اعلان القاهرة الصادر عن الجولة الثالثة من الحوار الفلسطيني ? الفلسطيني الذي استضافته القاهرة ورعته في آذار مارس الماضي اعطى انطباعاً وكأن ثمة انقلاباً جذرياً قد وقع، في مواقف كل القوى الرئيسة الفلسطينية حيال منظمة التحرير الفلسطينية، تجلى في موافقة حركتي"حماس"و"الجهاد"على"الانضواء في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين"وموافقة"فتح"على التخفيف من هيمنتها على مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وقبولها مبدأ المشاركة، وتوافق وطني على وقف التدهور المستمر منذ العام 1991 في المكانة القيادية والتمثيلية لمنظمة التحرير. وكان يمكن لاعلان القاهرة ان يمثل بالفعل تحولاً استراتيجياً في العلاقات البينية الفلسطينية - الفلسطينية، واعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، ويؤسس لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساس ديموقراطي تعددي، ويؤمن الشرط الذاتي الفلسطيني في الضغط من أجل اعادة بناء العملية السياسية التي انهارت في كامب ديفيد2، على أسس جديدة تضمن الحدود الدنيا من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. لكن مجريات الامور والوقائع على الارض تدل الى أن الطريق أمام اعلان القاهرة ليست سالكة، وهذا ما أكدته وقائع الشهور الثلاثة الماضية، حيث ان ما جرى الالتزام به فعلياً من اعلان القاهرة هو استمرار التهدئة من الجانب الفلسطيني من دون التزامات اسرائيلية مقابلة، ولا يغير من الحقيقة السابقة الاقرار بانخفاض وتيرة الاعتداءات والاجتياحات الاسرائيلية خلال الفترة المذكورة. إن سبب تعطيل اعلان القاهرة مبعثه طريقة التعاطي مع هذا الاعلان من قبل بعض الاطراف الموقعة عليه، حيث لم يتم التعاطي معه كرزمة واحدة، فالسلطة الفلسطينية ركزت فقط على قرار التهدئة، وراحت تناور في القضايا الاخرى التي اشتمل عليها الاعلان، مما أدى الى تعطيل الدعوة للجنة العليا التي نص على تشكيلها في الاعلان، والتي عليها أن تبحث في إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وجرت مماطلة في تعديل قانون الانتخابات التشريعية الجديد وفق المناصفة، 50 في المئة تمثيل نسبي و50 في المئة دوائر، ونتيجة لذلك أُجلت الانتخابات التشريعية الى أجل غير مسمى، وأكثر من ذلك عادت الاجهزة الامنية في السلطة الفلسطينية لممارسة الاعتقالات في حق قيادات حركة"الجهاد الاسلامي"، كما فعلت مع قادة من الجبهة الديموقراطية بعد عملية كتائب المقاومة في"حاجز أبو هولي/قطاع غزة"، وتأججت صراعات أجنحة السلطة الفلسطينية بما بات يهدد بانفجارات لا تحمد عقباها أشد من تلك التي سبقتها، وفي خط متداخل مع هذا الصراع يستمر الصراع الفتحاوي الداخلي. وفي المقابل فشلت اطراف الاعلان الاخرى في توحيد قواها بموقف ضاغط على فتح والسلطة الفلسطينية للالتزام بما تم الاتفاق عليه في اعلان القاهرة، لأن بعضها يرى في قوانين الانتخابات الانقسامية القديمة ما يحقق مصالحه الفئوية والخاصة. المشهد السياسي الفلسطيني الراهن، ربطاً بالوقائع السابقة، يطرح سؤالين مهمين، الاول: مدى جدية السلطة الفلسطينية في الالتزام بما تم الاتفاق عليه في إعلان القاهرة، ومدى تطابق ما ورد في الاعلان مع مصالح قيادة السلطة، وبالتحديد في ما يخص اعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، والشراكة السياسية. والسؤال الثاني: هل باتت تتوافر لدى كل قوى المعارضة الفلسطينية ارادة سياسية كي تمارس دورها وترسمه في العلاقات الداخلية الفلسطينية بما هي معارضة لها حقوق وعليها التزامات، تطبيقاً لمبدأ الشراكة السياسية. في الاجابة