يستنتج المراقب والمتابع لمجريات الأمور في الأرض الفلسطينية ان المواصفات المطلوبة للدولة الفلسطينية ثلاث: أن تكون مستقلة، ومتواصلة، وقابلة للحياة. وحتى صفة الاستقلال صارت تتساقط وتكاد ان تختفي عن الشاشة في تصريحات بعض السياسيين في المنطقة وخارجها. وسنغض النظر عن هذه الصفة لأغراض مقالتنا اليوم، ونركز على الصفتين الباقيتين وهما: المتواصلة، والقابلة للحياة. وكلمة متواصلة هي ترجمة تقريبية للكلمة الانكليزية Congruous وتعني ان القطع المكونة للأرض الفلسطينية تتصل مع بعضها بعضاً بحيث تكون الأرض قطعة قابلة للتواصل في حركة الناس والناقلات والسلع والخدمات من ناحية اقتصادية، وقابلة للمراقبة والاشراف الأمني الذي يشكل الشرط الأساس لقيام الدولة الفلسطينية. وهذا واضح من المطالب الأساسية لإسرائيل والدول الغربية وحتى روسيا. ولذلك صار من مهمات الدولة الفلسطينية العتيدة التأكد من قدرتها على منع أي هجوم على اسرائيل أو مستوطناتها، من جانب العناصر الثورية الرافضة للكيان الاسرائيلي، أو حتى منع احتمال بناء أي قدرات هجومية مستقبلية قد تشكل، ولو في المدى البعيد، أي خطر على اسرائيل. أما كلمة"قابلة للحياة"، أو الترجمة العربية للمصطلح الانكليزي Viable، فتعني أن السكان والأرض الفلسطينية يشكلان معاً المزيج القادر على توفير حياة كريمة للمواطنين الفلسطينيين على أرضهم من دون الهجرة بأعداد كبيرة، أو على شكل مجموعات، مدفوعة الى الخارج بسبب صعوبة المعيشة. وبالطبع، فإن الأمر بالنسبة الى إسرائيل، صار يعني توفير الحد الأدنى من العيش حتى يبقى عنصر الضغط الطارد للفلسطينيين الى الخارج قائماً، ولو بالتدريج. وبالنسبة الى الدول المضيفة للفلسطينيين فيعني قدرة هذا الاقتصاد على استيعاب بعض مئات الألوف ممن يعيشون في الخارج، وبخاصة في لبنان. وهكذا نرى ان مفهومي التواصل الجغرافي والقابلية الاقتصادية مترابطان معاً، ولكن تحقيقهما معاً في ظل الأوضاع والظروف الآنية صار أمراً صعباً، ويزداد صعوبة مع الوقت، بسبب السياسة التي تنتهجها حكومة شارون، وأي منافس له في المستقبل. وطالما ان الادارة الأميركية التي تحتج على سياسات اسرائيل الاستيطانية لا تعيش أكثر من فترة"فشة الخلق"، فإن الأمر الذي يفرض على الأرض بحكم الأمر الواقع يتعقد ويزداد صعوبة وقابلية للتغير أو التحول. وقد أتيحت لي خلال مطلع الأسبوع الماضي الفرصة لأن أزور رام الله بدعوة كريمة من السلطة الوطنية الفلسطينية. والتقيت هناك الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس الوزراء أحمد قريع، ونائب رئيس الوزراء نبيل شعث، وعدداً من الوزراء الاقتصاديين، ووزير الخارجية، وغيرهم من مسؤولي الأمن، وكبير المفاوضين الوزير صائب عريقات، وفريقاً من الخبراء الذين يضعون الحوارات والاحتمالات التي تساعد المفاوضين على بناء مواقفهم. وقد أتيحت لي فرصة اللقاء بهذا الفريق الذي قدم لي عرضاً مسهباً عن تطور الاستيطان، والقضم المنهجي المستمر من اسرائيل للأراضي هناك، وبخاصة في منطقة القدس. ورسموا لي الجدار العنصري الذي تشيده الحكومة الاسرائيلية، مما وسع مساحة القدس الى نحو ثلث مساحة الضفة الغربية، وأبقي بداخله حوالى ربع مليون فلسطيني من سكان القدس. وليس المهم في الأمر توسيع المساحة