لا أظن أن بلداً عربياً اكتوى بنيران التطرف الديني وكوارثه مثل الجزائر الذي دفع ثمن التطرف غالياً من دماء أبنائها وبناتها الذين استباحهم الإرهاب باسم الدين وأصاب الجزائر بطعنات قاتلة، ما كان يمكن أن يتعافى منها سوى بلد المليون شهيد - ولقد كنت أتابع جرائم الإرهاب الديني في الجزائر واجف القلب، مثل كل مثقف عربي يؤمن بأن ما يصيب قطراً من أقطار الأمة العربية لا بد من أن يصيب غيرها، ويترك أثره في بقية الأقطار التي تتبادل التأثير والتأثر- وأذكر أنني شاركت - منذ سنوات - في التنديد بقتلة الشهيد عبدالقادر علولة المبدع المسرحي الجزائري الذي لم تحتمله قوى الإرهاب في الجزائر فاغتالته كما اغتالت غيره من مبدعي الجزائر ومثقفيها - وكان واضحاً - ولا يزال - أن قوى الإرهاب الديني - مثل غيرها من قوى الإرهاب في وجه عام - تصطدم أول ما تصطدم بالمثقفين والمبدعين لأن حضورهم الإبداعي يناقض حضورها القمعي، وإيمانهم بحرية الفكر والإبداع إثم كبير في أعين العقول الجامدة التي يتصور أصحابها أنهم - وحدهم - يملكون الحقيقة، ويحتكرون الإيمان الذي هو مقصور عليهم، وينصبون أنفسهم حماة للحقيقة والدين ضد كل من يخالفهم أو يختلف معهم في الفهم والفكر، واصمين المغايرين لهم بالكفر الذي يوجب إقامة الحد عليهم، واستئصال شأفتهم - هكذا، اغتالت قوى التعصب الديني التي تحولت إلى إرهاب عبدالقادر علولة في الجزائر وفرج فودة في مصر، وما كان يمكن أن ينجو نجيب محفوظ من محاولة الاغتيال التي كادت تنجح لولا ارتعاشة اليد الآثمة التي اهتزت بالسلاح. ولا فارق بين عبدالقادر علولة في الجزائر أو فرج فودة في مصر، فكلاهما ضحية للعقلية الإرهابية نفسها حين تسود، فتستأصل حق الاختلاف وحرية الرأي، وتلقي بكل اجتهاد مخالف في حمأة التكفير الذي يستوجب القتل - ولحسن الحظ، لم يستسلم مثقفو الجزائر وكتابها لوطأة الإرهاب باسم الدين، فقاوموه منذ البداية، مدافعين عن ضرورة حضور الدولة المدنية العصرية بمؤسساتها القانونية والدستورية التي تحمي العقد الاجتماعي وتصونه - وكانوا - في ذلك - واقعين ما بين سندان الحكومات الاستبدادية بفسادها ومطرقة جماعات التطرف الدموية التي حصدت أرواحهم، ووجدت - في الفساد السياسي والظلم الاجتماعي - مرعى وبيلاً، وأرضاً مستعدة لبذور التطرف والإرهاب - ومع ذلك، ظل مثقفو الجزائر الأحرار يقاومون الشر المزدوج لفساد الحكومات وإرهاب جماعات التطرف، فكانوا عنوان رغبة الاستنارة التي لم تهمد أو تنطفئ شعلتها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الجزائر كانت القطر العربي الأول الذي سعى كتابه إلى كشف القناع عن عقلية التطرف الديني التي تفرخ الإرهاب - وكانت رواية الطاهر وطّار - الزلزال - الرواية العربية الأولى التي تناوش عقلية التطرف وتكشف عن قبحها الوحشي المتخفي وراء أقنعته الزائفة التي تعد السذج بأوهام وتخييلات لا حقيقة فيها سوى رغبة الاستيلاء على السلطة والوصول إلى الحكم - وصدرت رواية"الزلزال"سنة 1974 للمرة الأولى عن دار العلم للملايين في بيروت، مجسِّدة المحاولة الأولى لمواجهة عقلية الإرهاب، والإرهاص بكوارثه