بيروت سمير قصير تشبه راويها إلى حد كبير. تنعتق من كل القيود، تعانق الثقافات المتعددة، تواجه الأخطار بعناد، وتتميز كمنارة فارقة في محيطها. في كتابه «تاريخ بيروت»، يراكم قصير الحكايا عن المدينة التي أحب، يراقب تفاصيلها بدقة، يتوغل عبر تاريخها حقبة حقبة لينقل صورة واضحة المعالم عن كل ما مر عليها. ويفصّل القرنين التاسع عشر والعشرين، عارضاً بمهارة كبار المؤرخين الاجتماعيين للحقبات الفنيقية والهلينسنية والرومانية والبيزنطية والعربية والصليبية والمملوكية والعثمانية، قبل أن يصف محبوبته باختصار بكلمات الجغرافي الثوري اليزيه روكلو:» قدر هذه المدينة أن تعيش وتعيش من جديد رغم كل شيء. يمر الغزاة وتنهض المدينة بعد رحيلهم». في الترجمة الإنكليزية الصادرة أخيراً لكتاب «تاريخ بيروت»، بعد نسختيه الفرنسية والعربية، وضع الصحافي البريطاني المعروف روبرت فيسك مقدمة لافتة للكتاب الذي يقدم سرداً وافياً لتاريخ المدينة التي عاش فيها فيسك سنوات طويلة. يقول فيسك في مقدمته:» تبدو قصة بيروت في كثير من جوانبها درامية ورائعة في آن كما كانت حياة سمير قصير. محترمة، جليلة، طليقة الروح، ومكرسة للتطور الفكري والاجتماعي. هذه هي مدينة بيروت القديمة التي يصورها قصير في كتابه، بمدرسة الحقوق الرومانية، بشوارعها وأكاديمياتها وصحفها في العهد العثماني، وبتطورها السريع خلال فورة الآرت ديكو وفي حقبة الانتداب الفرنسي وعقب إعلان قيام لبنان الكبير. مع ذلك، دمرت بيروت القديمة جراء الزلازل، وأحيطت بالجيوش في أزمات كثيرة، وتعرض سكانها للمجازر منذ العهد الصليبي حتى الحرب الأهلية». ويتابع:»كما الفراشة، تنقّل سمير قصير في الفصل الأخير من تاريخ لبنان. وفي لبنان، كثر احتفوا بقصير، كرّموه، احترموه، وفي المقابل كثر شعروا بالغيرة الشديدة منه، إذ كان منارة للحرية في مكان بلا أوكسجين، أما عبقريته الفذة فقد استلهكها العنف في بلاده. في عمر ال 45 حقق قصير حلم كل صحافي، فقد كان: كاتباً، فيلسوفاً، أكاديمياً، مفكراً، ومراسلاً. نعم، يمكن القول انه كان ما اصطلح على تسميته ب «مراسل الشارع» لأنه نقل نبض الشارع والمدينة».. «رغم انه ليس إمبريالياً، اعتبر قصير أن العثمانيين كانوا بمثابة المفتاح إلى الأمل العربي وإلى التراجيديا العربية في آن، لذلك لم يكن مفاجئاً أن الفصل الذي تحدث فيه عن بيروت في العهد العثماني كان الأكثر دلالة وتعبيراً عن تاريخ المدينة التي عاش ومات فيها». ويوضح فيسك «ان جذور قصير الفلسطينية والسورية، وجنسيته الفرنسية، جعلوا منه شخصية عالمية. بدأ سمير قصير كصحافي في جريدة النداء الشيوعية وهو في عمر السابعة عشرة، وأمضى 19 عاماً وهو يكتب في جريدة ال «لوموند» الفرنسية، وأدار مجلة ثقافية - سياسية شهرية هي «اورينت اكسبرس». في جميع هذه الدوريات كتب عن «العرب» بدلاً من «الدول العربية»، وفي كتاباته استكشف تاريخ الفلسطينيين الحقيقي في العالم العربي بدلاً من الإطار الضيق لقومية عرفات..فقد كان جواز سفره الحقيقي عالمياً». ويضيف: «في كتابه «بيروت»، يصف قصير بمحبة كيف أن الحكام العثمانيين في المدينة عبدوا الطرقات، ومدوا شبكات المياه، وأقاموا العدل، وشجعوا التعليم العالي. يقول قصير:» يمكن قراءة تاريخ العرب على أنه مراكمة للتجارب الثقافية، أو في شكل أكثر تحديداً، كمراكمة للتعددية الثقافية». انه يعتبر أن العثمانيين يستطيعون معانقة منطق أرسطو، وعلم الكلام للغزالي، وعلم اجتماع ابن خلدون». وعن مدى توغل قصير في الحقبة العثمانية، يقول الكاتب البريطاني: «لست ادري ما إذا كان قصير قد أغدق على العثمانيين. مجتمعهم لم يكن مجتمعاً شاملاً مع انهم حاولوا أن يعيشوا مثلنا (مثل الإنكليز). نفذ العثمانيون أهم الإنجازات الهندسية في ذلك العهد، قناة السويس، وقطار لبنان إلى دمشق عبر الجبال ولا تزال آثاره باقية... بيروت الكلاسيكية من وجهة نظر