أثارت المقابلة التي أجراها الشيخ"أبو محمد المقدسي"مع قناة"الجزيرة"الفضائية ردود فعل واسعة داخل التيار السلفي الجهادي، بشكل خاص، وكذلك لدى شريحة واسعة من المثقفين والمجتمع، بسبب الموقع الذي يتمتع به المقدسي باعتباره أحد أهم مفكري التيار السلفي الجهادي في العالم وفقهائه, ولارتباطه الوثيق ب"أبي مصعب الزرقاوي"لفترة طويلة، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي من خلال التنظيم الذي اشتهر إعلاميا وأمنيا عام 1994 باسم"بيعة الإمام". وقد تفرق المقدسي والزرقاوي عقب الإفراج عنهما بعد العفو الملكي العام الذي صدر عام 1999 لمناسبة تولي الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية واعتلائه العرش، فآثر المقدسي البقاء في الأردن من أجل الدعوة وترسيخ الفكر السلفي الجهادي في الأردن والمنطقة، أما الزرقاوي فكان عازما على الالتحاق بالمجاهدين في أفغانستان، والعمل على تأسيس جماعته الخاصة. وتسارعت الأحداث عقب هجمات 11 أيلول سبتمبر عام 2001، وحملت الزرقاوي من معسكره الذي أسسه في مدينة هيرات الأفغانية الواقعة على الحدود الإيرانية إلى التنقل. وأسفرت الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة على نظام"طالبان"عن تفكك معظم التنظيمات السلفية الجهادية التي كانت تعمل في ظل نظام"طالبان"، وهو ما حمل الزرقاوي وأتباعه على دخول إيران ثم الاستقرار في بغداد عقب سقوط نظام صدام حسين من قبل قوات التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة عام 2003. أمضى المقدسي معظم وقته في الاعتقال على خلفية الاتهام بالانتماء إلى تنظيمات سلفية جهادية مختلفة منذ الإفراج الأول وحتى هذه اللحظة، ومع ذلك تمكن من تأليف عدد كبير من الكتب والرسائل في الفكر السلفي الجهادي، وله موقع متميز على شبكة الانترنت باسم"منبر التوحيد والجهاد". وتعود أسباب الخلاف بين المقدسي والزرقاوي إلى فترة طويلة أثناء وجودهما داخل السجن. ولعل أكثر الأمور دلالة على ذلك الخلاف على موضوع الإمارة داخل السجن، اذ كان المقدسي أميرا للجماعة في البداية، ثم تنحى للزرقاوي لجملة من الاعتبارات لخصها المقدسي في لقاءاته بالقول إنه كان يريد التفرغ للبحث والنظر والتدريس والتأليف. ولأن طبيعة الإمارة محدودة في التعامل مع إدارة السجن، تم ترشيح الزرقاوي لتوليها كونه شرق أردني من جهة ولصلابته وقوته في التعامل مع إدارة السجن ومع المساجين الآخرين. ويمكن القول ان جوهر الخلاف بين المقدسي والزرقاوي يتركز في كون المقدسي يمثل الجانب الفكري والنظري والمعرفي, وهذا ما يؤهله لممارسة الاجتهاد وما يتعلق به من قضايا البحث والنظر والفتوى في المسائل العلمية المستجدة. أما الزرقاوي فيمثل الجانب العملي القتالي ومقارعة المخالفين من خلال الاقتراب من قضايا الجهاد. ونشير هنا إلى أن مفهومي الجهاد والاجتهاد من أهم المفاهيم المؤسسة للفكر السلفي الجهادي، فالاجتهاد في الإسلام يتمتع بمرتبة رفيعة, وهو أكمل أنواع النظر والبحث، وذلك من خلال بذل الوسع والطاقة لإيجاد الحلول للمسائل والنوازل المستجدة. أما الجهاد فهو أكمل أنواع العمل وفي أعلى المراتب لما يحققه من وظائف تتمثل في حماية بيضة الإسلام وردع العدوان. إذا عُلم هذا نفهم سر ترديد الحركات السلفية الجهادية في العالم لقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"قوام الشريعة كتاب يهدي، وسيف ينصر"، فالسيف والقلم متلازمان في الإسلام. أثار المقدسي في لقاءاته مجموعة من المسائل الاشكالية والغامضة حول بعض الأفكار والأعمال والأساليب التي تتبعها الحركات السلفية الجهادية في