للوهلة الأولى يخيّل إليك أن المدينة لم تتغيّر. كأن الجزائر العاصمة لم تجتحها أعاصير وزلازل، ولم تجر في شوارعها أنهار من الدم. العاصمة ليست عمق الوطن طبعاً، لكنّها بوصلته ومزاجه. بواجهاتها الأبديّة، تلك الواجهات البيضاء المكحّلة بالأزرق التي ترنو بصبر وزهو وطمأنينة إلى البحر المتوسّط، تبدو المدينة لزائرها كأنّها تستعدّ، كأي عاصمة متوسطية أخرى، وافريقية ومغاربيّة...، لاستقبال فصل الصيف. الحرّ لم يبلغ ذروته هنا، الناس يسعون وراء غاياتهم ومشاغلهم اليوميّة. في قلب العاصمة، النساء، بالزيّ الأوروبي غالباً، منسجمات مع آخر صرعات الموضة... لكن المرء يخالجه احساس لاشعوري بوجود شيء من القسوة والتوتّر والقلق، يصعب حصره أو تحديد مصدره والتثبّت من حقيقة وجوده... الصحف المستقلّة كثيرة، تُدهش من يعود إلى البلد بعد غياب خمسة عشر عاماً، بحثاً عن معالم ووجوه عزيزة، ونقاط ارتكاز..."لكنّ قلّة منها تقول كلاماً له معنى اليوم"، يعلّق بأسى الصحافي ياسين تملالي الذي ينتمي الى جيل وسيط هو حلقة وصل بين زمنين: أحدهما مثقل بجروحه و"أوهامه القوميّة"، والآخر معلّق في فضاء الحيرة و"اغراءات العولمة". أين آثار السنوات الرماديّة؟ هل مرّت الحرب الأهليّة من هنا؟ أين الشباب اليوم؟ كيف يعيشون؟ وبمَ يحلمون؟ وكيف ينظرون الى المستقبل؟ أين هؤلاء اليوم من السنوات السود التي ترعرعوا فيها، واتخذهم عنفها وقوداً له، فكانوا"أبطاله"و"ضحاياه"في كلّ الأحوال؟ في تشرين الأول أكتوبر 1988، كان شباب الجزائر في الشوارع، يطالبون بالديموقراطية وحريّة التعبير والبحبوحة الاقتصاديّة والتخلص من نير الحزب الواحد... لكن الأحداث اتخذت المجرى الذي نعرف، وبدلاً من الحريّة عمّت الفوضى، بدلاً من الديموقراطيّة - وبسبب احتجابها على الأرجح - عمّ العنف الأعمى، بدلاً من البحبوحة تعاني البلاد اليوم من حال الفقر، ويواجه الاقتصاد تحديات حقيقية على المدى المنظور. الجزائر، أو"المدينة البيضاء"... من مكان ما في الذاكرة يتصاعد صوت ليلي بونيش: j'aime toutes les villes et un peu plus Paris لكن ماشِ بحال L'Algerie احب كلّ المدن، وربّما باريس أكثر، لكن ليس كما احبّ الجزائر.... دائماً ذلك الحنين إلى زمن مفقود، وأندلس ضائعة... المغنّي المذكور من يهود الجزائر الذين غادروا بعد الاستقلال، وحنينه مفهوم ومبرر. لكن المقيمين، أهل البلد، لا يفلتون من فخّ الرومانسيّة. جيل القدماء، في معظمه، يمضغ الحنين نفسه، وينصرف عن الراهن وأسئلته المحرجة. فيما الشباب لا يريد أن يسمع شيئاً عن الماضي، يكفيه الحاضر وخرابه العظيم. في سيارة التاكسي التي تقلّنا من المطار الى الفندق، يبدو الرجل السبعيني هو الآخر كأنّه لم يشهد سنوات العنف الأهلي، وعنف الجماعات المسلّحة ومناورات السلطة وتجاذباتها. يروي لنا الصديق العائد من فرنسا زيارته المؤثرة الى ابن عمّه الذي كان مجاهداً في حرب التحرير، ومن الضاحية الباريسيّة التي صارت وطنه، تدمع عيناه كلّما تذكّر الجزائر. ويروي لنا صديقنا بالتفصيل المملّ طرق التعذيب البشعة التي تعرّض لها قريبه على يد الفرنسيين، والتي لم يشف منها منذ ستينات القرن الماضي. كأن شريحة كاملة من الشعب الجزائري لم تشف بعد من حرب الاستقلال. يشهد على ذلك حجم الاصدرات والمبيعات التي تستعيد تلك الحقبة من مختلف جوانبها وزواياها. هل هو شرخ بين الأجيال؟ هل هناك"أسطورة مؤسسة"في حاجة الى اعادات نظر؟ هل هناك خطيئة أصليّة لم يتم التكفير عنها، وأخطاء تأسيسيّة حملت بذور العنف اللاحق والتمزّق الأهلي؟ محدثنا قفز فجأة من حرب تحرير الجزائر إلى"الفتنة الأهليّة"في... لبنان:"في الحقيقة أنا لا أفهم ماذا يحدث عندكم. المسألة معقّدة في لبنان يا أخي. عندما تكثر المذاهب تعمّ الفتنة". فلنحاول إذاً أن نفهم ماذا يحدث في الجزائر. أوّل ما يلفت النظر هو تلك القطيعة الصارخة بين مراهقي اليوم، وبين صور الحرب المترسبة في ذاكرتنا. الملتحون تراجعوا الى الهامش، وتركوا المدينة لشبابها الذي لم يعد يغريه خطاب المتطرفين، بعدما اكتشف زيف الشعارات والأوهام الراديكاليّة. ال"حيطيست"أو العاطلون الذين كانوا في القرن الماضي يسندون الجدران طوال النهار، يبحثون اليوم عن مجالات عمل... ويسمعون آخر تسجيلات التكنو والروك، يلبسون مثل إمينام أو ليوناردو داكابريو، ويحلمون بالسفر."كل الشباب هنا يحلمون بالسفر، غير مهمّ إلى أين. لا بدّ من الافلات من هذا العالم الضيّق الذي لا يوفّر أملاً أو مستقبلاً". هذا ما يقوله محمّد رفيق التسكّع في أحياء الجزائر، وزواريبها وأماكنها الخاصة، بنبرة استنكار يائس. إنّه من الذين انخرطوا في العمل السياسي وناضلوا في صفوف"الطليعة الاشتراكيّة"، وواجهوا المتطرفين، وما زالوا يطمحون الى لعب دور في بناء المؤسسات، وترميم البنى المتصدّعة. ويرى محمّد أن"الشباب ذهب اليوم إلى مزيد من التحلل والضياع، بعد انهيار منظومة القيم التقليديّة دفعة واحدة، وانحسار الخطاب الأصولي. هؤلاء"يصيعون"في العوالم السفلية من المدينة حيث"حياة الليل"الوليدة. لكنّ المسألة كالعادة"مسألة فلوس"، والنوادي الليلية قليلة وتفترض قدراً من"الشياكة. إنّها"للشباب الميسورين، والمال مصدره معروف أكثر الأحيان". أما في النهار، فهناك موضة صالونات الشاي،"فيها يلتقي الشباب والصبايا، يتناقشون ويتحدثون عن المستقبل". شارع باستور الذي كان في العقود الماضية معقل الشباب، ينغل بالمقاهي وأماكن اللقاء، يبدو اليوم مستكيناً، في هذا الوقت من النهار الذي يخف فيه الحرّ ويخرج الناس الى جلسات السمر. لماذا هجره شبابه؟ يضحك محمّد:"واضح أنّك انقطعت طويلاً عن الجزائر!". كانت الجامعة الوطنية هنا هي لولب الزخم الشبابي، ومصدر الحركة والتجمّعات... اليوم نقلت الجامعة بقرار سياسي، بل جزّئت ووزّعت على جهات عدّة، فهل يمكن أن يكون هذا القرار بريئاً؟". الشباب يخيفون إذاً؟ إذا نظرنا عن كثب إلى الانتاج الموسيقي الرائج، من روك وراب خصوصاً، نتأكّد من استحالة تعميم تلك الصورة"المائعة"و"الهروبيّة"السائدة عن الشباب الجزائري في مرحلة"ما بعد الارهاب". ال"راب الجزائري"هو الطاغي على الساحة، وبات ذا شهرة عالميّة، متجاوزاً ال"راي"الذي كان قبل عقدين عنوان ثورة الشباب وتمرّدهم ومجاهرتهم بالحياة. اليوم صار الشاب مامي نجم الفضائيّات العربيّة، يسمعه العرب ويحلمون بأرض الجزائر البعيدة، أما الشباب الجزائري فيسمع ال RAP كما تؤديه فرقة DOUBLE KANON مثلاً، وهي تتناول في أغنياتها الموقّعة الراقصة، مثل"كون جيت ريش"لو انني كنت غنياً،"أسياد الجزائر"،"قلوب ولّت باردة"،"كوندانيه"، العلاقات بين الشباب والبنات، كما تتناول الفساد وانعدام الحريّة والعدالة، والقمع وثقل البيروقراطيّة، وتسخر من طبقة حديثي النعمة، وتخوض مواجهة مفتوحة مع الخطاب المتشدد وتقاليد جيل الآباء وسائر المتزمّتين."مهما ندير ومهما نكون/ On est Algerien". نسأل عن كيفية الحصول على بعض تسجيلات"الشعبي"وال"راب"، فيدلنا أحد الأصدقاء على محلّ أسطوانات في وسط البلد... هو بحدّ ذاته اختصار لوضع الشباب الجزائري. محلّ"شرعي"رحب ومرتّب، تحيط بجدرانه الرفوف الأنيقة التي تحميها واجهات زجاجيّة، وعليها كلّ ما يمكن أن تتصوّره من أفلام عربيّة وعالميّة... من الأفلام المصريّة عن الارهاب عادل إمام وغيره، إلى أحدث الأفلام الهوليوديّة. عالم على حدة، مقرّ أنيق، وباعة مهذبون يعتنون بالزبائن. كلّ شيء طبيعي هنا، لولا تفصيل بسيط هو أن كلّ هذه الأفلام... مقرصنة! منسوخة بعناية على أقراص دي في دي، في أغلفة أنيقة مأخوذة بتصرّف عن النسخة الأصليّة. وفي الدور العلوي المخصص للأغنية والموسيقى، والذي يعجّ أيضاً بالزبائن الشباب، كميات خرافية من الأسطوانات المقرصنة هي الأخرى. كل ما تحلم به من أعمال قديمة أو جديدة، الشيخ العنقة ورينات الوهرانيّة ودحمان الحراشي، ومطربو الشعبي الأحياء، وصولاً إلى آخر تسجيلات الراي والراب. الشباب أيضاً اقتحموا مجال النشر والمكتبات، ليحتلّوا موقعهم في تشكيل المجتمع الجديد. هكذا أطلق سفيان حجّاج دار"برزخ"للنشر تراهن على الكتاب الفنّي والثقافي، وتنشر بالعربيّة والفرنسيّة... علماً أن الصراع ما زال قائماً في قلب المجتمع، بين الفرنكوفونيين"الحداثيين والتقدميين"من جهة، وال"آرابوفون"أي أصحاب الثقافة العربيّة، من جهة أخرى، وتحيط بهم صبغة"التقليديين"أو المحافظين والمتشددين أحياناً. وهناك اليوم من يجاهر في الجزائر، أن الحرب الأهليّة - إذا جاز تسميتها كذلك - أوّل مسسبباتها هذا الشرخ الثقافي واللغوي بين أبناء الشعب الواحد. طبعاً هذه النظرة الاختزاليّة والتبسيطيّة أليس الفارق طبقيّاً في العمق بين شرائح مختلفة من المجتمع؟، يعمل الجيل الجديد على تجاوزها من خلال إقحام اللغة العربيّة في أكثر المجالات تقدميّة وطليعيّة، بعيداً عن الخطاب التقليدي أو الفولكلوري. أليس هذا رهان"جماعة الاختلاف"التي حملت بعض الكتّاب والنقاد الشباب الى الساحة الثقافيّة خلال العقد الماضي؟ أحد كتّاب الاختلاف، بشير مفتي مواليد 1969 وآخر اصداراته رواية بعنوان"شاهد العتمة"، كان مفتوناً بالخطاب المتطرف في السادسة عشرة من عمره، يروي لنا أحد زملائه من الجيل الأسبق. وإذا به من الأعضاء الناشطين في صفوف الاختلاف والمدافعين عن الخطاب العقلاني والعلماني والتعددي. ويلّح صديقنا:"هذا هو تحوّل جيل انخرط بصدق في أوهام حركة التغيير الوحيدة المقنعة قبل عقدين، ثم استعاد صحوته بعد الصدمة الدمويّة". يقودنا سفيان حجّاج إلى نفق الضوء... وهو أحد أنفاق العاصمة الجزائريّة الذي أقام فيه الفنان الفرنسي فيليب مويون تجهيزاً بالضوء أشرك فيه فنانين عالميين مثل رشيد قريشي، ويليام كينتريدج، فريد بلكاهية، عادل السيوي، جاكلين فابيان، غولسون كرا مصطفى، أستير غرينسبوم... أقيم المشروع قبل عامين وبات من معالم المدينة، يعطي للعابرين فسحة رجاء، ويعيد الفضاء العام للأفراد الباحثين عن معنى جديد للمواطنة والانتماء. لقد كرّس حجّاج في منشورات"برزخ"، كتاباً كاملاً لهذه التجربة، يتضمّن صوراً للأعمال ونصوصاً ترافقها، وتعريفاً بالفنّانين وخلفيات المشروع. خلافاً للعديد من الناشرين المستقلّين من أقرانه، يراهن حجّاج على الكتاب الثقافي كهدف وحيد لداره. ذلك أن دوراً أخرى، قررت أن تخوض تجربة نشر الكتاب المدرسي، بعد أن فتحت الدولة هذا المجال الحيوي والمربح للقطاع الخاص"كي تحكم تدجينه"بتعبير حجّاج. تتسع الحلقة في مقهى صغير، في ظلّ تمثال الأمير عبدالقادر. في هذه الساحة وقعت انفجارات لا تنسى خلال حرب التحرير. وخلال مرحلة الارهاب الاخيرة وقعت انفجارات مماثلة... كأن قدر ساحة الأمير عبد القادر أن تختزل التاريخ الجزائري الحديث بتناقضاته وصخبه وعنفه الدموي. سفيان ينتمي الى هذا الجيل الجديد الذي يبحث لنفسه عن مكانة ودور... ورهانه في تأسيس دار نشر خاصة بالانتاج الأدبي والفكري والفنّي، يستحق وقفة متمهّلة:"الدور التي تتخذ من الكتاب الثقافي ذريعة لها، أو نوعاً من الترف ووسيلة لتحقيق الشرعيّة والاحترام... فيما اولوياتها في مكان آخر، تجاري تماماً، هذه الدور لا تخدم الثقافة، بل تستغلّها. وحين تتضاءل ارباحها من الكتاب المدرسي، تسارع الى قطع المال عن منشوراتها الثقافيّة التي ليست هدفاً في حد ذاتها، بل نوع من الكماليات". ويضيف:"أتساءل أيضاً أي هامش للحريّة تتمتّع به دار نشر مرتهنة للدولة من خلال عقود الكتاب المدرسي التي تدرّ عليها أرباحاً ثمينة؟ هل تخاطر بعدها في اصدار كتاب"مزعج"أو نقدي"وتعرّض نفسها لخسائر مادية كبيرة؟ على الخط البحري في اتجاه حي باب الواد. كل العمارات مكسوّة من أعلى إلى أسفل بالصحون اللاقطة، كأنّه الجراد العملاق وقد غزا تلك الواجهات البيضاء الجميلة. التلفزيون هو الأفق المشرّع على العالم. يوضح لنا زميل جزائري مهتمّ بالاعلام المرئي والمسموع:"خفّت نسبة مشاهدة الفضائيّات الغربية بعد حرب الخليج، واكتشفنا المشرق وكليباته ونجماته... اكتشفنا الجزيرة، وسائر الفضائيات. الناس يريدون أخباراً عربيّة لا