التي سرعان ما كشفت عن أظافرها الوحشية، وتنبأت الرواية - ويا للغرابة - بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ، خصوصاً حين أنطقت بطلها الشيخ عبدالمجيد بو الأرواح بكلمات الكره لحي سيدي مسيد في قسنطينة - وهو الحي الذي يبدو - في ما يقول الشيخ المتطرف - كحي الجرابيع في رواية"أولاد حارتنا"لنجيب محفوظ - وهي"كتاب ذلك الكافر الذي جبن المصريون عن قتله بسبب ما فيه من كفر وإلحاد وسخرية بالأنبياء والمرسلين والملائكة". وقد تحقق مطلب الشيخ بعد نحو عشرين عاماً، عندما قام شاب إرهابي أغلق التطرف وعيه بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ. وكان ما فعله الطاهر وطار - عندما كتب"الزلزال"- البداية التي تليق بمؤسس"الجاحظية"التي جعل شعارها:"لا إكراه في الرأي"- وهو شعار لا محل له من الإعراب - ولا وجود - عند مجموعات التطرف التي تستأصل المختلف، وتلقي بتهم التكفير على الذين ليسوا منها، ولا يخضعون لأمرائها الذين يقيمون اتحاداً وهمياً بين أنفسهم والدين، فيغدو كل اختلاف معهم أو عنهم كفراً وإلحاداً يستحق صاحبه البتر من الوجود الحي، الأمر الذي لا يزال يعني قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وكما كانت"الزلزال"إرهاصاً بما حدث في الجزائر، في الأعوام التي أعقبت انتخابات سنة 1991 التي حصدت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ الفيس 881 مقعداً في الدور الأول من الانتخابات النيابية، بينما لم تنل جبهة التحرير الوطني سوى ستة عشر مقعداً، الأمر الذي كان تجسيداً لأزمة لها جذورها وأسبابها التي دفعت الإرهاب الديني إلى السطح، ونقلته من الكمون إلى الظهور - وكانت النتيجة طوفان الدماء الذي غمر الجزائر، وقضي على الآلاف الذين راحوا ضحايا الاغتيال والتفجير وأحكام القتل. وهو الطوفان الذي أخذ ينزل سيف الإرهاب يومياً على رقاب العباد، ويفرض على الصحف أن تصدر كل صباح بعناوين الموت والاغتيال. ولم يتوقف الكُتَّاب عن المقاومة التي أدّت إلى اغتيال عبدالقادر علولة، وبدأ جيل جديد من النقطة التي انتهى عندها الطاهر وطار، ومضوا في الكشف عن أقنعة الإرهاب في روايات وأعمال إبداعية، سعت إلى أن تظهر المأساة للعالم كله، وتُري مثقفي الأمة العربية كيف تحولت الجزائر إلى تابوت ضخم، يحتضن الموت، وتحول الشعب الجزائري إلى موتى يتبعون موتى في التوابيت التي صارت علامة على زمن من الموت - وليس من الغرابة - والأمر كذلك - أن يكتب عزالدين ميهوبي شهادته عن الإرهاب الديني باسم"التوابيت: في رواية ما حدث للصحافي". وقد ترك عزالدين الشعر الذي هو أداته الأولى في التعبير فهو شاعر أصدر إلى الآن عدداً غير قليل من الأعمال الشعرية، أذكر منها"اللعنة والغفران"1997 و"ملصقات"و"الرباعيات"1997 و"عولمة الحب... عولمة النار"2002 ولجأ إلى السرد، إيماناً منه بأهمية السرد في رواية تفاصيل الحقائق التي يعتمد عليها صوغ"شهادة"تتحول إلى وثيقة تاريخية، تؤكد أهمية التأريخ لما حدث ورصده، إبقاء له في الذاكرة القومية، وحفاظاً عليه من النسيان الذي تعرفه ثقافتنا العربية، وذلك في لغة حقائق تحكي