البلدية للقدس والتي صارت أكثر من أربعة أضعاف مساحتها مساء الرابع من حزيران يونيو 1967، بل ان التوسع العرضي لم يُبْق سوى ممر ضيق أو"كوريدور"يصل بين جنوبالضفة الغربية وشمالها. وكذلك، فإن عملية توسيع المستوطنات الكبيرة في الخليل والقدس وبخاصة معالي أدوميم، ونابلس تجري على قدم وساق. وهنالك أعداد كبيرة، من المستوطنات الصغيرة المنتشرة فوق الجبال على امتداد الشمال والجنوب، وعدد آخر على امتداد نهر الأردن شرق غرب. ولذلك، فإن المساحة المتبقية من الضفة الغربية، والتي ستكون متاحة للفلسطينين نظرياً، لن تزيد على 54 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وحيال هذا الواقع، فإن قابلية الحياة تصبح مشروعاً نظرياً بعيد المدى. وقد يقول قائل، ولكن المساحة الباقية يمكن أن تشكل خمسة أضعاف مساحة قطاع غزة، وكيف يستطيع أهل غزة تدبير أمورهم على أرض لا تكاد تبلغ أربعة كيلومترات مربعة، بينما لا يستطيع أهل الضفة، وهم ضعف أهل قطاع غزة، أن يعتاشوا على أرض تبلغ خمسة أضعاف مساحة غزة تقريباً؟ وحتى هذا السؤال البسيط والساذج لا اجابة له ذلك أن الپ54 في المئة المتاحة من أصل مساحة الضفة الغربية البالغة 5860 كيلومتراً مربعاً تحتوي على التجمعات السكانية الكبيرة في الخليل ونابلس وجنين وطولكرم. وأما القرى التي تعتاش على الزراعة أصلاً، فإنها في منافسة دائمة مع القرارات الأمنية والأحكام العسكرية الاسرائيلية التي استولت على معظم الأراضي بحكم أنها غنيمة حرب حيث كان كثير من هذه الأراضي"حكومياً"أو"أميرياً"وفقاً للمصطلح العثماني. وتفصل المواطنين عن أراضيهم في ظل الحائط الجديد أحكام مختلفة تمنعهم من الاقتراب من الأراضي. واذا أضفنا الى كل هذا وذاك عشرات النقاط الحدودية بالمفهوم والممارسة الاسرائيليين، وعشرات نقاط التفتيش المعطلة للحركة، فإن التواصل فعلياً معدوم، واستثمار الموارد المتاحة في الضفة لن يتجاوز 50 في المئة مما هو متاح أصلاً. وهكذا نرى، وفي شكل واضح لا يقبل الجدل، ان مفهوم اسرائيل لأمنها الآني والمستقبلي يرتبط سلباً بأي نمو اقتصادي فلسطيني أو انجاز اقتصادي قد يوفر القدرة لدى الفلسطينيين على تهديد أمنها. ومن ناحية أخرى، فإن أطماع الكثيرين في اسرائيل، لأسباب دينية، وتاريخية وعسكرية وأمنية واقتصادية وغيرها، في أرض الضفة الغربية سيجعل مبرر الأمن ومحاربة الارهاب ملجأ يلوذون به للتغطية على دوافعهم الحقيقية وأطماعهم غير المشروعة في الأرض. ومما يجعل القضية الاقتصادية، من حيث القدرة على الحياة، أكثر صعوبة ووعورة أمام المخطط الاقتصادي الفلسطيني أمران آخران. الأول ان اسرائيل تتحكم الآن في ثلاثة أمور مهمة للاقتصاد الفلسطيني، ومن دونها لن يكون لذلك الاقتصاد أمل في الحياة وهي المياه، والكهرباء والمعابر. ومن دون السيطرة على المرافق الأساسية ونقاط التواصل داخل الأرض الفلسطينية وخارجها، فإن الاقتصاد الفلسطيني لن يكون قابلاً للحياة بقدر ما سيكون قابلاً للاختناق. وكذلك، فإن التهديد الاسرائيلي المستمر باختراق الأرض الفلسطينية للبحث عمن يسميهم بالارهابيين من المقاومين للاحتلال سيربك ذلك الاقتصاد، ويجعل حرية الحركة، بل وحق الحركة والانتقال، رهناً بأيدي الاسرائيليين وأمزجتهم. أما العنصر الثاني فهو صعوبة التواصل