ستنسحب إسرائيل من قطاع غزة في الموعد المحدد في آب أغسطس المقبل، تاركة وراءها اقتصاداً مدمراً، وبنية تحتية محطمة، وبطالة تصل إلى 67 في المئة، ومشكلات اجتماعية ومعيشية في رقعة من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية في المتر المربع الواحد. نجح رئيس البنك الدولي السابق جيمس ولفنسون، الرئيس الأكثر توازناً من الذين مروا بالبنك منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، في الحصول على موافقة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لإقامة خط واصل بين القطاع والضفة الغربية اصطلح على تسميته ب"الطريق الغاطس"، من خلال سكة حديد يمتد قسم منها تحت الأرض في المناطق المأهولة بالإسرائيليين. هذا هو الحد الأقصى الذي قبلت به إسرائيل، والذي تصفه بالمرحلة الأولى لمشروع خارطة الطريق، لوصل شتات الداخل بالداخل، وشتات الأرض بين غزة والضفة. وماذا بعد؟ سينكشف الانسحاب من غزة على واقع جديد اقتصادياً واجتماعياً، لن يغير الكثير من الحقائق على الأرض، سوى بالهامش النفسي الذي يمكن التأسيس عليه لاحقاً لإعطاء دفع للاقتصاد الفلسطيني، في حال تمكن القادة الفلسطينيون وليس السلطة فقط، من اثبات قدرتهم على التفاعل مع الواقع الجديد، بمزيد من السلام الداخلي بين الفلسطينيين، يتيح اعادة تحريك المؤسسات الصغيرة والمتوسط الأجل، واستئناف استثمار الأراضي الزراعية الخصبة التي ستعود الى الفلسطينيين بعد الانسحاب وتقدر بنحو 40 في المئة من مساحة القطاع. والمستوطنات التي اقيمت على مساحة 565 كيلو متراً مربعاً من القطاع يجاورها عدد كبير من آبار المياه الجوفية العذبة يمكن أيضاً الافادة منها. وكذلك هي الحال مع شبكة الاتصالات التي جهزت بها اسرائيل مواقع المستوطنات. بيد أن اعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني في غزة والضفة أمر مستحيل بلا امن نسبي قد يتوافر في القطاع بقرار التوافق السياسي. وبلا استثمارات جديدة. ذلك ان اسرائيل دمرت في القطاع نحو 16 في المئة من المصانع التي كانت فيه. والباقي يعمل بأقل من 40 في المئة من طاقته الإنتاجية، ومعظمها في قطاع التعدين والميكانيك والصناعات التكميلية. وقد استهدفتها إسرائيل بحجة تصنيع أسلحة ومعدات حربية. لن يكون الانفراج في مشكلة فرص العمل، ولو نسبياً، متاحاً في المدى المنظور. فاسرائيل نقلت 80 مصنعاً اقيمت قرب معبر ايريتز لاستجلاب اليد العاملة الرخيصة. وكان يعمل فيها نحو 450 ألف فلسطيني. وتقدر غرفة التجارة والصناعة في غزة أن 600 مصنع فلسطيني في قطاع المفروشات والتجهيز المنزلي يعمل فيها نحو 5 آلاف عامل، ستواجه تكلفة أعلى في استيراد المواد الخام من اسرائيل وفي التصدير اليها. المشكلة الرئيسة التي ستواجهها السلطة الفلسطينية هي الحد من السلع الإسرائيلية التي يوجد ما يماثلها من الإنتاج الفلسطيني، إنما بأسعار أعلى. ومعظم تلك السلع هي من إنتاج مستوطنات في الضفة الغربية مدعومة من الحكومة الإسرائيلية، وهي خارج الاتفاقات بين السلطة وإسرائيل، خلافاً لسلع إسرائيلية أخرى من خارج المستوطنات. ولم تفلح