كان سمير قصير في الحادية والعشرين عندما باشر الكتابة في صحيفة"لوموند ديبلوماتيك"الفرنسية التي دأبت على استقطاب كبار الكتّاب في فرنسا والعالم. ولم يمض وقت حتى اصبح سمير دكتوراً في التاريخ السياسي ودارت اطروحته حول الحرب اللبنانية، هذه التي شغلته بأسئلتها حتى الرمق الاخير. وقبل ان ينصرف الى الكتابة بالفرنسية دبّح مقالات قليلة بالعربية التي ما لبث ان عاد اليها من غير ان يهجر الفرنسية لحظة. وكما ابدع بالفرنسية ابدع بالعربية، وحملت مقالاته التي واظب على نشرها في"النهار"نكهة"خاصة وفريدة كون صاحبها جاء العربية من الفرنسية، وظلّ اشبه بالضيف عليها، وهذا فعلاً ما منحها خصوصيتها الاسلوبية. إلا ان سمير قصير 1960 لم يكن صحافياً في المعنى الشائع، بل كان صحافياً بهاجس كاتب وهاجس مؤرخ وباحث في علم الاجتماع، وأولاً واخيراً بهاجس مثقف طليعي يدعو الى الانفتاح الفكري والحوار السياسي. وخلال كتابته ونضاله السياسي كان سمير ذلك المثقف الحقيقي، المنفتح على الثقافات والافكار انفتاحه على الفن والادب والاعلام. فكان صديق الفنانين والروائيين والشعراء، مبدعاً مثلهم، ولو اقتصر ابداعه على مقالاته السياسية التي لم تخف يوماً بعدها الثقافي، وعلى عمله التأريخي. هذا الصحافي الآتي من اللغة الفرنسية والتأريخ والسوسيولوجيا استطاع ان يصبح للفور في مقدّم الجيل الصحافي الجديد الذي شهدت بيروت ولادته قبل بضع سنوات، وقد احدث ما يشبه التغيير في الحياة الصحافية وفي فن الكتابة ولا سيما المقالة. مع سمير قصير ورفاقه لم تبق المقالة فعل"تطريز"سياسي وانشائي بل اصبحت مقالة مكتوبة بحنكة ووعي، وبجرأة وجسارة، واضحت ذات قضية وموقف معلن. ودفع سمير غالياً وأغلى ما يمكن ان يدفع، ثمن جرأته وشجاعته، حين راح يواجه"اعداءه"غير الشخصيين، الذين اعتبرهم اعداء وطنه، الوطن الذي عرف سمير كيف يحبه، على طريقته وبحسب مزاجه الصعب. ولئن عرف سمير قصير كصحافي في صحيفة"النهار"فهو كان مؤرخاً، ومؤرخاً من طراز خاص، اكاديمياً ومنهجياً. وكتابه الاول عن حرب لبنان هو من المراجع الاساسية لقراءة تاريخ الحرب في ابعادها السياسية والاجتماعية والثقافية. اما كتابه الثاني والضخم عن تاريخ بيروت، فهو لا شك من عيون الكتب التي تناولت التاريخ الحديث لهذه المدينة، في ما يعني التاريخ من توثيق وسرد، وفي ما تعني الحداثة من انفتاح على المناهج الجديدة. وفي اواسط التسعينات أنشأ سمير مجلة سياسية ثقافية بالفرنسية سمّاها"اورينت -اكسبرس"، واستطاعت ان تتبوأ المرتبة الاولى في عالم الصحافة الفرنكوفونية التي عانت - وتعاني - الكثير من الازمات، تبعاً لانحسار الثقافة الفرنكوفونية في لبنان حيال المد الانغلوفوني. وفرضت هذه المجلة هويتها ومشروعها الثقافي والذي هو مشروع سمير، لكنها ما لبثت ان توقفت لاسباب مادية، بعدما جمعت خيرة الاقلام الجديدة وقدمت اجمل المقالات والتحقيقات. ما اصعب الكتابة عن سمير قصير في صيغة الماضي، فهذا المثقف الذي شغل بيروت بمقالاته ومواقفه، كان يعيش في المستقبل، لأنه فعلاً ابن المستقبل، لكنّ اليد المجرمة كانت اقوى منه، هو المثقف المسالم والاعزل، فقضت عليه، ولكن عذراً، لأنها لم تكن أجرأ منه. سمير قصير وداعاً.