يوماً بعد يوم، تنجلي الصعوبات الجمّة التي تعترض كل محاولة لرسم الوضع اللبناني بريشة الأمل العاجل، لذلك تزداد القناعة تباعاً بضرورة تمتع اللبنانيين بفضيلة الصبر الآجل!! إذ انكشف الأداء السياسي اللبناني في الشهور القليلة الماضية عند تدنٍ في ملامسة الشروط اللازمة والكافية لإدارة الشأن الوطني العام، بعدما تسمّر"الاستقلاليون - السياديون"داخل دائرة شعارية مقفلة، لم يفلحوا حتى الآن، في ثلم"نصل محيطها". ولعل في الدوران على الذات، المعارضة بالأمس، والحاكمة اليوم، أو غداً، ما يحمل طابع الفجاءة الذي أخذ"قوى الاستقلال"على حين غرّة، فباشرت هذه الأخيرة مسؤوليتها من موقع"العجلة"واشتقت يومياتها بتفاصيلها، من واقع اللاإستعداد. يطرح"الدوران"في فراغ الشعار، مسألة الداخل والخارج في"انتفاضة الاستقلال"، ويحيل النقاش في الأمر الى خلاف لم تحسمه السجالات ولن تحسمه، إذ ان ترجيح كفة الخارج على الداخل في لبنان، أو العكس، من شأنه أن يصيب صدقية كتل أهلية بعينها، وأن ينال من موازين وأنصبة جمعية، فيضيف الى لا استقرارها الأصلي، عوامل قلق فرعية. قد يرجح نصيب الخارج، في تصليب"استقلال الداخل"، إذا اقترع المراقب في صالح القول بغياب البرنامج - الدليل، للقوى التي نسبت ظفر"الانتفاضة"الى اجتماع أمر فاعلياتها، والى عقد اللواء للمشترك بين"وطنياتهما المتجددة"... والمستجدة!! آية غياب الخطوة التالية، لدى "المعترضين"، افتقاد الاجابة على سؤال: وماذا بعد؟ حتى الآن لا جواب يأخذ بالسياسة الى المستقبل، بل ان"مشاريع الحكام"القادمين، ما زالوا عند شعارهم الاستقلالي السابق. لماذا يحصل ذلك؟ لأنه، ببساطة، لا وجود في الأصل لتصور عام، ينتقل بموجبه أصحابه من بند في جدول أعمالهم الى بند لاحق. هذا الانتقال الطبيعي الهادئ، يصير ميسوراً في مجرى الحركة، عندما تراكم انجازات، وتستخلص مهمات، وتنسق شعارات... وكل ذلك في سياق"ولادة الجديد"من رحم القديم الفائت. لم يحصل ذلك، لبنانياً، أي على مستوى وطني شامل، بل ان ارتداداً حصل، وافتراقاً قام، بين قوى جرى اجتماعها على عجل، وأقامت مساكنتها على شرط"الاضطرار". زوال"الضرورات التي تبيح المحظورات"سهّل على عناصر لوحة"التحالف"استعادة خطوط ألوانها الأصلية... ويسّر لها اعادة استئناف سياقها السياسي والاجتماعي الأصلي، الذي ينطوي في ذاته على كل"قواميس ومترادفات ومتناقضات"السياسة اللبنانية. في مجال إعلان الحضور السياسي الجديد، بدا ان برنامج بعض القوى لا يتجاوز"البرنامج القديم"الذي كان لها ذات يوم. هذا اليوم"القديم"، تحدده قوى معينة بالعهد القريب من إقرار اتفاق الطائف الذائع الصيت، وترده قوى اخرى الى حقبات مختلفة من الحرب الأهلية اللبنانية، عشية 1975 أو عشية الغزو الاسرائيلي للبنان...!! ولا تتوانى أطراف عن"حمل اليوم"الى تاريخ أبعد، هو تاريخ استقلال الكيان اللبناني عام 1943. بالطبع لا يغيب عن البال، المعنى المقصود الذي تختزنه هذه"الأيام"، كما لا يشيح"الفكر"بنظره عن مقاصد قوى هذه التواريخ... أو ابطالها بحسب الوصف الأثير للقائلين برسوخها وبأسبقيتها التأسيسية. في مقابل"برامج الحنين"، وفي موازاة قوى"السكون"، يقع المتابع على"وصفات"مستقبلية، لا تتعدى بنودها أسطر"مشاريع اليوم"، ولا تتجاوز خطواتها المقترحة، خطى ما هو معمول به، وما هو موضع شكوى من قوى لبنانية أخرى. تمارس هذه"القوى سكوناً"من نوع آخر، تعتقد بموجبه أنها قادرة على القفز فوق المتغيرات بالهروب منها الى"الأمام"، لتديم وضعاً آنياً، وتفرّ من احتمال العودة الى وضع قديم صارعت طويلاً ضد معادلاته. ترتسم اللوحة السياسية الواقعية اللبنانية حالياً، على اختلاف ألوانها، وفق معادلة"كرّ وفرّ"، لكن الكرّ يكون باتجاه الماضي، والفرّ يكون صوب زمانه أيضاً!! لا همّ إن كان الماضي قريباً، أو بعيداً، ذلك ان أطراف الفرار تهرب من مواجهة الحاضر ومن مباشرة المستقبل، ولا تقوى حتى اللحظة، على إعمال أدوات النظر في الوقائع الجديدة، لذلك ستظل عاجزة عن اشتقاق الممارسات والخطط المناسبة لها، والمنسجمة مع معطياتها!! تكاد الخلاصة تلامس إطلاق حكم"الركود"على الأداء السياسي العام، من دون القدرة على التبشير بصحوة قريبة... مفاجئة. لا صعوبة فائقة في الاستدلال على"الميل التشاؤمي"هذا، فلقد قدمت مناسبة الانتخابات النيابية، ثم مناسبة تشكيل الحكومة الأولى بعد الانسحاب السوري من لبنان، ما يكفي من الأمثلة الفاقعة على اكتفاء كل"بركة طائفية"بمياهها الخاصة، وعلى توجسها الفعلي من مخالطة"أقرانها"خشية الاخلال"بمذاق"أو التأثير في سكينة خاصة، او التعديل في مجرى، قد يهدد بألا يصبّ في طاحونة"الأهل"المستقلة استقلالاً تاماً! يفعل كل فريق لبناني"فعلته"وهو مطمئن الى أن"الديموقراطية التوافقية"تقيه شرّ المحاسبة، فإذا عاندت الظروف اطمئنانه، تحصّن بالانتظار، لأن الغلبة الدائمة ممنوعة في لبنان. قد يكون في توزع"الظفر"حكمة، وقد ينطوي عدم السماح لاستتباب القهر"الفئوي"على عقلانية، واستشارة... لكن من اللاعقلانية، ومن اللاحكمة، أن يظل الشأن الوطني اللبناني منوطاً بلعبة طوائفية، تحسن إدارة شؤونها الخاصة، وتهمل الشأن العام، وتبقي الوضع الوطني مفتوحاً دائماً على منوعات من الأخطار... يحتاج الوطن الى معالجة شؤونه والى تدبر أموره، من خلال"سلّة شعارات"، وبواسطة أداء سياسي مختلف، يمارسه سياسيون مختلفون - ولا بأس، بل من الضروري أن تنشأ"غلبة عامة"تضع حداً لتعدد الغلبات ولتنوع مذاهبها - عندها قد يصحو اللبنانيون"على وطن"، يستطيعون أن يؤسسوا فيه، لديموقراطية حقيقية تقطع مع ادعاء"الديموقراطية"المعمول بها حتى الآن. * كاتب لبناني.