الى درجة الانعدام بين قطاع غزة من ناحية، والضفة الغربية من ناحية أخرى. ولعل واقع القطاع والضفة الجغرافي يذكرنا بباكستان التي كانت تفصل بين شقيها الشرقي والغربي أرض الهند، كما تفصل الأرض الاسرائيلية بين قطاع غزة والضفة - ونحن نعلم ما جرى في باكستان عام 1970، حين صار مطلب انفصال بنغلادش عن باكستان مطلباً قومياً. وفي ظل التأزم الحالي في فلسطين، فإن الكياسة والتعقل اللذين يبديهما الرئيس الفلسطيني موضع تقدير على رغم الضغوط الأميركية والاسرائيلية عليه، وحتى من بعض كوادر السلطة، لكي يتعامل بغلظة مع حركتي حماس والجهاد وبعض المنظمات الأخرى اليسارية. ومن هنا، فإن الوضع الاقتصادي الفلسطيني الذي مرت عليه خمس سنوات من انتفاضة الأقصى لا يسر عدواً ولا صديقاً ولا يتلقى الفلسطينيون في الوقت الحاضر أكثر من 600 مليون دولار على شكل مساعدات، واقتصادهم كله تحت الوصاية والمراقبة الاسرائيلية، مما يجعل امكان النهوض بهذا الاقتصاد صعباً. وما من شك في ان هنالك امكانات متاحة لدى الاقتصاد الفلسطيني لكي ينمو وفي شكل مطرد وثابت لو توافرت له الظروف الموضوعية لذلك. وصار واضحاً أن من مصلحة كل الدول دعم الاقتصاد الفلسطيني، وهنا تبرز نقاط عدة مهمة: الأولى: ان الدعم الأساس المطلوب للاقتصاد الفلسطيني لن يأتي من الدول الغربية أو المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي والصندوق الدولي، بل من الدول العربية ومؤسساتها المحلية والاقليمية. وهناك فرصة متاحة لذلك في ظل الوفورات المحلية النفطية. والثانية: ان في الامكان دراسة تعزيز العلاقة الاقتصادية مع الاقتصاد الفلسطيني من بعض الدول العربية حتى في ظل الظروف الحالية. واذا أردنا أن نكون أكثر صراحة، فإن بعض الدول العربية المعرضة لضغوط كبيرة لكي تفتح علاقات أكثر شفافية ووضوحاً مع اسرائيل، قادرة على أن تطالب اسرائيل أولاً بفتح المعابر والحدود الفلسطينية للتواصل مع الاقتصادات العربية. ويجب أن تسمح اسرائيل لرأس المال العربي الخاص كذلك بالاستثمار في فلسطين. واذا حصل هذا، فإن امكان الحياة للاقتصاد الفلسطيني واستيعابه لأبنائه ورفع قدرته على ادارة شؤونه وبناء أمنه الداخلي، اضافة الى احتوائه للمنظمات الثورية تكون أعلى وأكبر. أما القبول بالتطبيع مع اسرائيل من دون فتح المعابر ورفع الحصار عن الاقتصاد فسيكون كارثة لمستقبل الدولة الفلسطينية. والثالثة: أن على منظمتي حماس والجهاد الاسلامي أن تحافظا على الهدوء والأمن، وأن تفوتا على اسرائيل أي أعذار أمنية في الوقت الراهن. وكذلك، فإن كثيراً من الفلسطينيين الذين قابلتهم يقولون ان الانتفاضة الثانية قد ارتكبت خطأ العسكرة الذي أودى بكثير من الأرض والآمال، ويرى آخرون رأياً أكثر تحفظاً يقول ان الانتفاضة الثانية بأكملها لم يكن لها داع أو مبرر، لأنها كانت بتحريض شاروني حين زار المسجد الأقصى، وأسقط حكومة حزب العمل. ان الاقتصاد الفلسطيني بحاجة الى تفكير واهتمام لا يقلان عن التفكير السياسي. وقد لمست لدى القيادة الفلسطينية تفهماً أكبر لهذا الموضوع وأهمية من سابقتها أيام المرحوم ياسر عرفات، ورأيت ان القيادة هنالك ميالة الى تعزيز علاقاتها المتوازنة والمدروسة مع الدول العربية المجاورة والقريبة. خبير اقتصادي، البصيرة للاستشارات.