الوقائع الفعلية، بعيداً من مجازات الواقع الذي لم يعد يحتمل - في وطأة كوارثه - لغة المجاز، ويتطلب السرد المباشر، الصريح والشجاع لما وقع. والسارد في"التوابيت"هو عزالدين ميهوبي نفسه، فهو الصحافي المقصود في العنوان، فقد احترف الصحافة منذ مطلع الثمانينات، وشغل منصب نائب رئيس تحرير جريدة"الشعب"1990-1992 ومدير الأخبار بالتلفزيون الجزائري 1996-1997 وأنشأ صحيفة"الملاعب"الرياضية في العام 1992. وانتخب رئيساً لاتحاد الكتاب الجزائريين سنة 1998 وأعيد انتخابه في 1002. ويحسب له الدور الذي قام به مع أقرانه في"اتحاد الكتاب"في مواجهة الإرهاب الذي وضعهم على رأس قائمة الاغتيالات التي لا تنتهي. ولذلك لا ينسى عزالدين في شهادته التي هي نوع من المذكرات الحية أن يعدد أسماء ضحايا الإرهاب من مثقفي الجزائر الذين دفعوا حياتهم ثمناً لحرية التفكير والإبداع. وقائمة الأسماء تبدأ بعبدالقادر علولة الذي عُرِف خارج الجزائر، وتشمل: أحمد الصابري الأستاذ الجامعي، وبختي بن عودة الذي كان ذنبه أنه يفكر لأنه يبدع، وعبدالحق حمودة الزعيم النقابي، وصالح الجبل المجاهد القديم أيام الثورة، وعزالدين مجوبي المسرحي مثل عبدالقادر علولة، ومحمد بوضياف، وحفيظ سنحضري، والجيلاني اليابس، والهادي فليسي، والطاهر جاووت، ومحفوظ بوسسبي، ومحمد بوخبزة، وقاصدي مرباح، ومصطفى عبادة، وإسماعيل يفصح، وجيلالي بلخنشير، ويوسف سبتي، ويوسف فتح الله، والشاب حسني، والشاب عزيز، والصحافي سعيد مقبل الشهير بعمود مسمار جحا في جريدة"لوماتان"، والصحافية رشيدة حمادي، والصحافي الكاتب جمال الدين زعتر، والصحافي محمد عبدالرحماني، والصحافي مخلوف بوخرز، والصحافي بوسعد عبديش. والقائمة طويلة، محزنة، تدل على عمق المأساة التي - للأسف - لا نعرف الكثير من أبعادها في الأقطار العربية. أذكر أنني منذ أشهر كنت في زيارة الجزائر للمرة الأولى - تخيل؟! - وجلست مع الأصدقاء من بعض كتاب الجزائر، واستدعى الحديث جرائم الإرهاب وضحاياه، وأخذت أسأل عن أسماء الضحايا التي لم أكن أعرفها. وتبارى الجميع بذكر الأسماء التي توقفت عن كتابتها، بعد وقت غير قصير، فقد كانت كثيرة جداً، وفوق قدرتي على الاحتمال. ولا أعرف لماذا سكتنا، نحن الكتاب العرب، خارج الجزائر، عن اغتيال أقران لنا من كتاب ومبدعين، دفعوا حياتهم ثمناً لحرية الفكر والإبداع والتعبير. وقد شعرت - والأسماء تتكاثر في سمعي - بما كتبه عزالدين ميهوبي عن ذاكرة الدم، والتوابيت التي حملت أقراناً لنا في وطن انقلب إلى مقبرة بحجم الحزن والخوف والرعب الذي أورق في كل البيوت، ودفع كتَّاباً وكاتبات إلى الفرار من الجزائر، واستبدال المنافي العربية والأجنبية بصدر الوطن الذي تحوّل إلى تابوت رهيب. وأعترف بأن كتاب عزالدين ميهوبي أرهقني، فلا يمكن أن يحتمل الكائن - بلا رَهَق - كل هذا الحديث عن الموت والاغتيالات والمجازر التي لم تتوقف على صفحات الكتاب الذي تحوّل إلى وثيقة دامية، دامغة، تبقي في وعي الأجيال للعظة والعبرة، وتغدو درساً قاسياً وتحذيراً مخيفاً من فتح الأبواب للعوامل المؤدية إلى التطرف الديني الذي يفرخ الإرهاب والتنبيه إلى