د.عمار علي حسن 24: الاماراتي قبل نحو شهر تقريبا ناقش الباحث المتميز هاني نسيرة أطروحته للدكتوراه في كلية دار العلوم/ جامعة القاهرة عن تأثير "ابن تيمية" على التنظيمات الجهادية المتطرفة، والتي سقط الكثير منها في فخ الإرهاب الدموي والتخريب والتدمير. ونظراً لأهمية هذه الأطروحة في وقتنا الراهن لا بد من إمعان النظر في الخلاصات التي انتهى إليها الباحث، لعلها تقود الباحثين والمهتمين إلى مطالعة هذه الدراسة العميقة والمهمة، وتقود من بيدهم الأمر من علماء الدين ومتخذي القرار السياسي والقائمين على المؤسسات التعليمية إلى تصور محكم يجعلنا بوسعنا أن نواجه التطرف والإرهاب من جذورهما. وقد برهنت الدراسة من خلال مضاهاة إرث ابن تيمية أو تراثه بما يحدثه في واقعنا المعيش على عدة نقاط مهمة يمكن ذكرها على النحو التالي: 1- غلب على القراءات الجهادية لابن تيمية الابتسار والاقتطاف دون انتباه لمجمل الخطاب، ووقعوا في مناطق الاشتباه دون المحكم من هذا الخطاب. 2- إن الضبط المنهجي في قراءة خطاب ابن تيمية عاصم مهم من الخطأ والزلل في فهمه، وتقترح هذه الرسالة منهج المقولات الحاكمة والتصورات الرئيسة كنهج يستطيع أن يجمعها ويحدد أولويتها في تجديد وتمكين أهل السنة والجماعة في مواجهة الخطر الداخلي المتمثل في الفكر الباطني والفرق الضالة والمبتدعة، وما رآه انحرافاً لدى بعض المنسوبين لأهل السنة كالصوفية والأشعرية، وفي مواجهة الخطر الخارجي المحدق بالأمة من المغول والصليبيين وموالاة هذه الفرق لهم. 3- بينما يبدو ابن تيمية رافضاً ومنكراً لتكفير المعين، يحضر إصرار الجماعات الجهادية المعاصرة على مسائل التكفير، سواء في ذلك تكفير المعين أو التكفير استنادا لأحكام الديار، واعترض بعضهم على آرائه فيها صراحة، وخرجوا عليها ولم يقبلوا آراءه فيها، ولم يلتزموا منهجه مخالفين له، رغم أنهم يستندون بشكل رئيس لفتواه في ماردين التي هي جزء من تصوره للديار في الإسلام. 4- لم تكن الإمامة ومسألة الحكم مسألة أولوية أو رئيسة في خطاب وجهاد ابن تيمية، على العكس من الحركات والجماعات الجهادية، فقد أكد هو في منهاج السنة ردا على الشيعة أنها ليست من أشرف المسائل في الدين، بل مسألة متأخرة، فقد كانت قضيته الأولى هي التوحيد وإصلاح عقائد الناس وفهمهم للدين، والخوف من الفرق والبدع أكثر من خوفه من الملل والنحل الأخرى. 5- تعاطى ابن تيمية مع السياسة والحكام تعاطياً واقعياً قائماً على النصح والنقد السلمي والمدني، وهي سمة عامة للمذهب الحنبلي، سبقه إليها أحمد بن حنبل، وجددها ابن تيمية بمنهجه الحجاجي الذي كان فيه سامقا عن سابقيه ولاحقيه من الحنابلة والمنتمين لأهل الحديث، واعترف وأكد رحمه الله على أهمية الشوكة في الحكم، وكذلك على جواز تعدد الحكم في العالم الإسلامي، كما يميل موقفه في الجهاد لجهاد الدفع على جهاد الطلب. 6- أهملت ما تسمى "السلفية الجهادية" والحركات التابعة لها في مرحلتها الأولى، وفي مراجعاتها، أيضاً النظرية السياسية الإسلامية السنية في الإمامة، حين قبلت منذ البداية بالخروج الذي كان سمة للفرق غير السنية كالشيعة والخوارج، والخروج يبدو مستبعداً في فكر وسيرة ابن يتيمة الذي كان يتحرك دائماً من داخل المشروعية الحاكمة وليس خارجاً عليها. كما أخطأ "الجهاديون" في إهمالهم قراءة التاريخ الجهادي لابن تيمية، ففتواه في التتار محرفة في طبعتها عن أصلها، كما أن تاريخه الجهادي يؤكد أن التتار أو غيرهم لم يكن أولويته بل الفرق الأخرى. 