على رغم ان نتيجة الاستفتاءين الفرنسي والهولندي كانتا متوقعتين، الا انهما خصوصاً النتيجة الفرنسية، اصابتا الاتراك بصدمة سياسية - عاطفية. فالشعب التركي تعود على تصريحات المسؤولين الاوروبيين التي تنتقد تركيا ومحاولاتها الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، واعتاد اطروحات الاحزاب اليمينية الاوروبية التي عرضت على أنقرة شراكة مميزة لا تصل الى حد العضوية باعتبار انها لا تنتمي الى اوروبا جغرافيا ولا ثقافيا، الا انها المرة الاولى يصطدم الاتراك برفض شعبي اوروبي لهم. صحيح ان عضوية تركيا المحتملة في الاتحاد كانت احد اسباب الرفض الفرنسي وليست السبب الرئيس، الا ان خشية الكثيرين من آثار انضمام تركيا الى الاتحاد في ظل الدستور المقترح الذي كان سيوفر لها ثقلا سياسيا كبيرا داخله، اعطى أنقرة صورة المرشح المرعب غير المرغوب فيه، او، كما صورها احد الصحافيين الاتراك، صورة الطفل غير الشرعي لاوروبا التي يخشى احفادها من اثبات نسب تركيا بالدستور ومنازعتها لهم بعد ذلك في ادارة واقتسام التركة الاوروبية . يقول النائب في البرلمان الاوروبي عن حزب الخضر دانييل كول بنديت ان على تركيا ان تكسب قلوب الاوروبيين وعقولهم كي تحظى بعضوية الاتحاد. عقول الاوروبيين تكسبها تركيا من خلال اقناع سياسييهم بفوائد انضمامها اليهم، او على الاقل ايضاح عواقب بقائها خارج الاتحاد، وهذا نجحت فيه تركيا الى حد ما وساعدتها الظروف الدولية والحرب على الارهاب والحاجة الى نموذج اصلاحي ل"الاسلام المعتدل الديمقراطي". الا ان ما فشلت فيه تركيا هو كسب قلوب الاوروبيين. ولعل نتيجة الاستفتاء الفرنسي لقنت أنقرة درسا في عدم الاعتماد فقط على عقول السياسيين. اذ ان أحد اسباب ال"لا"الفرنسية كان الاحتجاج على الصلاحيات الكبيرة التي تحظى بها المفوضية الاوروبية التي قررت - من دون الرجوع الى الشارع الاوروبي - ضم عشر دول جديدة الى الاتحاد العام الماضي. وعلى أي حال فان الرفض الفرنسي والهولندي للدستور الاوروبي لن يؤثر في المستقبل القريب في علاقات تركيا مع الاتحاد، ولا خوف من تاجيل بدء المفاوضات لان أمراً كهذا يتطلب قرارا توافق عليه الدول الاعضاء ال25، وقد طمأنت المفوضية الاوروبية وبريطانيا - الرئيس الدوري المقبل للاتحاد - تركيا الى ان المفاوضات ستبدأ في موعدها على رغم كل ما حصل. بل ان الاوساط اليونانية شعرت بالقلق من ان أي تاخر اوروبي في بدء المفاوضات قد يثني انقرة عن مواصلة اقرار الاصلاحات الديمقراطية المطلوبة ومتابعة سياسات حسن الجوار. الا ان نتائج الاستفتاءات الاوروبية ستؤثر بلا شك في المديين المتوسط والبعيد في العلاقات التركية - الاوروبية. وقد كان وزير الخارجية التركي عبدالله غل دقيقاً عندما قال ان نتائج الاستفتاءات ستؤثر في تركيا بقدر ما تؤثر في مستقبل الاتحاد الاوروبي وشكله. ولا يبدو الرئيس الفرنسي جاك شيراك عازما على اجراء استفتاء جديد على الدستور، على الاقل قبل اجراء تعديلات عليه تقنع الفرنسيين بتغيير وجهة نظرهم، وتدارك مشاكل الاقتصاد التي كان لها ايضا الاثر في تشكيل نتيجة الاستفتاء، وهذا ما