السيّدة التي تختال أمامنا على إيقاع ال "سالسا"، تقوم ببعض الخطوات الراقصة، تومئ إلى الجمهور أن يرقص أو يصاحب الايقاع تصفيقاً، أو يشارك في الغناء... ليست مغنية عادية. أومارا بورتوندو التي استضافها "مهرجان جبيل" أوّل من أمس، أسطورة حيّة، انتزعتها مصادفة من النسيان، نفضت عنها الغبار. وأعادتها إلى سابق عزّها، لتواصل الرسالة التي توقعتها لها أمّها وهي في الخامسة عشرة: "ستحملين صوت بلادك إلى العالم أجمع". بلادها؟ كوبا.. تلك الجزيرة التي تتأرجح بين العزلة وسنوات البطولة، بين عين الرفيق فيديل الساهرة، وزحف جحافل السيّاح الذين تجذبهم أوهام عصر ذهبي بائد، أو المتعطّشين لحالة نادرة من العفويّة والبساطة وحبّ الحياة، تطبع أكبر جزر الكارايبي، حيث السيجار وال "روم" وقصب السكّر... والسالسا والسون والمامبو، والخلاسيات الفقيرات يرقصن حفاة على الشواطئ، والسيارات الأميركيّة الفارهة التي تعود إلى زمن ما قبل الطوفان! تلك الأسطورة بعثها فيلم من اخراج فيم فيندرز قبل سنوات قليلة، وأعاد إليها بريقها... وأعاد موسيقى السالسا على الموضة في ملاهي أوروبا، وعلى موجات اذاعاتها، وفي متاجر أسطواناتها. والفيلم استند بدوره الى مغامرة للأميركي راي كودير الذي ذهب الى كوبا ليخرج نجوم الأمس من ظلمتهم، ويعيد جمعهم في فرقة حملت اسم ناد موسيقي في هافانا عرف الشهرة في منتصف القرن الماضي: "بوينا فيستا سوشال كلوب". هكذا أعاد الجمهور الغربي اكتشاف تلك الايقاعات الملوّنة التي تشبه واجهة العمارات المذهلة المتصدّعة في هافانا. كان كومباي سوغوندو منسياً في عزلته، وابراهيم فيرير قد أصبح عامل بناء. أما أومارا التي انطلقت في مغامرة الغناء المنفرد يوم مصرع غيفارا 1976، بعد عقدين من المشاركة في أبرز الفرق التي جمعت بين الجاز والموسيقى الأفرو - الكوبيّة، فوجدها راي كودير تغني في ال "تروبيكانا" لجمهور صغير يفترسه الحنين إلى زمن عبرت عليه الثورات والحروب. منذ عقد استعاد هؤلاء، وفي طليعتهم ال "ديفا" أوامارا، شعبيتهم الواسعة داخل كوبا وخارجها... أصدروا أسطوانات جماعيّة ومنفردة، ومات عميدهم كومباي وقد أعاد الصلة بمذاق الشهرة. ولعلّ أومارا بورتوندو مواليد 1930 التي تزور لبنان للمرّة الثانية بعد مهرجانات بعلبك هي الأكثر انتشاراً بين رفاقها في فرقة "بوينا فيستا"، إذ انّها تجوب مدن العالم بلا كلل منذ سنوات عدّة. وقد غصت مدارج "مهرجان بيبلوس" أوّل من أمس بجمهور متنوّع الأعمار والأذواق، يعرفها ويشارك في اداء اغنياتها. كان البحر من ورائنا وقلعة بيبلوس من أمامنا، وعند أقدام القلعة خشبة مسرح غارقة في الأضواء والمؤثرات البصريّة... وأعضاء الأوركسترا يغلّفهم الدخان الملوّن، يحتلّون موقع الصدارة، كأنّهم يريدون للموسيقى أن تملأ الفراغ الذي يتركه اداء الديفا المتعبة. لم تكن متعبة أومارا، لكنّ سنوات الشهرة والرواج جعلتها تفقد ربّما شيئاً من عفويّتها وزخم ادائها. صارت تعرف وصلاتها جيداً، وتقلّد نفسها أحياناً... أدّت أغانيها المعروفة، وأيضاً بعض الكلاسيكيات "وان تانا ميرا"، "ذا مان آي لاف" الرجل الذي أحبّ أغنية غيرشوين الشهيرة في صيغة اسبانيّة. خاطبت الحاضرين ببعض الكلمات العربيّة... لكنّها تركت الدور الرئيس للبيانو والغيتار، لعازفتي الكمان المتهاديتين في دور الكورس، لعازفي الترومبيت وعازفي الساكسفون، من دون أن ننسى الكونتروباص والايقاع... أعضاء الفرقة عرفوا كيف يلعبون على المشاعر ويحرّكون الانفعالات، ويلهبون الجمهور الذي لم يتوان عن الرقص والهتاف والتصفيق. وبين المشاهدين من تساءل حتماً في سرّه: ماذا بقي لنا اليوم من أسطورة "بوينا فيستا" سوى الحنين؟