العالم, خصوصاً في العراق, وتنظيم"قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"بزعامة الزرقاوي، وأهم هذه المسائل: أولا: العمليات الاستشهادية، اذ اوضح المقدسي في لقاءاته أن العمليات الاستشهادية يجب ألا يلجأ اليها إلا في حدود الضرورة القصوى، وتعتبر وسيلة ثانوية وليست رئيسية في العمل القتالي. وكان المقدسي أشار إلى أن الزرقاوي كان يتبنى قوله في هذه المسألة ويدرس فتواه في معسكره في هيرات، إلا أن الزرقاوي أصدر بيانا وتوضيحا لما أثاره الشيخ المقدسي في لقائه مع قناة"الجزيرة"، فأنكر تقليده للمقدسي في جواز العمليات الاستشهادية وذكر أنه يتبنى جوازها قديما قبل لقائه بالمقدسي، وقد ترسخت قناعته بجوازها بعد لقائه بالشيخ"أبي عبد الله المهاجر"كما ذكر في بيانه. ثانيا: قتل المدنيين. أكد المقدسي عدم جواز استهداف المدنيين بالقتل والعمليات، وفند الآراء التي أجازت استهداف المدنيين تحت حجج وذرائع مسألة التترس المعلومة عند الفقهاء القدماء، وأوضح أن هذه المسألة شائكة ومعقدة اذ أن حالة التترس تكون في حال جعل الكفار لبعض المسلمين"كالترس"، بحيث لا يمكن الوصول إلى الكفار المحاربين وقتالهم إلا بإصابة وقتل المسلمين. وبين المقدسي أن هذه الحالة لا يلجأ إليها إلا في حال الضرورة القصوى وعند التيقن أنهم مقتولون لا محالة. أما الزرقاوي فلم يتوسع في بيانه في الرد على هذه المسألة وتركها بغير توضيح، وأكد على شدة تحرزه من قتل المدنيين، وأنه لا يفعل ذلك أبدا لا بالمسلمين ولا بغيرهم من الطوائف كالنصارى والصابئة واليزيديين والكلدانيين والآشوريين وغيرهم. ثالثا: تكفير عموم الشيعة وقتلهم. ذكر المقدسي في لقاءاته بأنه لا يجوز تكفير عموم الشيعة، وأنه يستند في ذلك إلى أقوال أئمة أهل السنة خصوصا شيخ الإسلام بن تيمية، وبالتالي فان استهدافهم بالقتل عمل غير شرعي، أما الزرقاوي فلم يتطرق في بيانه إلى مسألة كفر عوام الشيعة، مع العلم بأنه يتبنى القول بكفر عموم الشيعة من دون تفريق، أما قتالهم فقد أوضح بأنه لم يبدأ الشيعة - كما يسميهم الروافض - بالقتال، وإنما حمله على ذلك الممارسات الشيعية التي بدأت بتصفية كوادر أهل السنة واغتصاب مساجدهم ومنازلهم عن طريق فيلق بدر ? الذي يسميه"فيلق الغدر"-، وكذلك عن طريق الشيعة الذين يتسترون بلباس الشرطة والحرس الوطني ? الذي يطلق عليه :الحرس الوثني"-، فضلا عن"ولائهم للاحتلال"الأميركي"الصليبي". رابعا: المتطوعون العرب. يذهب المقدسي إلى أن أهم واجبات اليوم هو نشر دعوة التوحيد في العالم وعدم هدرها في صراعات جزئية تعود على الدعوة بالخسارة والتراجع، وأكد أن ذلك أهم من الذهاب إلى العراق أو أفغانستان أو غيرهما من المناطق الساخنة معتبرا ذلك محرقة حقيقية للمجاهدين والموحدين. أما الزرقاوي, وعلى رغم الاحترام الكبير الذي أظهره في بيانه لشيخه المقدسي، إلا أنه حمل عليه بشدة في هذه المسألة واعتبرها مصيبة كبرى وتساءل"أيعقل أن تصدر مثل هذه الفتوى عن مثل أبي محمد"؟، وأكد أن المحرقة الحقيقية تكمن في الإعراض عن تنفيذ حكم الله وترك الجهاد، وأنه ماض في جهاده في العراق مهما كلفه ذلك، واعتبر هذه الفتوى وسيلة"لإنقاذ بوش ومرتزقته"بعدما بدت علامات انكسار الجيش الأميركي واضحة للعيان حسب رأيه. واعتبر الزرقاوي أن اللقاءات التي أجراها المقدسي، إضافة إلى بعض رسائله،"أدخلت السرور والفرح على قلوب عباد الصليب والعلمانيين والروافض والحزب الإسلامي والجهمية والمرجئة في العراق"، وشدد على وجوب عدم الفتوى إلا بعد التبصر ومعرفة الحقائق والأخبار الصادقة، وأن الفتوى لا تجوز إلا بعد هذه المعرفة الدقيقة بالواقع.