على السؤال الاول نلاحظ بأن السياسات التي تنتهجها السلطة الفلسطينية ما زالت تراوح في حدود محاولة اعادة الروح الى العملية السياسية والتفاوضية، باللهاث وراء سد الذرائع الاسرائيلية والاميركية التي تبدأ ولا تنتهي على حساب اعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وبناء استراتيجية فلسطينية موحدة. هذه السياسة جعلت من بنود اعلان القاهرة رهينة المواقف الاسرائيلية الاميركية، فالانتخابات التشريعية المقبلة يجب ان تكون مضمونة النتائج مسبقاً لمصلحة تيار معين ومهيمن في السلطة الفلسطينية، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير يجب ألا يكون على حساب الدور الذي كُرس وحُدد للسلطة الفلسطينية في السنوات العشر الاخيرة على حساب منظمة التحرير، ومكافحة ما يسمى ب"الارهاب"يجب ان يكون على رأس أولويات السلطة... الخ. وفي الاجابة على السؤال الثاني فان الارادة السياسية لدى بعض اطراف المعارضة ما زالت غير متوافرة لجهة حسم خياراتها حيال منظمة التحرير وكذلك لجهة التعامل في العلاقات الداخلية الفلسطينية من موقع المعارضة. وبالنتيجة فان موقف السلطة ومواقف بعض اطراف المعارضة ستؤدي حكماً الى استمرار تراجع المكانة القيادية والتمثيلية لمنظمة التحرير، التي ينظر اليها تيار نافذ في قيادة السلطة الفلسطينية ك"لزوم ما لا يلزم"، وبأن التخلص منها مستقبلاً في احدى مراحل العملية السياسية التسووية يمثل شرطاً لازماً لتتويج هذه العملية بحل متفق عليه بين السلطة واسرائيل. إن الشطب التدريجي لمنظمة التحرير هو أحد الشروط الاميركية ? الاسرائيلية منذ انطلاق مؤتمر مدريد في تشرين الاول اكتوبر 1991. وتجلى هذا في اصرار الولاياتالمتحدة واسرائيل على رفض التمثيل الفلسطيني المستقل في المؤتمر، وحصره بحضور شخصيات من الضفة والقطاع من دون القدس واللاجئين، مدرجة في عداد الوفد الاردني، وهو ما اظهر بوضوح ان شطب المكانة القيادية والتمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية هو شرط مسبق للقبول بمشاركة الفلسطينيين في المؤتمر، كما أشر في الوقت ذاته الى المسار الذي يجب ان يتخذه الحل المقبول اسرائيلياً واميركياً، كيان فلسطيني منقوص السيادة في الضفة وغزة، مع احتفاظ اسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبرى ومعظم اراضي القدس، وعلى ان يتم احلال سلطة هذا الكيان الفلسطيني محل منظمة التحرير في شكل تدريجي، على طريق انهاء دور منظمة التحرير الائتلافية، وشطب برنامجها الذي يضمن الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وترابط القضية الوطنية الفلسطينية بين الداخل والشتات. لقد لاقى الشرط الاميركي ? الاسرائيلي السابق قبولاً ضمنياً من القيادة المتنفذة في منظمة التحرير، التي استأثرت في ما بعد بقيادة السلطة، وصارت تقدم صفتها القيادية السلطوية على قيادتها لمنظمة التحرير. ولا يغير من هذا الحكم استقلال التمثيل الفلسطيني في مفاوضات واشنطن، ولا الحضور الرمزي والعابر لمنظمة التحرير في التوقيع على اتفاق"إعلان المبادئ"في ايلول سبتمبر 1993 الذي توج القناة الخلفية الاوسلوية، فاعلان المبادئ هذا الذي ولدت من رحمه السلطة الفلسطينية كان ايذاناً ببداية فرض وقائع جديدة على الارض، تطاول بنية النظام السياسي الفلسطيني، غايتها تكريس السلطة الفلسطينية بديلاً من منظمة التحرير الائتلافية. وهذا تم عملياً في انتخابات 1996 التي انتخب فيها رئيس السلطة الفلسطينية واعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما اعتبرته الولاياتالمتحدة وأوروبا والعديد من الدول العربية"إضفاء الشرعية على الاهداف