قصير تبدو متسمة بالأبهة والفخامة وحقبة ما بعد الصليبيين مليئة بالمفارقات. وكما أن حفلات التأبين يجب أن تبتعد عن تبجيل الميت، على مقدمات الكتب أن تكون صريحة: يتذكر سمير قصير بيروت ما بعد الاستقلال، بفسادها وفتيات الهوى ودور السينما العتيقة فيها، بتفاصيل دقيقة جداً ومعبرة عن تلك المشاهد الفاسدة والخلاعية، لكنها في الوقت عينه ذات صدقية. وهو يتعامل مع حقبة الحرب الأهلية بكثير من الازدراء والاحتقار لتلك الحقبة التي دمرت لبنان». ويشير إلى أن «خلفية قصير الأكاديمية، وشهادته الجامعية من السوربون في التاريخ المعاصر وعمله كمحاضر في جامعة القديس يوسف في بيروت، كلها معالم تبدو بوضوح في عمل قصير. كذلك، فإن لمسته السياسية كانت بارزة. اليوم هناك ساحة باسمه لكنه يعرف أكثر من غيره أن أسماء الشوارع في لبنان لا تبقى على حالها، فحتى عام 1941 كان هناك شارع باسم «بيتان». ويتابع فيسك: «سمير قصير كان يطالب بأكثر من الحرية السياسية. لكن الأفول المستمر لمدينة كتب عنها ببلاغة متفاوتة، يكاد يعانق غضبه وحنقه على ما مرّ ببيروت. وبالنسبة للاستثمار والإعمار، فإن شركة سوليدير التي أعادت بناء وسط بيروت، مزقت الشوارع العثمانية الأثرية بينما حافظت بانتباه على معالم الحقبة الفرنسية التي تمكنت من النجاة من الحرب الأهلية وقامت بترميمها. وها هي اليوم تلتهم حطام المنازل والقصور في الامبراطورية التي لطالما مجدها قصير». نزهة مع سمير وعن تحضيره لهذا التقديم يوضح فيسك انه :»قبل أسبوعين من كتابة هذه المقدمة، قمت بنزهة في بيروت سمير قصير، كانت الشوارع تستحم بورود البوغانفيليا الليلكية والقرمزية، بينما الحجارة الصفراء القديمة تضج بالدفء، لكن بعض الآثار العثمانية بقيت في حالة حطام. الأسقف انهارت، الشرفات المرمرية تصدعت، درجات السلالم استبدلت بالأخشاب، الشرفات تتخبط في الهواء بعدما كسرت الحرب زجاجها، ومزق الهواء أغطية البلاستيك التي حلت محل الزجاج. في لبنان، هناك قيمة للأرض فقط ، بينما لا قيمة على الإطلاق للأملاك والمباني. بعد اغتيال سمير قصير يريدون اغتيال المدينة التي احبها....على مدى 34 عاماً، كنت انظر إلى هذه المباني كغريب، كنت أمر من أمامها خلال الحرب، وأعلق في زحمة السيارات الخانقة على طرقها الضيقة بينما سائقي عبد – الذي أخذ العثمانيون والده في يوم زفافه ليقاتل ضد جيش اللنبي في فلسطين - يتذكر بحسرة سيارات التاكسي الكريمية والبنية والشوارع المرقعة في بيروت القديمة. وبحسرة يقول فيسك: «قصير لم يعد هنا ليدافع عن هذا التاريخ... تاريخ بيروت القديمة، أو ليدافع عما تبقى من فورة العثمانيين للمعرفة. على بعد 300 متر فقط من مدرسة البستاني هناك بوابة حجرية كبيرة تؤدي إلى المدرسة الأميركية للطباعة، اول دار نشر غربية في بيروت، تم استيراد كل لائحة من جدرانه المعدنية من الولاياتالمتحدة عام 1920. اليوم هناك مصعد وحيد عالق في الطابع العلوي من المبنى حيث تستلقي يمامة نافقة بالقرب من مطبعة صنعها منسفيلد من ليبزيغ عام 1929. الصناديق لا تزال تحتوي على كتب للتوزيع، قصص خيالية للأطفال، وقاموس يضم مصطلحات علم الصيدلة.. «. وعن حبه لبيروت يكتب فيسك ختاماً:» في الحقيقة، أنا أشكك في الأجانب الذين يخبرونني انهم يحبون بيروت. أنا احب الحياة التي أعيشها في بيروت، لكنني اعتقد أن لا بد أن تكون قد ترعرعت هنا أو على الأقل في مدينة عربية لتزعم أن مدينة كبيروت هي عشقك. لقد تسلقت جداراً كنعانياً في وسط المدينة، وكنت اول من وضع يديه على بروش حديدي روماني لم ير النور منذ ألفي عام. كما راقبت بيروت وهي تحترق. انطلاقاً من هنا، لا يمكن القول إن عمل قصير المكثف لا يمكن التفوق عليه، لكن قدرته على النظر إلى مختلف الجوانب من تاريخ بيروت، لا شك في أنها فريدة. ربما لأنها اقل عنفاً....بيروت قد تكون دافئة ورقيقة لكنها أحياناً تكون صارمة وقاسية»