تبذل السلطات السورية جهوداً واضحة لتعديل صورة النظام الاقتصادي السوري، والمؤشرات على المساعي في هذا الاتجاه كثيرة. لكن نجاحها يحتاج الى جهود أكبر وتحول أوضح وتفكيك لنظام الحزب الواحد في مجال السيطرة على الادارة الحكومية. تبنى المؤتمر القطري لحزب البعث مقررات تشير الى نية تحرير النشاط الاقتصادي، لكن خطوات التحرير التي أقرت، تناولت أبسط الأعمال والنشاطات في حين يمكن أن يكون الاقتصاد السوري في معطياته الطبيعية والتاريخية والبشرية منطلقاً لنشاطات متنوعة ومتوسعة، بشرط أن يقتنع المستثمرون بأن العوائق أزيلت، وأن النظام تجاوز نظرية سيطرة الحزب على القرار الاقتصادي. كان العمل المصرفي ساحة الاختبار الأولى، واحتاجت التشريعات الخاصة بالنشاط المصرفي الى ثلاث سنوات كي تتبلور على شكل مقنع. وهناك اليوم توجه للسماح لغير السوريين بتملك نسبة تزيد على 49 في المئة من أسهم المصارف، وكان هذا الرقم سقف الملكية الأجنبية الذي أقر. وحينما تقرر السماح بنشاط المصارف الخاصة، أوجبت هذه الخطوة تعديلات مواكبة، اذ لا نجاح للعمل المصرفي من دونها. من بين التعديلات الآنية المقترحة، وجب السماح لشركات التأمين الخاصة بالعمل في سورية. فعملية الاقتراض في مقابل الرهن في سورية تستوجب اجراءات وكلفة لا ينتهي العمل على انجازها قبل انقضاء بضعة أشهر، وبالتالي كان الاتجاه نحو توفير بوالص تأمين على الحياة من قبل المقترضين، أو بوالص تأمين تبتكر شروطها من أجل توفير الضمانة للمصارف وتسهيل عمليات الاقراض. يستوجب تحريك الاقتصاد رعاية حرية القرار في الاستثمار والانتاج، طالما الانتاج لا يخالف الشروط الصحية والقانونية. وسورية كانت بين الدول العربية المشرقية الأولى التي نجحت في تأسيس الشركات المساهمة الصناعية، التي حققت نجاحاً ملحوظاً في مجالات النسيج ومواد البناء والمواد الغذائية قبل تأميم المؤسسات واعطاء أصحابها تعويضات رمزية لا أكثر ولا أقل. ومعلوم أن سوق الأسهم التي انتعشت في سورية بعد الحرب العالمية الثانية خمدت ومن ثم اندثرت قبل نهاية الستينات وسيادة منهج الحكم المركزي في التخطيط والقرار. العالم اليوم يعيش فترة مناهضة لأنظمة التخطيط المركزي، والرسوم الجمركية الحمائية أو الممارسات الكمية والنوعية المتحكمة في تدفق المنتجات والخدمات ما بين الدول. وتبدو سورية، حتى في ضوء محاولاتها الأخيرة المحدودة لتحرير القرارات الاقتصادية والمبادرات الفردية، بعيدة من معايشة التطورات العالمية والاقليمية. وهذا أمر فيه خسارة لها وللبلدان العربية وتركيا في المشرق العربي. المثال الواضح بصدد استمرار القرار المركزي في التحكم بالقضايا الاقتصادية، وتعليق القرار المركزي على الاعتبارات والتوجهات السياسية السائدة، يتبدى من تعليق اتفاق تسليم الغاز الى لبنان لتغذية محطة البداوي بما يساوي 105 ملايين متر مكعب سنوياً، وربما زيادة الكمية الى الضعف مع تزويد معمل انتاج الكهرباء في الزهراني بكمية مماثلة. الاتفاق وضع لتأمين الكميات على مدى 20 عاماً من تاريخ بدء ضخ الغاز الطبيعي، وانجزت سورية القسم الأكبر من خط ضخ الغاز الى شمال لبنان، وانجز لبنان الجزء الخاص به والذي استوجب انقضاء ثلاث سنوات لاتمامه وارتفاع كلفته ثلاثة أضعاف ، من 11 مليون دولار الى 35 مليون دولار ، قبل أن يصبح جاهزاً للتشغيل بفاعلية. وبعد التجهيز اللبناني وتوقع استلام الغاز من سورية وتحقيق وفر لا يقل عن 130 مليون دولار سنوياً في ثمن اللقيم، ووفورات كبيرة على صعيد تلوث البيئة وأكلاف صيانة أدوات الانتاج، أبدى السوريون تمنعهم عن الالتزام بالاتفاق القائم، وهم يطالبون بإعادة المفاوضات حول شروط التسليم خصوصاً منها الأسعار والكميات. وربما هناك ما يجيز اعادة المفاوضات، ذلك ان الاتفاق انجز على افتراض سعر برميل النفط بنحو 30 دولاراً وقد أصبح اليوم على مستوى 60 دولاراً، لكن تعديلات الأسعار كانت دوماً تدخل في عقود تسليم مشتقات الطاقة المعقودة على سنوات. ومعلوم ان عقود شراء الغاز الطبيعي تحدد بنسبة من سعر الخام قياساً الى الطاقة الحرارية، وهذه النسبة غالباً ما تتراوح بين 50 و60 في المئة. بكلام آخر، اذا شاءت سورية الحفاظ على صدقيتها، ليس بالنسبة الى عقد تزويد محطة دير عمار فقط، بل بالنسبة الى جميع عقود الغاز، ومن بينها عقود تشمل سورية وتركيا والأردن ومصر ولبنان برعاية البنك الدولي، يجب عليها أن تباشر تسليم كميات الغاز الى معمل دير عمار من دون تأخير، وتبدأ المفاوضة مع اللبنانيين لتعديل شروط السعر والكميات. وفي الوقت ذاته يتقيد البلدان بمشاريع تمديدات خطوط الغاز في المنطقة، ينتج عنها منافع ملحوظة لبلدان الانتاج والتصدير كما لبلدان الترانزيت والاستهلاك. أصبح المناخ الاقتصادي اليوم معولماً، وعلى سورية أن تسرع خطواتها في مجال تحرير قرارات اطلاق الأعمال واطلاق حرية المبادرات. وكي تكون هناك قناعة مترسخة بأن المنهج السوري الانفتاحي مستمر بعد عقود من التقيد بالقرارات المركزية وتحمل الهدر في مجالات صناعية وخدماتية كثيرة، يجب أن تبادر سورية الى التزام عقودها مع دول المنطقة ومع السوق الأوروبية. ان المبادرات المطلوبة من سورية هي ربما صعبة لنظام الحكم والادارات الحكومية التي واظبت على التمسك بأصول واجراءات عفا عليها الزمن. لكن اهمال متطلبات الانفتاح والمعاصرة سيتركها في عداد الدول القليلة العاجزة عن التكيف مع مستوجبات التغيير. وحينئذ تكون هناك خسارة ملحوظة لسورية ولبنان والدول المحيطة بالبلدين. مستشار اقتصادي.