الوطنية الفلسطينية، وتكليف قيادة منتخبة متابعتها"، وكان هذا بمثابة أول اعلان رسمي لتجاوز الدور القيادي والتمثيلي لمنظمة التحرير. وما كان من الممكن تمرير خطة إحلال السلطة الفلسطينية مكان منظمة التحرير إلا بإيجاد تداخل واسع في الهياكل القيادية لكل من السلطة الوليدة ومنظمة التحرير، لتبدأ بعد ذلك عملية ازاحة تدريجية لمصلحة السلطة الفلسطينية. فرئيس السلطة هو رئيس منظمة التحرير، ومعظم وزرائها هم من اعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أو من اعضاء المجلس المركزي الفلسطيني، بذلك نجحت التغطية على عملية سحب البساط من تحت منظمة التحرير ومؤسساتها الائتلافية. ويتضح مما سبق ان اعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير يتطلب أولاً وقبل كل شيء ازالة التداخل، الذي يصل الى حد التطابق، بين مؤسسات منظمة التحرير ومؤسسات السلطة الفلسطينية، وسحب الصلاحيات القيادية والتمثيلية التي اعطيت لمؤسسات السلطة على حساب صلاحيات مؤسسات منظمة التحرير، وهذا جوهر ما نادى به اعلان القاهرة. لكن ما يجري عملياً وعلى ارض الواقع هو المزيد من تكريس دور مؤسسات السلطة الفلسطينية على حساب دور مؤسسات منظمة التحرير شبه المتلاشي، ولا أدل على ذلك من المعركة الدائرة بين محمود عباس وفاروق القدومي حول صلاحيات كل من الدائرة السياسية في منظمة التحرير ووزارة الشؤون الخارجية في السلطة الفلسطينية، وغني عن الذكر ان عباس استطاع تحصيل مكاسب كبيرة في هذه المعركة، بدعم دولي مسنود من العديد من العواصم العربية الرئيسية والمقررة. ان المأزق الداخلي الفلسطيني الراهن يبقي الباب مفتوحاً امام استمرار الخطوات الاسرائيلية احادية الجانب، واستغلال اسرائيل للتناقضات الداخلية الفلسطينية الى أبعد الحدود. فخطة الفصل الاحادي الشارونية التي تدفع بها واشنطن لتكون بديلاً من خطة خارطة الطريق الدولية تحت يافطة انها التطبيق العلمي للخطة الدولية، اصبحت بمثابة فرض أمر واقع على سلطة فلسطينية منهكة تعيش صراعات داخلية باتت تهدد وجودها، وتتخبط وسط حقول من الالغام الاسرائيلية التي لا تستطيع تجاوزها، من جدران الفصل والضم العنصرية، مروراً بتهويد القدس، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى، ومسخ الدولة الفلسطينية الموعودة الى دولة بحدود موقتة غير متواصلة جغرافياً، وصولاً الى شطب قضية اللاجئين وهذه وحدها كافية لتفجير أي حل يستثنيها. مع وقت يضيق ويقلص مساحة المناورة، ومشروع شاروني مدمر يطبق على الارض، فإن قبول الفلسطينيين بانصاف الحلول لمأزقهم الداخلي لم يعد ذا جدوى، والكرة في ملعب المعارضة، فهي ان احسنت ادارة المعركة بسياسة ومواقف موحدة ستستطيع ان تفرض كرزمة واحدة كل ما تم الاتفاق عليه باعلان القاهرة، وعليها ألا تنتظر ان تقدم السلطة الفلسطينية من تلقاء نفسها على تنفيذ اصلاحات جذرية في مؤسساتها، وتصويب خطها السياسي. وعلى كل اطراف المعارضة ان تحسم خياراتها، وان تتوحد على ارادة سياسية، لتبدأ في مسيرة اعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير وان تجعل من ذلك معركتها الرئيسة، تقدم على كل المعارك الفرعية، فأي نصر في الانتخابات التشريعية والبلدية لا يمكن له ان يرقى الى مصاف هذا الهدف المركزي، بما هو ركيزة لبناء استراتيجية فلسطينية موحدة، تعيد التلاحم لعناصر القضية الفلسطينية، وتعيد توحيد نضال الفلسطينيين في الوطن والشتات. وإلا فان وجهة النظر التي ستسود هي"التعامل مع منظمة التحرير كلزوم ما لا يلزم"الى حين اعلان وفاتها، وهذا بالضبط ما تريده اسرائيل ومن ورائها واشنطن. كاتب فلسطيني مقيم في سورية.