قد يأخذ وقتا طويلا. كما ان النقاشات المستقبلية بين الدول الاوروبية حول الدستور قد تؤدي الى ادخال تعديلات عليه تفقده روحه الفيديرالية الموحدة، في ظل وجود لوبي اوروبي تتزعمه بريطانيا التي لا تؤيد قيام اتحاد فيديرالي اوروبي على شاكلة الولاياتالمتحدة تذوب فيه القوميات والثقافات لحساب دولة فيديرالية واحدة ذات طموح سياسي واسع وقوة عسكرية ضاربة. تلك الصيغة الفيديرالية كانت على الاقل تقنع الاتراك بأن اتحاداًً اوروبياً فيديرالياً سيحتاج الى القوة البشرية لتركيا والى جيشها وموقعها الاستراتيجي وعلاقاتها السياسية في الشرق الاوسط والقوقاز وآسيا الوسطى. الا ان تغيير تلك الصيغة الى صيغة فضفاضة واتحاد يبقي على المميزات القومية والثقافية لكل الدول الاعضاء، ويركز فقط على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والانسانية، قد لا يحتاج الى أنقرة الا من خلال اتفاقية شراكة خاصة. كما ان نمو التيارات السياسية اليمينية المحافظة في فرنساوالمانيا، واحتمال وصول الحزب الديمقراطي المسيحي الذي طالبت زعيمته انجيلا ميركل باعادة النظر في موضوع بدء المفاوضات مع تركيا الى السلطة في المانيا، سيفسح المجال امام هذه التيارات لاستغلال النقاش حول الدستور لتنفيذ سياساتها ومن بينها منع حصول تركيا على العضوية الكاملة. وحتى لو راهن بعض الاتراك على ان اليمين الاوروبي سيضطر الى ترك عدد من سياساته المتشددة اذا وصل الى السلطة، يبقى الرفض الشعبي المتزايد في اوروبا للعضوية التركية، خصوصا ان دولا مثل فرنسا أعلنت منذ الان انها ستلجأ الى الاستفتاء على قبول عضوية تركيا في الاتحاد مستقبلا في حال نفذت تركيا كل الشروط السياسية والاقتصادية من اجل الحصول على العضوية، وهو ما يعني أنه حتى لو جرت الامور على ما كانت عليه من دون تغيير - وهو أمر مستبعد تماما - فان المصادقة على عضوية تركيا في الاتحاد ستخضع هي ايضا الى اختبار الاستفتاء . ومن هنا فان الاتراك يخشون من مماطلة الاتحاد الاوروبي في المفاوضات بعد بدئها في موعدها المحدد، كما يخشون من ان يعيد الاوروبيون النظر في سياسة توسيع الاتحاد في شكل عام وضم اعضاء جدد اليه، او عرض صيغ مختلفة للشراكة عليها. والغالبية التركية تخشى من الاحتمال الاخير، لذا سادت الشارع التركي حال من الاحباط فشلت جهود المسؤولين الاتراك الذين قللوا من اهمية نتيجة الاستفتاء الفرنسي في ازالته ، بل ان بعض المؤيدين للاتحاد الاوروبي في تركيا بدأوا يتململون مما اعتبروه استكبارا اوروبيا زائدا عن الحد في التعامل مع أنقرة، وذلك من خلال اعتبار تركيا الشماعة التي يعلق عليها الاوروبيون مشاكلهم. وبدأ هؤلاء يقتنعون بأن الحب بالاكراه لا يجدي نفعا، و ان الحب من طرف واحد مع الاتحاد الاوروبي قد يأتي بنتائج عكسية ، طالما ان الاتحاد يرفض فكرة الزواج الدائم والشرعي مع تركيا، و يفضل عليها علاقة حميمية في الظل مع عشيقة يتركها متى تعكر مزاجه او تعرض لازمة مالية، وهو ما قد يجعل رد الفعل التركي المستقبلي على أي طرح اوروبي جديد لصيغة العلاقات مختلفا عما هو عليه اليوم، ليكون اقل مرونة وتحملاً.