7- بينما تشتد الحركات الجهادية مع مخالفيها، تبديعا أو تكفيرا، نجد ابن تيمية نافرا من تكفير المخالفين أو تبديعهم، يرفض التعيين، يخطئ ولا يكفر، ويصوب ولا يقصي، وفي مواقفه من منتقديه وأسباب محنه كنصر المنبجي وابن عطاء الله وغيرهم واحترامه لمخالفتهم دليل واضح على ذلك. 8- عادت "السلفية الجهادية" في مراجعاتها عما سبق أن اكدته، وعادت لآراء ابن تيمية فيما سبق أن خالفته فيها، وخاصة ما يتعلق بمسألتي حكم الدار والعذر بالجهل والتكفير دون شرط الجحود والاستحلال. 9 اهتم خطاب ابن تيمية وممارسته بالاعتبار التاريخي والوعي بالمآلات ونتائجه، وهو ما عادت له هذه الجماعات في مراجعاتها، وإن لم تشملها، فقد اعتمدت فقه المآلات وفقه التاريخ، بعد أن كان يرفض بعض منظريها هذا التطور التاريخي ويتعالى عليه، رافضا ما اصطلح عليه ب "فقه السيرة"، بينما ابن تيمية في فتاويه- خطابه التاريخي- أو في تأسيساته الثابتة يعطي اعتبارا كبيرا للسيرة ولتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، في فهم الأحكام والوقائع. 10 ابتسرت "السلفية الجهادية" فتاوى ابن تيمية التاريخية كفتوى التتار بالخصوص عن سياقاتها وتجاهلت محل الفتوى وخصوصيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، أو تحقيق مسألتها تاريخيا، كما ابتسرت فتوى التترس وغيرها من فتاوى ابن تيمية. 11 كان من أبرز أخطاء "السلفية الجهادية" في قراءتها لابن تيمية هي خلطها بين الزمني والتاريخي من جهة وبين العقيدي والثابت من جهة أخرى، واستخدامها مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بنفس مفاهيمها المعاصرة والخاصة لها، ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادا وشرائع، وخاصة الأولى، بينما تستخدمه هي بمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية، كما أن ابن تيمية وتلامذته كابن القيم في الطرق الحكمية أجاز التوسع في الاجتهاد السياسي لأنه والجهاد مسائل تقديرية واجتهادية، وشرع الأخير للضرورة. وقد وقع هؤلاء المتسلفة في اجتزاء نصوص ابن تيمية وخلعها من سياقاتها ومجمل خطابه. 12 حدث تنازع على ابن تيمية بين فكري "السلفية" و"السلفية الجهادية" من جهة أخرى، وكذلك بين تأسيسات السلفية الجهادية الأولى وبين مراجعاتها الثانية، وكان ابن تيمية مرجعا في كليهما مما يؤكد فرضيتنا على مشاكل القراءة لدى كثير من المنتسبين له. 13 باستثناء أبو الأعلى المودودي الذي عرف ابن تيمية، ويبدو أنه استفاد من فكر ابن تيمية التوحيدي في " المصطلحات الأربعة"، يغيب ابن تيمية وخطابه وتراثه عند حسن البنا وسيد قطب، ما يجعلنا نرجح أن كليهما لم يطلع علي تراث ابن تيمية، ولم يطلع عليه كذلك تقى الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير، وإن استعان به الهضيبي في " دعاة لا قضاة" في ذم التكفير ورفضه، وأن هذه الحركات كانت منطلقة من كلامية أشعرية فكرية سياسية، بعد سقوط الخلافة الإسلامية، أكثر من انطلاقها من النصوص أو المرجعية السلفية، ورغم أن رشيد رضا عرف تحوله الأكبر للدفاع عن فكرة الخلافة واستعادتها عقب سقوطها، إلا أنه كان أقرب ل ابن تيمية وللنص السلفي من حسن البنا، الذي كان حركيا أكثر منه. 14 تثبت دراسة ابن تيمية ومراجعته المستقلة وكذلك مراجعات السلفية الجهادية بعد تأسيساتها الأولى أن ثمة فروقا بين ابن تيمية والحركات الجهادية المعاصرة، أهمها أن أولويات ابن تيمية كانت الدعوة على السلطة، وأولوية الأمة على الإمامة، وتعيد للمجتمع المسلم حيويته ومعياريته الأخلاقية وصفاءه العقدي بعيدا عن سراديب السلطة واختلافات الإمامة، وهذا ما لم يفهمه أولئك الذين نقلوا عنه نقلا مبتسرا. في ظني أن هذه الأطروحة تساعدنا إلى حد بعيد في الوقوف على الكثير من مفاتيح تفكير وتدبير الكثير من التنظيمات المتطرفة والإرهابية وكذلك المتسلفة الذين يصرون على أن يتحكم الأموات في الأحياء، ويضعون العراقيل دوما أمام تطور مجتمعاتنا إلى الأمام.