هذا العنوان الاستباقي يمكن ان يكون خبراً ذات يوم. فالاردن لا يستغني عن العراق مثلما ان العراق لا يستغني عن الاردن، على رغم فارق التاريخ القريب الذي كان فيه العراق محتاجاً إلى الاردن خلال فترة الثمانينات والتسعينات. فتلك الفترة تشكل علامة داكنة في ذاكرة العراقيين لهول الماسي التي حصدها العراقيون بسبب عدم التوازن في تلك العلاقة. غير ان التاريخ يتغير وطبيعة وشكل المصالح والمنافع المشتركة كذلك. فالحديث الذي نشرته"الحياة"مع العاهل الاردني يمكن اعتباره بداية مرحلة جديدة لا تنهي سوء الفهم الذي رافق تصريحات الهلال الشيعي فحسب وانما تنهي انعدام العدالة في ميزان العلاقة بين البلدين. وتطوي ذكريات عراقية بدأت منذ ثورة الرابع عشر من تموز يوليو التي رافقتها التصفية الجسدية بشكل وحشي للعائلة المالكة مروراً ببداية الحرب العراقية - الايرانية وصورة الملك الراحل المرحوم الحسين بن طلال وهو يسحب فتيل مدفع لتنطلق قذيفته، وليس انتهاء بالوضع البائس والمأسوي للنساء العراقيات خلال فترة التسعينات ومابعدها على ارصفة عمان ومدن اخرى. شعر العراقيون ان الاردن اصبح سكين خاصرة. وهو شعور لايخدم البلدين، لكنه يحمل من الوقائع المرة والمريرة ما كان ينتظر تصريحات العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني ليغمد السكين في جرابها ولا تعود توخز الخاصرة العراقية. واتمنى ان تنشر التصريحات في العراق لتصبح وثيقة عمل لالتزام اردني اولاً وعراقي ثانياً لمستقبل العلاقات. فتصريحات العاهل الاردني ليست افكاراً مجردة وانما هي مبادؤه كما يفترض نسبة للمكانة التي يتمتع بها في رسم سياسات بلاده. فهي في تقديري ترسم معالم سياسة اردنية من الواجب ترجمتها بالتطبيق بأسرع مايمكن لرأب الصدع الكبير الذي حصل في العلاقات بحيث نخشى ان تنعدم المحبة بين الشعبين كما يراهن البعض مثلما انعدمت المحبة مع الاسف بين جيران عديدين في دول العالم. صدمة العراقيين بموقف قوى ومؤسسات وجهات اردنية كانت عميقة ومخيبة لامالهم خاصة وان غالبية عراقية توافق الملك عبد الله الثاني في قولهونحن آل البيت للجميع من سنة وشيعة فقد كانت تفترض تلك الغالبية ان هذا الكلام كان يمكن ان يكون، منذ زمن بعيد وليس الان فقط، قاعدة توازن للعلاقات مع العراق. يشعر العراقيون ان الكيل بمكيالين كان صفة للسياسة الاردنية تجاه العراق. فمثلما يشعر الملك ان الاردن بحاجة لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية من خلال اعادة النظر في التقسيمات الادارية في المناطق يدرك العراقيون ضرورة هذه المشاركة في مناطق عراقية حرمت من ابسط الحقوق على مدى عقود، وبالتالي فإن الادارة اللامركزية للمناطق التي يطلق عليها العراقيون جزافا مصطلح فدرالية خاصة للجنوب ينطبق عليها كلام العهل الاردني حين يقول خطتنا لإعادة النظر في التقسيمات الإدارية تصب في عملية توسيع قاعدة المشاركة الشعبية. ومن خلال لقاءاتي مع ممثلي المحافظات وزياراتي للمناطق النائية أدركت أن التخطيط لاحتياجات هذه المناطق لا يمكن أن يقتصر على الخطط التي تضعها الوزارات في العاصمة، بل يجب أن يشترك في صياغة هذه الخطط الناس الذين يعرفون احتياجات مناطقهم ولديهم القدرة على المساهمة في التنمية الشاملة التي تنعكس آثارها على كافة شرائح المجتمع. من هذا المنطلق كانت فكرة التقسيمات الإدارية. هذه التقسيمات ليست الهلال الشيعي التي اثارت التصريحات بشانه ردود فعل عاصفة في العراق. فمن حق جميع مناطق العراق بما فيها مناطق سنية ان تتمتع بعدالة في الصرف عليها لتنعم بحياة