} افتتح "متحف الفن المعاصر" في مركز بومبيدو معرضاً جديداً لمجموعته الشهيرة التي يتجاوز عددها الخمسين ألفاً، مضافة اليها مقتنيات العقد الأخير، واتجاهات لم تكن ممثلة، تتصل بالرسم الصناعي والعمارة و"الفيديو" و"التصوير الضوئي"، والفن الكرافيكي والوسائط التوليفية، ومحترف خاص بالنحات برانكوسي. هنا قراءة في المعرض واعماله: يمثل المعرض البانورامي في حلته الحداثية العالمية الجديدة تصحيحاً لبعض المفاهيم النقدية التقليدية، متفوقاً على منافسه الوحيد "متحف الفن الحديث" في نيويورك. الاثنان من أشهر متاحف الفن المعاصر. تأسس متحف بومبيدو عام 1947، وقبل بناء المركز بسنوات طويلة، ولعل أبرز ما تتسم به حلته الأدائية الجديدة هو تفريقه الحاسم بين حدود المعاصرة ما قبل منتصف القرن والحداثة النصف الثاني إذ دمج ما بعد الحداثة مع هذا الثاني، ولم يفرد لها مساحة مستقلة. لذلك قُسم العرض الى طابقين: الخامس للأول والرابع للثاني. تابعت "سينوغرافية" المعرض تماوجات هذه التيارات من دون التمسك بمسيرة بعض الرواد الذين نعثر على شظايا أو مفاصل تجاربهم المتباعدة وفق وقوعها تاريخياً في السياق العام مثل بيكاسو وماتيس. وحتى نستوعب هذا التأويل الجديد علينا ان نسافر اليه عبر محطات تبسيطية. 1 - بداية المعرض 1905 "صالون الخريف" الذي وصم الناقد فوكسيل بعضاً من عارضيه ماتيس، روو، فلامينغ "بالوحوش" مقارنة بتمثال دوناتيللو الكلاسيكي المعروض معهم. وأهمية هذا المعرض تقع في اعتماد رهافته اللونية على مختبر الألوان الأولى من دون خليط أو مزج، مما قاد الى شطحات التعبيرية اللونية: ابتداءً من فان غوخ وانتهاء بسوتين مروراً بجوجان وماك ودونجين وكوبكا الخ. 2 - التحول من تجربة الانطباعي سيزان الى تيار "التكعيبية" عام 1907 على يد بيكاسو مكتشفاً في لوحة "نساء أوفينيون" قوة التعبير البدائي الأفريقي. تمثل التكعيبية النظرة المادية للوجود وذلك باعتبار العالم مستقلاً عن الذات في كثافته الهندسية المحجمة من اسطوانة وكرة ومخروط. وهي، لم تعط ثمارها إلا بتدمير منطلقاتها الماركسية واعادة تركيب العالم بعد تحليله، من عناصر طبيعية صامتة وآلات موسيقية وسواها. وذلك خضوعاً لإملاءات حدسية سحرية، وهو ما قاد بعد فترة الى الخروج الأول من جسد مادة اللوحة واستبداله بالملصقات، باعتبار ان جسد العالم هو نفسه "باليتا" التعبير. ولا شك في ان هذه التقنية ساعدت على تكريسها المدرسة "الدادائية" منذ 1916، تاريخ معرضهم العام، وهو الذي جرى بمبادرة الشاعر تزارا والفنان آرب، ثم انتقل نشاطهم في العام التالي الى "مسرح العبث فولتير"، قبل ان يرفد المجموعة فرسان بمستوى بيكابيا ودوشامب، وتوصل هذا الأخير بعد هجرته الى الولاياتالمتحدة الى استبدال الملصقات بالعناصر الاستهلاكية واعادة ترميزها: المشجب - المبولة - الدراجة الخ. أما "السوريالية" فقد خرجت من رحم تجارب شيريكو الحلمية وبالاستيحاء من علوم التحليل النفسي فرويد ويونغ وتنظيرات اندريه بروتون، وتطبيق آلية التداعي الحدسي لدى ماسون وماتا وارنست، وأحلام اليقظة، عبر في هذا البرزخ بيكاسو وجياكوميتي وميرو وبلغ الولاياتالمتحدة مع جوركي وبولوك. يرسم هذا القسم البشائر الأولى للتجريد مسترجعاً أول لوحة تجريدية عام 1911 أنجزها كاندينسي في معرض مشترك مع مارك في