تقيم الرسامة المصرية نازلي مدكور، معرضها الخاص في قاعة الهناجر في القاهرة، وهي رسامة أكدت مكانتها في الحركة الفنية المصرية منذ أوائل الثمانينات حتى الآن عبر سلسلة من المعارض المتميزة. منذ بداية مشوارها تمتلك نازلي ملامح مشروع فني لا تحيد عنه، يتمثل في بحثها عن جمالية خاصة تنبع من رحم الطبيعة في البيئات الريفية والصحراوية في مصر، بمضمونها التاريخي والإنساني والمجتمعي. وتستنير في بحثها ذاك بمخزون الثقافة المصرية والعربية وقيم البناء الفني والذائقة الجمالية الشرقية عبر تجلياتها في الموروث الحضاري المختلف عن نظيره في الموروث الثقافي الغربي. وهي حريصة - في الوقت ذاته - على الاستقلال عن هذه الروافد، بالابتعاد عن محاكاتها أو إعادة إنتاجها، وبالإطلالة داخل ذاتها مرتين في مقابل كل مرة تطل فيها على الطبيعة الخارجية، ما دعاها لأن تطلق على معرضها الحالي عنوان"مناظر طبيعية داخلية". بيد أن هذا البحث لا يمثل - ولا يسعى إلى- قطيعة فكرية أو جمالية مع الآخر الغرب، بكل مسيرته وتوجهاته الفنية حتى اليوم، بل يدخل بحثها في علاقة جدلية مستمرة معه، وكذلك مع الطبيعة والواقع الاجتماعي بخلفيته السياسية والجمالية. إن المسلّمات والثوابت لا مكان لها في هذا البحث، حتى لو كانت ملبية لطرحها الفكري الرئيس الذي بدأ به البحث قبل ما يقرب من ربع قرن. والتجرؤ على الثوابت لديها لا يقف عند حدود العلاقة بالموضوع والدلالة، أو بالقيم الجمالية شرقاً أو غرباً، بل يمتد إلى الخامة التي تشكل بها لوحتها. فهي تخضع أيضاً لعملية الجدل المستمرة تبعاً للرؤية الفنية الجديدة في كل معرض. ويصل تجرؤها على الخامة إلى حد نزع الوقار عن الخامات التقليدية مثل الألوان الزيتية والمائية وقماش"التوال"، لتحل محلها خامات عضوية وطبيعية مثل ألياف النخيل وعجائن الجص وأكاسيد الجبل وورق البردى وقطع الخيش أحياناً، وقد يصل بها هذا الاشتباك مع السطح التصويري إلى أن يتحول هذا السطح حضوراً بنائياً لذاته، صانعاً لوحة تجريدية مطلقة، من دون أن يعني ذلك انحيازها الى الخيار التجريدي في الفن من منظور غربي أو شرقي، بل يعني مزيداً من الحميمية المعبرة عن ارتباطها بالأرض، وهو ما يمثل عماد مشروعها الفني الممتد. ومما ييسر عليها امتلاك هذا القدر من الحرية وروح الديالكتيك في التعامل مع الشكل والمضمون، أنها لم تدخل عالم الفن من بوابة الدراسة الأكاديمية، بل دخلته عبر مسيرة عصامية أسست خلالها قاعدتها الخاصة بموهبتها وفكرها، مستفيدة من دراستها الأساسية للاقتصاد والعلوم السياسية، ومن نضجها الفكري المرتكز إلى موقف اجتماعي وثقافي متقدم. ثم جاءت مجاهدتها الذاتية عبر المراسم الخاصة لبعض الفنانين، والاحتكاك الدؤوب بأعمال المبدعين العرب والأجانب، والمعايشة الحميمة لمنابع الرؤية الفنية في شتى البيئات والمجتمعات، فأكسبتها الخبرة الفنية اللازمة لأي فنان. مناظرها الداخلية الأخيرة استطراد لبحثها الطويل عبر معارضها السابقة: حالة من التوحد الكوني مع الوجود عبر فضاءات سديمية وتضاريس جيولوجية مفترضة، ذات إيماءات لبيئات طبيعية واجتماعية معينة. انها إذاً تحلق فوق منطقة مخاتلة بين الصورة والتصور، أو بين المرئي بالبصر والمرئي بالبصيرة، إنها تهيم في عالم من المحسوسات المجردة أو المجردات المحسوسة، تمتزج فيه تشكيلات الصخور والأشجار، العمائر والقلاع، المستنقعات والسحب، نور الصبح وحمرة الشفق، لهب البركان ووميض النور المنعكس على مرايا النفس. المنظور الثلاثي الابعاد في بعض تلك المناظر تتبع الفنانة قواعد المنظور الثلاثي الأبعاد، فتنداح أمامنا مساحات الأرض بتدرجاتها الجيولوجية وتلاشيها عند خط الأفق، تتخللها أبنية معاصرة أو تاريخية تذكر بحقب حضارية مثل الأهرامات والمعابد والحصون والمساجد، أو أشباح غامضة لبعض الأشخاص. وفي بعضها الآخر تتماهى الفضاءات مسربلة في غلالات نورانية ولونية مجردة من المعالم المادية المحسوسة، إلا من ملامس مجعدة من عجائن مشطت الفنانة بها سطح اللوحة أفقياً فبدت كبساط حصير هائل يكسو وجه البسيط. وفي بعضها الثالث تتموّج في فضاءاتها أطياف بشرية ملفوفة بأكفان كالمومياوات الفرعونية، تسري في الفضاء في ثنائيات متساندة مرتعشة على رغم تماسكها الظاهري، إنها تنفصل عن الجاذبية الأرضية وتحلق في منطقة انعدام الوزن، تلك المنطقة الملتبسة بين فضاء الروح والمتحررة من سجنها الأرضي، وحيرة النفوس المقتلعة من جذورها. لوحات نازلي في معرضها الجديد تخففت - وربما تخلت عن - من جدلية الصراع الاجتماعي على الأرض، بل حتى من جدلية الحوار بين عناصر الطبيعة الجغرافية وعناصر الطبيعة الانسانية بما تشمله من بشر وعمارة. فاللوحات تبدو في حال من الصفاء النفسي أقرب إلى التصالح أو الهدنة الموقتة مع الكون، وقد يكون ذلك هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، أو لعله حصاد الهشيم بعد عواصف الطبيعة ومحارق البشر، ليعم صمت كوني يحمل أجنة تنبض بميلاد جديد. إن مشاهد هذه اللوحات لا يستطيع تجنب الدلالات الميتافيزيقية، وقد تذهب به إلى تخوم صوفية بقدر استعداده النفسي لقبول التوحد الكلي مع الوجود. تبدو الألوان في هذا المعرض بطلاً مزهواً بنفسه، فثمة لوحات خلعت إهابها الترابي القديم، أو دثارها الباهت المتأكل عبر أزمان سحيقة، واكتست أردية طيفية الألوان مثل قوس قزح، مفصحة عن إشراق فجري تتلألأ فيه ألوان الأزرق والوردي والبنفسجي وتتموّج في انسجام، وثمة لوحات أخرى يتصدرها اللون الأحمر الناري على مساحة ممتدة ماحقة لكل ما يجاورها من ألوان أخرى حتى تتوارى على استحياء. تلك صحوة فجائية حمراء في مسيرة الفنانة، تستبد بعالم نوراني مسالم، ما يستدعي الحذر من طغيانها الزاحف!