طبيعية. فمحافظة مثل الانبار لاتملك من"حسنات"نظام صدام سوى منحها مزيداً من الرمال ليكبر حجمها الاداري في حين لاتتمتع بخدمات او تشجير او وقف زحف الرمال على مدنها وقراها او انشاء شبكة طرق صالحة وسريعة وحديثة او شبكة صرف صحي او مستشفيات حديثة او دخول الحداثة التقنية اليها فحالها كان حال أية بقعة عراقية:لافاكس، لا انترنت، لا ستلايت الخ. ومحافظة مثل الموصلنينوى خسرت حتى شهرتها كونها ام الربيعين بسبب سياسة النظام السابق. فمن حق جميع المدن ان تقرر سياسة الاحتياجات والخدمات الادارية لها. لقد دفع العراقيون اثماناً باهضة في الارواح قبل الممتلكات وانعدام الحريات وغياب القانون والعدالة والعيش في حياة القرون الوسطى بسبب الوصاية عليهم. لذلك يرفض العراقيون الوصاية حتى من الاطراف الداخلية. فصدام كان وصياً عليهم نيابة عن العرب وهو يشعل البوابة الشرقية بدمائهم على مدى ثماني سنوات. وصدام كان يكرر تصريحاته انه يخوض الحرب ضد ايران نيابة عن الامة العربية ولذلك حول المراة العراقية إلى ماكينة تفقيس وهو يصرح بان المراة العراقية ستظل تنجب جنوداً لادامة الحرب مئة سنة اخرى. وحين سقط صدام وكثرت النيابات والوصايات ضج العراقيون بالشكوى والتعبير عن الالم، خصوصاً ان هذه الوصايات ارتبطت باثارة النعرات والفتن والرهان على الحرب الاهلية. فكل طرف عراقي وجد من يتحدث باسمه من خارج الحدود. واذا كانت المشاعر قابلة للاثارة والاستفزاز بسرعة خاصة في مراحل التحول الكبرى والامساك بالفرص التاريخية، فان العراقيين شعروا انهم يخضعون للابتزاز والتحدث باسمهم لادامة معاناتهم ولتضييع فرصة التحول التاريخية نحو نظام دستوري حقوقي وسياسي جديد. ان السنة في العراق هم مواطنون عراقيون. وهم يملكون نعمة الله في النطق والكلام.واذا شعروا ان حقوقهم مصادرة او ان جزءاً منها مصادر فلهم كافة الحق بالمطالبة، واذا تاخروا فان هناك مثقفين ومفكرين وسياسيين وكتابا ونخبا مدنية من كل الاتجاهات بما فيها الشيعية ستطالب بحقوق السنة قبل حقوق الشيعة. وهذه حقيقة سياسية وفكرية وحقوقية وليست دعاية او امنية اومنة.لذلك ينتظر العراقيون نهاية للحديث العربي عن تهميش السنة. فهاهو العاهل الاردني نفسه يعترف بهذه الحقيقة العراقية :شعرت أن الحكومة الجديدة مهتمة باشتراك العرب السنة في الانتخابات المقررة في أخر السنة الجارية . ان الموقف السياسي لغالبية من السنة تجاه الانتخابات لم يكن صائبا لسبب بسيط هو انهم راهنوا على فشلها. ونتيجة هذا الرهان الخاسر ليست قدرا وليست عقوبة. لكن علينا التاكيد ان التحدث بأرث نظام صدام ليس قضية مذهبية وانما سياسية. فلا يجب ان يتحمل وزر هذا الارث احد سوى النظام.ومع الاسف يتحدث باسم هذا الارث علماء دين يخلطون بين هذا الارث الدموي وبين حقوقهم. وهي مسألة غاية في الظلم لطائفة يريد المتحدثون باسمها الصاق ذلك الارث الرهيب بها.واكثر من ذلك لايريد هؤلاء ادانة الارهاب الاعمى الموجه ضد المسلمين والاطفال الابرياء، بل على العكس يشجعونه بتصريحات طائفية تسعى لاشعال الفتنة التي يعتقدون هم قبل غيرهم انها اشد من القتل. ان الارهاب في العراق يمارس ذنبين وخطيئتين في وقت واحد: الفتنة والقتل، ولا يدرأ احداها بالاخرى كما يدعي. لذلك فان تاكيد العاهل الاردني على ادانة الارهاب امر ضروري ينبغي ان يدفع الاخرين حكاما ورجال دين ومثقفين وكتاباً وصحافيين ونخباً لادانة هذا الارهاب وعزله وجعله يشعر انه منبوذ ومدان ولا مكان له في اخلاقيات الدين والمجتمع والثقافة. وفي الواقع فإن الارهاب مدان في العراق من قبل السنة