التدين هو سلوك مؤمنين بعقيدة دينية، على مقدار من المعرفة بأصولها وفروعها، تكفي لضبط إيقاع حياتهم على موجبات الشرع، مع بقاء مساحة متحركة للخطأ والعمد وانفتاح دائم على المعرفة والتوبة. وإن كان أهل الحرفة من المتدينين، على علم أو من دونه، تغريهم سلطتهم الدينية المكتسبة أو المدعاة، بالتضييق على أنفسهم أحياناً وعلى الآخرين أكثر الأحيان. ويزداد هذا الأغراء في فترات الازدهار الديني، كما هو في حالته الراهنة. وإذا ما كان البعض يتلمس أو يتوقع مخاطر لهذا المنحى، فإنه لا يجد لها سبباً إلا الغفلة عن أن الدين هو في الأصل ودائماً شأن الديان، وأن شأن المتدين هو تخليص نفسه والموصولين به "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً الآية". والدين شأن الديان، لأن الله هو الذي كوّن والدين من تكوينه، وهو مكوّن موصول بالفطرة التي يمكن أن تشوشها المعرفة الناقصة أو الزائفة ومضطربات الحياة وانسداداتها. إلا أنها لا تلغيها، وتبقى معتصماً لمن شاء أن يعتصم، ومن هنا هذه العودة المتواترة الى الدين الكاشفة عن رسوخ الدين في التكوين، على رغم كل أفكار التقويض، التي سرعان ما تنكشف لتكشف أنها وبدلاً من أن تقوض قد رسخت، وإن كان هذا الرسوخ يتجلى أحياناً محملاً بسلبيات عصابية تعود الى الحرمان الطويل من التعبير، حتى ليبدو التعبير المكبوت عن الذات الإيمانية، وكأنه قائم على محو الآخر، ما يتجسد عنفاً بعد سقوط التجارب الشمولية التي قامت على نظام معرفي مادي قاطع في دول المنظومة الاشتراكية مثلاً. ومن هنا، وعلى قاعدة أن جماع المقاصد في الدين هو الإنسان في حياته في الدنيا والآخرة "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"، ما يعني أن الطريقية في الدين غير منافية لموضوعيته بل هي مؤسسة عليها، تعترينا الحيرة مما استقر في ذاكرتنا القريبة، من كون أهلنا في فترات العسر الحياتي والضيق المعرفي، والانكفاء السياسي، بين الحربين وبعث الثانية، الى انكشاف ثقافة ومشروعات التحديث، كانوا - أهلنا - أقل معرفة تفصيلية أو فقهاً بأحكام الشريعة، ولكنهم كانوا أكثر التزاماً بها، على نصاب مجز من الخشية والرحمة والتراحم... هذا ليس مقدمة لرفض أو إدانة معطيات الصحوة الدينية، ولكنه حرص على إعطاء القيم الدينية أولوية على العلم بالفروع، الذي لا يعدو أن يكون ذريعة الى تلك القيم - "متعلم على سبيل نجاة" والعلم بالفروع إذا لم ينبنِ على ثقافة دينية، تحول الى قاطع بدل أن أن يكون واصلاً بين الخلق، وبينهم وبين الخالق. وليس صدفة أن تقتصر آيات الأحكام في القرآن على خمسمئة آية، أي أقل من عشر القرآن... وما تبقى منه هو ثقافة المتدين ونظام معرفته وطريقة تحليله وفهمه للسنن والظواهر والسلوكيات والاجتماع والذاكرة والحلم في بعديه المتواصلين الدنيوي والأخروي. ولعلها لحظة منع وقمع وتهميش واستئثار وتغييب للرقيب، هي اللحظة التي انكب فيها معظم فقهائنا على تفريع الفروع في فقه العبادات. إذن فنحن مدعوون الى الحذر من المبالغة في الركون الى مشاهد الازدهار، وأن لا يدخل في رُوعنا أننا صانعوه الحصريون، بينما هو يتحدر من الثابت الذي وصفناه، وقائم فيما هو قائم على فضيحة الباطل وقصوره عن تلبية أشواق الإنسان الى دوام الانعتاق وتجديده..