عمليات التعبئة من منظمات المجتمع المدني في غزة والضفة كثيراً في مقاطعة بضائع المستوطنات بعامل السعر الأدنى من الإنتاج الفلسطيني. ومن المفارقات أن الاتحاد الأوروبي يحظر استيراد سلع إسرائيلية من إنتاج المستوطنات. ليس الوضع في الضفة الغربية احسن بكثير منه في قطاع غزة. فمدينة نابلس التى كانت تسمى عاصمة الاقتصاد الفلسطيني تعرضت هي الأخرى لتدمير شبه منهجي من قوات الاحتلال. وكانت شهدت استثمارات بمبالغ عالية نسبياً من رجال أعمال فلسطينيين مغتربين ومحليين، تركزت في بعض الصناعات الهندسية، وفي قطاع البناء والتشييد. نابلس الآن حالها كحال مدن كثيرة في الضفة تعيش ضائقة اقتصادية تنعكس على مدن مجاورة لها. تسبب تقطع أوصال الضفة الغربيةوغزة بعضها عن البعض الآخر، في تفتيت البنية الاقتصادية الوهنة والمضطربة في الأساس. القطاع الاستهلاكي الداخلي الذي يتمول بواقع 50 في المئة منه من الاعانات الخارجية، مشرذم ايضاً بعد جدار الفصل العنصري، ونتيجة الحواجز الثابتة والمتنقلة التي اقامتها قوات الاحتلال بين المدن والقرى، الأمر الذي أدى الى ارتفاع تكلفة النقل، وازدياد الأتاوات والرشاوى المفروضة على السلع والبضائع. ساهم ذلك في ارتفاع الأسعار، وفي شيوع عمليات التهريب، ونشوء اقتصاد موازٍ، ومناطق فساد مدعومة من نافذين وقوى على الأرض. فأدى كل ذلك الى عدم اعادة تدوير مردود الاستهلاك - بتمويله الداخلي والخارجي - في الدورة الاقتصادية، ما افقد الانفاق الاستهلاكي أي احتمال لتجديده في قطاع الاستثمار أو في توسيع المنشآت لايجاد فرص عمل وقيمة مضافة جديدين. لذلك، فالاتجاه الغالب لدى الحكومة الاسرائيلية بعد الانسحاب من غزة، ومن قرى شمال الضفة، هو عدم الفصل الاقتصادي مع غزة، بل مد القطاع بالطاقة الكهربائية وفقاً لتقرير رفعه الى مجلس الوزراء الاسرائيلي منسق الأنشطة الاسرائيلية في القطاع الجنرال يوسف ميشلب. والمقصود من عدم الفصل الاقتصادي أن يكون الانسحاب من غزة فرصة لإسرائيل كي تفيد من اي انعاش محتمل لاقتصاد القطاع والضفة قد يتأتى نتيجة الدعم المالي والمساعدات العربية والدولية. علماً أن المبادلات التجارية بين اسرائيل وبين الضفة والقطاع بلغت سنة 2004 نحو 2.3 بليون دولار. هناك الكثير مما يدعو الى التشاؤم حيال قرب انفراج الوضع الاقتصادي والاجتماعي في غزة والضفة بعد الانسحاب المقرر، طالما استمر اغلاق المرفأ والمطار واستمر واقع العزل عن الخارج. وهذا الأمر غير مشمول بإجراءات المرحلة الأولى من الانسحاب. وقد يكون مشروطاً بما تصفه اسرائيل ب"ضرب البنية التحتية للإرهاب". أي بالعودة الى مربع الخوف الذي تحاذره السلطة والشعب الفلسطينيين على خلفية الحرب الأهلية. الانسحاب من غزة ومن شمال الضفة الغربية يفتح كوة في جدار الاقتصاد الفلسطيني المنهار، من دون أن يحدث على الأرجح الصدمة المطلوبة لبناء اقتصاد قادر على الحركة وسط النوافذ المقفلة على الخارج والجدران المانعة في الداخل. و"الطريق الغاطس"عبر سكة الحديد، في امكان اسرائيل أن تبقيه غاطساً تبعاً لتطور الأوضاع السياسية وموازينها. * كاتب اقتصادي.