والشيعة وغيرهما، ومن يشجعه هم اقلية ترتبط بعقلية وإرث النظام السابق أكثر مما ترتبط بعقلية الاسلام او المذهب. واقتطف من حديث العاهل الاردني ل"الحياة"ولرئيس تحريرها الزميل غسان شربل هذا المقطع:"ما يجري من عنف في العراق يدعونا للقلق، القلق من الإرهاب الأعمى الذي يطاول المدنيين كل يوم ويستنزف طاقات العراقيين، ويؤخر عملية إعادة إعمار العراق. الإرهابيون يراهنون على إحداث الفتنة وقيام حرب أهلية في العراق، لكن ما أثبته الشعب العراقي خلال السنتين الماضيتين من تماسك وتكاتف أكد أن العراقيين متحدون ضد الإرهاب ولم يلتفتوا إلى دعاة الفتنة... علينا أن نساند الشعب العراقي. لقد لمست خلال لقائي في عمان قبل أيام، مع الرئيس العراقي جلال طالباني رغبة العراقيين في بناء علاقات سليمة مع محيطهم العربي، وهناك عتب عراقي على العرب وعلى الجامعة العربية، اذ لا يوجد أي سفير عربي في العراق، بينما يوجد العديد من السفراء من مختلف دول العالم هناك، وهذا الأمر لا يخدم العراق". كان لدى العراقيين، استناداً إلى حقائق واشاعات وافتراضات وتسريبات، قناعة بأن للاردن مطامع في العراق نشأت منذ سقوط النظام الملكي فيه.لم يبدد الاردن هذه القناعة التي هي عبارة عن مخاوف. ومع الأسف جاءت احداث كثيرة ومنها الحرب مع ايران وغزو الكويت لتؤكد هذه القناعة التي وجدت نصيراً لها بنظرية المؤامرة التي قامت على كون الاردن يدفع العراق إلى التورط لإضعافه وتحقيق تك المطامع. وبعد سقوط نظام صدام ظهر الاردن في نظر العراقيين منتهزاً لفرصة سقوط النظام للوصول بهذه المطامع إلى مداها الاعلى. لا احد يستطيع تبديد مخاوف الشعوب سوى الحقائق على الارض. لا النفي ولا ديباجة"عارية عن الصحة جملة وتفصيلاً". فالعري يكون احياناً ماثلاً في الحقيقة نفسها. وجاءت التصريحات بشأن الهلال الشيعي صاعقة وليست قشة كسرت ظهر الجمل، وانما صاعقة احرقت ما تبقى من أمان وتطلعات بتصحيح مسار العلاقة بين البلدين. واذا لم يتفهم عربي ما الوقع السيء البعيد الاثر على مريض تماثل للشفاء ويعيش فترة نقاهة لتصدمه بتحذير اطبائه من ان تماثله للشفاء سيكون كارثة على المستشفى والافضل ان يبقى مريضاً، فان العراقي الذي سمع بالتحذير من الهلال الشيعي بعد انتخابات ديموقراطية صحيحة بنسبة عالية جداً، يشبه ذلك المريض. لذا اتفهم ذلك الوقع السيء. فالتحذير وقع علي، وانا مثقف مدني، بالاثر نفسه الذي وقع فيه على أي عراقي انتظر فرصة الديموقراطية ليحقق ارادته. كانت التصريحات بمثابة نسف فرصة التاريخ التي انتظرها العراقيون طويلاً ولم تكن هناك رحمة لدى العراقيين ازاء كل من يحاول تفويت فرصة التاريخ. لذلك فإن توقيتها كان كارثة هو الآخر. ان توضيح العاهل الاردني بأن تصريحه عن الهلال الشيعي كان سياسياً لا يلغي اثر التصريح. ان ما يلغيه هو ذلك الموقف السليم الذي يأتي على لسان الملك عبد الله الثاني نفسه. فرؤيته للوضع الجديد في العراق لا تختلف عن رؤية أي عراقي وطني يرى فيما جرى في العراق من انتخابات وديموقراطية تريد ان تكتمل، وافشال الرهان على الحرب الاهلية والعتب العراقي على العرب والجامعة العربية ظواهر مهمة من اجل مستقبل العراق. لعل السؤال عن مقاطعة الديبلوماسية العربية للعراق كان ضرورياً. فتعيين سفير اردني بأسرع ما يمكن، كما يقول الملك عبد الله الثاني، يساهم في ان تأخذ العلاقات بين البلدين"مسارها الصحيح وتسير بالشكل الذي نتطلع إليه"... نأمل بأن تكون رؤية العاهل الاردني نحو العراق قاسماً مشتركاً لرؤية العرب حكاماً وشعوباً تجاه العراق اليوم. كاتب عراقي، لندن.