، ومن دون هذا الحذر هناك خشية من أن نستهلك الصحوة أو تستهلكنا، ونعيش عليها بدل أن نضيف إليها، أي بدل أن يتطابق الذاتي مع الموضوعي، أي أن نغير ما بأنفسنا كفاء ما يتغير من وقائع، وشرطاً لضمان مراكمة التغيير باتجاه الأفضل، وفي المحصلة أن نرتقي من حال الارتياح السلبي لانكشاف الأطروحات الأخرى، الى الارتياح الإيجابي من خلال إعادة تشكيل أطروحتنا على مقتضيات العصر وأسئلته. والإقلاع عن الكسل والاسترجاع الى الحركة والإبداع... وإلا بقيت الصحوة مشاعاً للإرادات التي تحولها الى ما يشبه حال إنسان بالغ في تناول المهدئات حتى ذهب في السبات، ثم انفض جمع الكواسر من حوله، فتناول المزيد من المنشطات ليعوض ما فاته، فأصبحت يقظته أقرب الى العصاب "إن هذا الدين لمتين فأوغلوا فيه برفق الحديث" لعله أقرب إلى العصاب ذلك التطرف المستشري والمتنقل والذي يلغي كل ما ومن يقف في وجهه من أديان وأفكار ومذاهب وجماعات... حتى إذا ما افتقد الآخر المختلف بنحو من العمق، أو ألغاه، انقسم على ذاته واستأنف الاحتراب، حتى تصبح إمارة الأمير لا تزيد على ربض عسكره، كما وصف ابن الأثير حالنا من التجزئة والتنازع مقدمة للحروب الصليبية. أن العوارض المرضية للصحوة ذات عمومية دينية إسلامية ومسيحية ويهودية، وهذا التماثل يؤشر على احتمال بغيض، وهو أننا ربما كنا ذاهبين الى إعادة الكرة الى مرمى الأديان، باعتبار أننا كنا ننتظر من الصحوة أمناً وسلاماً ونهوضاً، ومعنى للدين لا يفارق جوهره وحركته بين القلب والعقل المكانين الأمثلين لمعيارية الدين، وإذا بها تصبح فاتحة دم جديد تشجع على المجاهرة بضرورة إطراح الدين على عتبة العولمة، التي تستوجب، لتحمينا من الاستحواذ ثانية، قبولاً وتهيئة للذات وتدريباً لها على قبول ومناظرة الآخر، روحياً ومادياً. من هذه الإشكالية نشارف المقترب الذي يتماشى فيه الشأن الخاص الخلاصي مع الشأن العام النهضوي... على أن الخلاص نهضوي المآل أي عمومي في النتيجة وإلا انتكس أو تحول الى صوفية منفصلة... كما أن النهوض خلاصي وإلا انتهينا الى تكرار التجربة الشيوعية التي حاولت أن تقيم التقدم والعدل على محو الذاتية بمادية فيورباخ الجارحة.. وتكرار سلبيات التجربة الليبرالية التي أنجزت الشرط وهو الحرية وفارقت الغاية حتى وقعت في فاوستية قاسية أقامت الإنسان مقام المركز مقطوعاً عن مثالاته. إذاً هناك فرق بين محددات التدين بما هو سلوك مؤمنين بالدين، ومحددات بما هو أطروحة تحمل مشروعاً أو تمهد له، فتنتهي الى السياسة بما هي حيوية مجتمعية مفتوحة على السلطة بمعناها المباشر، من دون أن تكون السياسة في نصابها أو مصافها أو سياقها الديني آيلة بالضرورة إلى مباشرة السلطة بمعناها الاصطلاحي، على قاعدة التفريق بين السلطة والدعوة وإعطاء الأولوية للدعوة من دون إخلائها من مفهوم السلطة مطلقاً، إذ هي في المحصلة سلطة طوعية بنحو ما، أي اختيار المحتكم الى العقيدة والشرع طوعاً، والقراءة المتدبرة للتاريخ الإسلامي تتكفل بتسويغ هذه الأولوية، على أساس أن الأطروحة الإسلامية وصفت اجتماعاً ولم تصف دولة، فصار الاجتماع هو الملزم لا الدولة، أو أن شكلها وآليات