ميونيخ، ثم عودة المعرض في السنة التالية مع آرب ودولونوي مكتشف الموشور والدورة اللونيّة وكذلك بول كلي وارنست وكريشنر ومالفيتش. مع هذا الأخير يرجع المعرض الى ذاكرة "البنائية" الروسية التي خرج منها ليؤسس أطروحته المتسامية عن المادة "التصعيدية". يبلغ ماتيس في هذه الفترة أوج اختزال اللون المسطح الأولي. ولكن التجريد كمفهوم لم يبلغ درجاته الرهيفة إلا عند محاولة اقرانه بالنواظم الموسيقية كما فعل بول كلي عام 1920، وعودته بالتالي من خلال الفن الإسلامي الى تعاليم مدرسة "الباوهاوس" الألمانية تأسست عام 1919، هي التي تدعو الى وحدة فنون الصوت بالصورة، وقد تزامنت بحوثها مع تجريدات ستيل الهولندية موندريان، قبل ان تتظاهر تجارب مانيلي وهربان المتوسطة بين التشخيص والتجريد. تتصل هذه المرحلة بتأسيس "التجريد الغنائي" مدرسة باريس في الخمسينات على يد بازين ومونيسييه واستيف وفييرا دي سيلفا، ثم نيكولا دوستائيل وهارتونغ وسولاج وزاووكي وغيرهم. 4 - "التشخيصية الجديدة" التي رفع لواءها عدد من التعبيريين الألمان الذين أثخنتهم جراح الحرب العالمية وعبثيتها، ابتداء من أوتو ديكس وانتهاء بماكس بكمان مروراً بجورج غروس. وحين تلاقحت هذه النزعات مع التجريد الغنائي صدر عنها ما يدعى ب"اللاشكلية" التي يمثلها فوترييه وميشو وولز وألشينسكي. وقد عبرت من دوبوفي الى الأجساد الملتاعة التي عرفناها لدى فرانسيس بيكون وساورا ودادو. 5 - "التعبيرية التجريدية" نمت خلال الحرب في نيويورك، حيث لجأ أرنست وماسون وميرو، مما أسس لفنانيها المحليين: بولوك وغوركي وكوونينغ. فإذا ما رجعنا الى أوروبا وجدناها بعد الحرب تحاول التملص من نمطية التجريد من خلال تجارب بالغة التميّز على غرار ايف كلاين الذي زار اليابان عام 1952 وتأثر بتعاليمها البوذية، وعالمها التأملي الباطني، وطقوس الخروج من ربقة المادة. ولم تثمر هذه السياحة حتى 1960 اذ بدأ يمارس في تشكيلاته اللون الأزرق الأحادي، ثم أصبح يستخدم التبصيمات البشرية باللون نفسه، وذلك بدفع النماذج الحية الملوثة لترك بصمات جسدها على الجدار. ثم استغرقته فلسفة الفراغ ثم الاسفنج الملون ثم النار... أما في ايطاليا فكانت ابحاث فونتانا الفراغية متزامنة معه حتى وصل التجريد الى انطوني تابييس الإسباني فانقلب الى مواد جدارية عبثية "لا شكلية"، ذات خصائص "دادائية محدثة". وهنا تبدأ تباشير ما بعد الحداثة. 6 - تتجسد فنون "ما بعد الحداثة" بطي صفحة "التجريد الغنائي" منذ بداية الستينات وذلك كالآتي: بعضها تحول الى فنون من الوهم البصري الهندسي مثل فازاريللي، وبعضها بدت أوهامه دعوة الى الجمهور للمشاركة في اللعب والمداعبة وتحريض ميكانيك الحركة مثل آغام، ولكنها بلغت مع متحركات تانفلي درجة كبيرة من العبث، أو أنها اندمجت في التنظيم الحديث للمدينة مثل أوابد كالدير. وبعضها تحول الى أقصى درجات الاختزال الهندسي فنشأ تيار "المنماليزم" مثل جود، وبعضها اندمج بحساسية البوب الأميركي مثل جان بيار رينيو الذي عرف بمنازله المكعبة المنجزة من مربعات السيراميك. لا شك في ان ردود الفعل على نمطية التجريد ازدادت بعد ثورة الطلبة في باريس عام 1968، إذ تأسست جماعة "الجسم التصويري والسطوح" وبرز فيها بعد فترة فيالات معتمداً على توقيعات من مفردة تشكيلية استهلاكية، ومنتزعاً من اللوحة