقدي، وتعاملت مع الدولة كأطروحة فكرية اجتماعية عامة لا كتفصيل او شكل ثابت، بل هي اشكال او آليات مفتوحة على كل جديد في الثقافة والاجتماع والإدارة، بما يعنيه ذلك من فصل منهجي بين مقام النبوة الديني ومقام رئاسة الدولة أي الدنيوي المحكوم قيمياً وأخلاقياً بالديني ليس إلا، ولم يصف القرآن والإسلام عموماً آليات تشكل او تشكيل الدولة، لا قصوراً ولا تقصيراً، بل تجنباً للتنميط، وألح على وصف المنظومة القيمية التي تضبط الإيقاع وتضمن حسن الأداء على مقتضى العدالة ومن خلال العيش المشترك فضاء، والمواطنة نصاباً جامعاً ومناطاً قانونياً للحقوق والواجبات. عندما نستيقظ على مواجعنا ومخاوفنا وأحلامنا المشروعة وضرورات خلاصنا في الدنيا والآخرة، ونبدع شراكتنا في الوطن، تصبح خصائص كل جماعة منا شرفات على الآخرين، وعندما يصرفنا صارف عن المشتركات الرحبة ونرتكب التقابل ونتبادل الإلغاء، تصبح الخصائص سجوناً نمارس في اقبيتها المعتمة محواً للذات في الآخر وللآخر في الذات، أي لذاتنا في ذاتنا بذاتنا في المحصلة. كاتب ورجل دين لبناني.