تحقيقها غير ملزمة، لا وصفة لها، وهي متروكة لزمانها ومكانها وإنسانها، تطلع فيما تطلع من معطيات العصر وأسئلته وتحدياته والمستجدات المعرفية والعلائقية والحياتية، فتستوعب الحداثة وتؤصلها كمعطى موضوعي، ولا تقطع معها إلا إذا كانت جائرة أو زائفة عن السبيل السوي، وتفصل بين مستوى في الحداثة وآخر، على أساس أن المنجز الحضاري إنساني النشأة والمدى والهوية، لا يحكمه منشأه الجغرافي أو الأقوامي... وبتركيز شديد هذا المسلك محكوم بالسؤال: هل الاجتماع هو الأصل والدولة من ضروراته أم الدولة هي الأصل والاجتماع مجالها الحيوي؟ أي هل أن المنتهى هو إلى السياسة بما هي دولة؟ ليس عندي فكرة جاهزة أو مسبقة. وإنما هناك شروط، فالمسيحية الآن، تنقلب رأساً على عقب، ويسقط خطابها في المحبة، عندما تقترب، تحت وطأة الإغراء السياسي، من صورتها في المرآة التاريخية المقعرة، وها هو الآن الإلحاح المتفاقم على ضرورة الاعتذار عن الحروب الصليبية، ولعل إسهام الفاتيكان، مهما تكن حقيقته أو حجمه في تقويض التجربة الشيوعية بدءاً من بولندا، كان تعويضاً من جهة وإعادة تصويب للمسار من جهة أخرى، ولكن الحذر يبقى قائماً، الحذر من المبالغة في تقييم النتائج وإغراءاتها بالنزوع نحو سلطة كنسية تحررت منها الكنيسة وحررت، ما أدى الى ازدهار المسيحية في الوسط المسيحي، وعودة الأنظمة العلمانية في الغرب الى فهم ما لمعنى الدين ودوره، وأعاد الى الذاكرة معاهدة الكونكوردا بين نابليون والكنيسة، ومعها كلامه التبريري "لو لم يكن البابا موجوداً لخلقته" حتى لا يقع الدين مرة أخرى في مدى ذرائعية السلطة الفالتة. ثم أن الانعطافة نحو اليهود ذات التعقيد الإشكالي البالغ، لا تستفزنا الى المعالنة بسلبية مطلقة، لأنه ربما كان في خلفياتها، ذلك الاضطهاد المتطاول لليهود، والذي جعل الغرب المسيحي يعاني من عقدة ذنب، حلها بتصدير الصهيونية إلينا وتحويل العقدة الى اليهود. وهذه إسرائيل الآن آخذة في الانقسام التقابلي الحاد الى مجتمعين، هما المجتمع المدني الذي يؤمن استمرارية التأسيس على الغصب والحرب، ويصغي للتحديات ويبحث عن سلام يوطد نتائج الحرب ويحولها من مسار الى مسار، ومجتمع ديني حزبي، على رغم أن أحزابه تحدرت من أصل واحد تقريباً "ناطوري كرتا" تأسس على اعتبار الدولة العبرية ناقضة للتوراة، فإن هذه الأحزاب أوغلت في دينها اليهودي الى حد استرجاع وتفعيل الفهم العصبوي للنص التأسيسي الذي يقوم على إلغاء الآخر. هنا أريد أن أؤكد أن منسوب السياسي في الديني يحتاج الى المزيد من التحديد والتمييز، حتى لا نقع في التطابق شبهة ونضطر الى جرجرة الثوابت وراء المتغيرات، بينما يتيح لنا التمييز توفيقاً أو توافقاً عادلاً... ولا تكفي أهمية الشأن العام "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم" غطاء لهذا الالتباس المحرج... الشأن العام هو مقامنا جميعاً واختبارنا واختيارنا الإيمائي، ولكن اختزاله بالسياسي حصراً التفاف على المعنى الداخلي والروحي للدين. * كاتب لبناني. والنص من ورقة قدمت الى مؤتمر "حالة العيش المشترك والتوترات الدينية" الذي انعقد في بيروت 9-11/3/2000 بدعوة من الفريق العربي للحوار ومجلس كنائس الشرق الأوسط.