اطارها فتبدو وكأنها معلقة في الفراغ، وغاب المنظور عن المسطحات والمساحات اللونية لنعثر على بصمات المنماليزم والبوب في آن. أما رد الفعل الأشد صراحة فكان متمثلاً في العودة الى التشخيص من خلال التيار الذي سماه الناقد تالبوت عام 1964 ب"التشخيصية السردية" التي تغرق معينها من المستهلكات الطباعية مثل أيرو وآدامي، ثم تطورت الى اتجاه أكثر جدية هو "التشخيصية المحدثة"، متمثلة في البحث عن مواطن حدسية لم تُستثمر سابقاً لا من التعبيرية ولا من الفنون البكر أو جماعة الكوبرا، تفرعت عنها "التعبيرية المحدثة"، وتجتمع في ساحتها الإشارات السحرية الهندسية والهيئات البشرية الموحشة، لعل أبلغ أمثلتها اليوم: "باسكيا وبازلتز، كومباس ولاغوست الخ. 7 - تظاهرة تيارات ما بعد الحداثة ما بين الستينات والسبعينات. من أبرزها الطقوس الأدائية المعروفة بإسم "البرفورمانس"، هي التي ترفع الحاجز بين اللوحة والحياة، فالمتلقون هم أنفسهم العابرون في المجتمع اليومي، وتتحول اللوحة الى سلوك تشكيلي يؤدى كمشهد مسرحي إيمائي أو سواه. أما تيار "المفاهيمية" فيعتمد على الأطروحة النقدية أكثر من تفاعلات المادة، أي على المحتوى النظري اكثر من الجانب الصناعي أو الحرفي، ثم التيار الذي يندمج في جسد الطبيعة، والذي دعاه جرمانو سيلان في ايطاليا بالفن المتصحر "آر بوفيرا" ووجد لنفسه في الولاياتالمتحدة موازياً هو "اللاند آرت"، من أبرز نحاتيه هايزر، الذي ينتزع صخرة تزن أطناناً عدة من باطن صحراء نيفادا، يعدّل في شكلها ثم يعيدها الى موقعها ويتابع بالفيديو تأقلمها من جديد مع قوانين الطبيعة. من هذه التيارات أيضاً فن الجسد "بادي آرت" الذي يستخدم فيه الفنان جسده كأداة اختبارية حسية مع عوامل الطبيعة. مانهاين يضع كتاباً على صدره العاري متعرضاً الى اشعة الشمس الحارقة، ثم يرفعه فيبدو مبصوماً بخياله، ثم هناك الدعوات "الايكولوجية" التي تنذر بخطر قيامة الطبيعة والكوكب الأرضي، تدعى هذه الاتجاهات في النقد بالشامانية نسبة الى كهنة الهنود الحمر الذين يؤمنون بقدسية الطبيعة. 8 - توحيد وسائط التعبير، يضع المعرض في المستوى نفسه ميادين اللوحة والعمارة والرسم الصناعي والسينما والموسيقى، ويرفع الحواجز بين القدسي والاستهلاكي خاتماً حداثاته بعولمية فنون الانترنيت والمعلوماتية والفراكتال والتوليف واستعراضات أوهام "الهولوغرام" وغيرها. أما الخطورة التي وقع فيها تنظيم العرض على أهميته فتعثره في التنظير النقدي، وهو ما يتناقض مع طبيعة بعض التيارات الوجودية أو الحدسية الهذيانية أو السحرية. فبدا الافتعال في مساحة عقلنة ما لا يقبل العقلنة. وهو ما ادى الى تشظي سياق تاريخ فن القرن الراهن وذلك بتغييب تيارات وأسماء أساسية مثل بونارد الذي يمثل رحم التجريد الغنائي، واغفال دور الباوهاوس الأميركي وعدم القبول بسيطرة نيويورك على ساحة ما بعد الحداثة. كذلك فإن تجنب دور الأفراد أو الأسماء والأعلام بافتعال أدى الى تعسّف في فهم بعض التيارات التي ترتبط في شكل مباشر بمؤسسيها، مثل بويز وكلين ودوبوفي وتابييس. واذا كان المعرض فرصة لإعادة التجوال في مفاصل الفن المعاصر والحديث، فهو اثبات على تعددية وجهات النظر النقدية والتاريخية فيه، ما يدفعنا الى عدم التسليم دوماً ببداهة القراءة الأحادية، وخصوصاً في الترجمات العربية.