الصلة التي تجمع بين تولده وتصاعده في تراكم أسبابه المقترنة بالأخطاء السياسية وتزايد المظالم الاجتماعية وتكاثف الإظلام الفكري. ويعي عزالدين ميهوبي ذلك كله فوعيه حاد بالتاريخ، واهتمامه به نابع من عمق الجرح النازف الذي أصاب وطنه الغالي الذي لا ينبغي أن ينسى مثقفوه ما حدث له، مدركين ضرورة تسجيل وقائع الإرهاب الدامي في وثائق صادقة. ولتذهب جماليات الكتابة المنمقة إلى الجحيم في مثل هذه السياقات التوثيقية التي تحفر نفسها في الذاكرة القومية، فالأهم من أي صفات جمالية هي درجة الصدق والحرص على إثبات الحقيقة على نحو موضوعي، بعيداً من التحيز أو الدعاية لحكومة من الحكومات. وأعترف بأن هذا الهاجس لم يفارق ذهني قبل القراءة فأنا أعلم أن عزالدين ميهوبي كان نائبا في البرلمان، وشغل مناصب لا يشغلها المنبوذون من الحكومة عادة. ولذلك قرأت كتابه بعين متوجسة تتأمل كيفية التقديم، وتتأنى إزاء الأسباب التي يذكرها في سياق تولّد الإرهاب وتصاعده، ووجدته يعرف جيداً، ويذكر ذلك في كتابه، أن فساد النظام السياسي هو الأصل الأول للكارثة، وأن الحكومات المستبدة التي كمّت الأفواه وصادرت حرية التعبير كانت عاملاً حاسماً من عوامل الانفجار. ولا يخلو كتاب ميهوبي من الشهادة المتكررة ضد الحكومات، ابتداء من عملية مصادرة صحيفة"الشعب"التي كان يعمل فيها - إلى جانب غيرها من الصحف - وانتهاء بإلقاء المعارضين في السجون، بل الإشارة الجسورة إلى كتاب حبيب سوايدية، وهو ضابط هارب من الجيش، أصدر كتاباً بعنوان"الحرب القذرة"اتهم فيه مؤسسة الجيش في الجزائر بالوقوف وراء بعض المجازر، وكيف أن القضاء الفرنسي لم ير في القضية التي رفعها الجنرال المتقاعد خالد نزار ما يجعله يدين الضابط الهارب. ولا ينسى عزالدين ميهوبي - في كتابه المقلق - أن يستغل كل مناسبة لعرض أنواع الفساد الحكومي التي انطلق منها الإرهابيون في تضليل أبناء الشعب الذي انطوى على غضب كظيم بسبب فساد حكامه. ولولا هذا الغضب ما حصدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الأصوات التي حصدتها، والتي كانت، في حقيقتها، ولا تزال، ثأراً من الحكومات الفاسدة التي تسببت في كوارث الاقتصاد وانهياره، مستغلة إعلامها الفاسد الذي أحالته إلى أجهزة دعاية بلهاء. ولذلك لا يتردد عزالدين ميهوبي في أن يقول - على لسان صديق له - إن التلفزيونات هي مانحة الشرعية لكل الأنظمة العربية غير الشرعية، ويستغل إقامته في المستشفى ليترك عنان الحديث مرسلاً لمرافقه الممرض الشاب كي يحكي عن تصرفات المسؤولين التي صارت تملأ الشارع. وقس على ذلك حديثه المباشر عن أخطاء السياسة وتفكك الدولة وانكماش السلطة وانفجار الشارع، مؤكداً أن جسم الدولة صار مخروماً من كل الجهات، وأنها عندما غرقت في الفساد أفلت منها الشارع الذي انقلب ضدها، وصار مع أعداء الدولة المدنية والمجتمع المدني، وذلك في متوالية الأسباب التي تصاعدت بالعنف القمعي للإرهاب إلى أبشع ذراه. وليس أدل على بعض هذه الذرى البشعة من هذه الفتوى المخيفة التي تحلل قتل الأطفال الأبرياء. وهي فتوى نشرتها صحيفة"الخبر"في ما يقول ميهوبي الذي يضيف أنه قرأ أيضاً أن مصدر الفتوى شريط"فيديو"ضبطته أجهزة الأمن أثناء تمشيط إحدى المناطق الجبلية. وهي فتوى لها نظائرها في فتاوى بعض أعلام الإرهاب ونجومه في زماننا العليل. وتقول الفتوى لمن أطلقوا على أنفسهم اسم المجاهدين:"باغتيالكم الأطفال تجنّبوهم النشأة في أوساط الكفر. إنكم أنصار الله ونحن خدّامه.. إننا في مرتبة الأنبياء لذا يجب القضاء على الكفار... وعلى كل الذين ليسوا معنا لأنهم مع الطاغوت... يجب أن تواصلوا الجهاد المقدس ضد الكفار لأن جزاءكم قصور الجنة". هذه الفتوى التي تثير الرعب لا تختلف كثيراً في محتواها ومفرداتها وتأثيرها عن خطابات التهديد التي كان يتلقاها الكتاب والصحافيون، ومنها الخطاب الذي تلقاه عزالدين نفسه، كي يتوقف عن إغضاب جماعات التطرف من دعاة الدولة الدينية، وإلا فالويلات المقترنة بأفظع أنواع العنف. وقد تسببت مثل هذه الخطابات، كما تسببت أعمال الاغتيال والمذابح الجماعية، فضلاً عن الاختطافات، في صدمات نفسية دمرت حياة الآلاف من الجزائريين وأحالتهم إلى كتل من الخوف الدائم والرعب المتحرك. وأضف إلى ذلك حالات الاغتصاب التي لا يمكن تخيلها وبقر بطون النساء الحوامل وإعدام أسر بأكملها بلا ذنب لها أو جريرة، سوى دعاوى الكفر الزائفة. لقد أحال الإرهاب الديني حياة الجزائر إلى جحيم يحكي لنا عزالدين ميهوبي بعض وقائعه الموجعة في مذكراته التي هي شهادة كاشفة، في صدقها الجارح، عن المعاناة الفظيعة التي عاناها الشعب الجزائري، وعاناها معه كتاب الجزائر ومثقفوها الذين لم يستسلموا جميعاً، أو يلقوا السلاح في مواجهة الإرهاب رغم اغتيال الكثير وهجرة الكثير منهم إلى أقطار الأمان، فالذين قرروا البقاء آمنوا بما آمن به"ابن نوح"في قصيدة أمل دنقل الشهيرة، عندما رفض ترك الوطن للطوفان، وظل مع أقرانه يلجمون جواد الدماء الجموح، ويستبقون الزمن، علّهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة، علهم ينقذون الوطن، فأبوا النزوح، وقالوا لأنفسهم ولغيرهم: إذا صمت الكتاب والمبدعون انتصر الإرهاب، وإذا لم نسجل ما حدث فقد خنّا الأمانة وأضعنا التاريخ، التاريخ الذي أثبتت الأيام أننا لا نحسن التعامل معه... نصنعه ولا نحسن كتابته، إما خوفاً منه أو تواضعاً أمامه. وبين الخوف والتواضع، يضيع التاريخ ومعه دماء الشهداء التي تذهب هدراً في شوارع يملأها الزور وتغطيها الخيانة. ولم يصمت عدد شجاع من الكتاب والأدباء والمبدعين فسجلوا ما حدث وأدانوه، وواصل الصحافيون فضح جنون جماعات الدم والإبادة، مدركين أن ليس لهم في الأرض وطن آخر يأويهم غير الجزائر، فقد تأكل الغربة أعمارهم، وقد يجرحون الوطن بكتاباتهم لكنهم يعيشون فيه كما يعيش فيهم. هكذا، ظل كتاب كثيرون في الجزائر يقاومون بالكتابة إلى اليوم، وينقشون بأقلامهم وإبداعاتهم ما لم يتوقفوا عن الإيمان به، صارخين في أنفسهم وفينا: لا للموت... لا... للإرهاب... لا للعنف، وظلوا كذلك إلى أن انزاحت الموجة الكبرى من طوفان الدم والموت، وانبثق الأمل حياً، فتياً، لكن بما يغري بالمواصلة والاستمرار في وضع بذور مجتمع جديد وحياة مدنية واعدة، فلهم - جميعاً - التحية والتقدير.