كانت الكاميرات تبحث عن وجه جيزيل خوري، الأرملة المفجوعة، والزميلة القريبة من الجميع. الجمهور يحبّ رؤية المشاهير في لحظة اللوعة. لكنّ الاعلاميّة المعروفة التي كانت متماسكة تارةً، وغائبة طوراً، كأنّها لم تفهم بعد ما حدث، ولا تريد أن تصدّق... بدت أمس في جنازة رفيق دربها الصحافي المغدور به سمير قصير، مجرّد امرأة ثكلى خلف نظارتين سوداوين، محاطة بالأهل والمثقفين وأهل الاعلام، بالزملاء والأصدقاء والرفاق. كانت تتقبّل التعازي أمام باب كنيسة مار جاورجيوس في قلب بيروت، إلى يسارها ابنتا سمير، وإلى يمينها الكاتب إلياس خوري. تحلم ربّما أن تستفيق من ذلك الكابوس، وهي تراقب سبحة طويلة من السياسيين والاعلاميين والشخصيات تعبر من أمامها. في الباحة أكثريّة طاغية من الشباب والشابات الذين صار لهم رمزهم وشهيدهم. سمير قصير عنوان جيل آخر، أقحِم عنوةً في عالم السياسة، دخلها من بابها الديموقراطي والوطني والمطلبي، أي من خارج الفئات المتناحرة، والحسابات السياسيّة الضيّقة. جاء هؤلاء الحالمون بزمن عربي آخر يقولون غضبهم، ويودّعون قتيلهم، قتيل الأمل، وشهيد الحريّة. تعرفهم من لباسهم العصري، من طريقة وقوفهم أو جلوسهم أو تعاطيهم مع المشهد العام، تعرفهم من لامبالاتهم وتأففهم حين تكون الكلمة لتجّار السياسة، وحفاري القبور. بعد قليل سيرقصون بالنعش الملفوف بالعلم، وهو يتجه إلى المثوى الأخير. فيما أحد رفاق سمير قصير يدق برفق على النعش كمن يربت على كتف صديق ليطمئنه، ليعزّيه... بين الحشود برز وجه أليف، هو السينمائي السوري عمر أميرالاي، وراءه زميله ومواطنه أسامة محمّد. عمر أميرالاي أشرك الراحل مع رفيقيه إلياس خوري وفوّاز طرابلسي في فيلمه الشهير عن رفيق الحريري. وقبل أشهر شاركا معاً في ندوة عن جان لوك غودار ضمن"أيّام بيروت السينمائيّة". وكان قصير أول المبادرين إلى اطلاق عريضة تضامن مع أميرالاي، عشيّة انعقاد"أيّام قرطاج السينمائيّة"في تونس، الخريف الماضي، حين قامت أقلام مرتزقة بالتعرّض لفيلمه"الطوفان"، رامية السينمائي السوري باتهامات باطلة، تنال من سمعته ومواقفه الوطنيّة. أخذ أميرالاي مكانه في طابور المعزّين الطويل والبطيء. الوجوه مذهولة، والأعين مغرورقة بدموع الحسرة والغضب. كان طُلب الى المعزّين تفادي المصافحة باليد وتجنّب التقبيل، كسباً للوقت ربّما، أو رأفة بأعصاب أهل الشهيد... لكن الزمن توقّف برهة، عندما وصل عمر أمام جيزيل. ارتمى كلّ منهما على الآخر. بصمت. بلوعة. تشنّج الوجهان، عجزاً عن قول الكلمات الحقيقية المكبوتة في القلب. وجمد طابور المعزّين ثواني طويلة، في مكانه. ثم التفت أميرالاي خلفه، ليلتقي وجهاً آخر عزيزاً، هو الكاتب والمثقّف السوري فاروق مردم بك، أقرب أقرباء سمير، وأكثر المفجوعين برحيله العنيف. الوجه المضيء للثقافة السوريّة، كان في ساحة النجمة يوم أمس، لوداع سمير قصير. وتلك هي الصورة القويّة التي عدت بها من جنازتك، متوجّهاً إلى مكاتب"الحياة". بينما سار المشيّعون، خلف الموكب الجنائزي، إلى مقبرة مار متر... في الأشرفيّة. وداعاً سمير!