اخبار موجهة ضدّ العرب". أمام"المسرح الوطني"تلك المؤسسة العريقة التي كانت أيّام الاحتلال الفرنسي"أوبرا الجزائر"نستعيد عدداً من الوجوه التي غابت والتي التقيناها مراراً في كواليس ذلك الصرح وصالاته: مصطفى كاتب، ولد كاكي، سيراط بومدين، بوقرموح، كلثوم... أو الذين غيّبهم العنف الأعمى من عبدالقادر علولة الذي سقط في وهران وعزّ الدين مجوبي أحد أبرز ممثلي"مسرح القلعة"، أوّل فرقة مستقلّة أطلقها الزياني شريف عيّاد أيّام طغيان القطاع العام وسلطة الحزب الواحد. لقد اغتيل مجوبي هنا تماماً عند درج المسرح، بعيد تعيينه مديراً للمسرح الوطني. نعبر أمام القصبة، ذلك الحي الشهير الذي صوّر دائماً بصفته معقلاً للمتطرفين، وهو من أعرق الأحياء الشعبية في العاصمة وأقدمها. الحياة طبيعيّة هنا، كأنك في أي مدينة قديمة في المغرب العربي. ونصل إلى حومة باب الواد التي خلّدها مرزاق علواش في فيلم"باب الواد سيتي"، في عزّ موجة العنف في الجزائر، وكان صوّر في الحيّ نفسه أوّل أفلامه"عمر قتلاتو الرجلة". أبناء الحومة باتوا ينظرون الى أنفسهم من خلال السينما. فأوّل ما يطالعنا في الحيّ، كشك جرائد ومرطّبات اسمه"باب الواد سيتي". سمعنا عن مكتبة لا بدّ من زيارتها هنا لأنّها تعبير حيّ عن تحوّل العاصمة واحيائها. نسأل عن مكتبة"شهاب"إذاً."بعد سينما Marignan، مئة متر الى اليسار". لكنّنا لم نجد السينما، وجدنا صالة أخرى، جميلة، من الطراز الكولونيالي اسمها"سينما المغرب". وعندما وقفنا نستوضح الأمر، استعدنا واحدة من المفارقات الأساسيّة في الجزائر. كل مكان أو شارع له اسمان: الاسم الفرنسي، والاسم العربي الذي أتى بعد الاستقلال. سيد خمسيني عابر سبيل، وقف يشارك في الحديث مصرّاً على الاسم الفرنسي... فيما الشاب الأنيق الذي تطوّع لمساعدتنا، يقول له:"هذا هو التاريخ. إنّها اليوم سينما المغرب"! باب الواد خرج من السنوات المظلمة، يؤكّد لنا الناشر الشاب عبدالله بن عدّودة. ويضيف:"نحن في مكتبة"شهاب"قرّرنا أن نفتتح مقرّنا في هذا الحيّ، ونتجذّر في هذه البيئة الشعبيّة ونوجد حركة تفاعل مع أهلها". ويلتّفت إلى آن الصديقة السويسريّة القلقة على"حشمتها":"أنت تقليديّة جدّاً، صبايا الحيّ أكثر تحرراً منك!". ويشرح لنا عبدالله عن انفضاض الشاب عن وعود المتطرفين، وانصرافهم الى البحث عن وسائل العيش واللهو. المكتبة فسيحة الارجاء، فيها عناوين منوّعة جداً من المغرب والمشرق، باللغتين طبعاً، ومن جميع التوجهات... مع تركيز على الادب المغاربي الكلاسيكي، والاصدارات الشابة، والكتب التي تتناول مرحلة حرب الاستقلال. نقيم ندوات دوريّة هنا، ونعرض كلّ الكتب يؤكد مضيفنا، لدينا ركن خاص بالكتب التراثية والدينية. لكننا نمتنع عن بيع الكتب المزوّرة والمقرصنة، والكتيبات الأصوليّة التي تقوم على التزوير وتكييف العقول". تكييف العقول هو أيضاً ما يشغل بال صديقنا محمّد، دليلنا الى مقاهي العاصمة وأماكنها العصريّة. محمد شاب عازب يعيش بمفرده، ويعمل في مؤسسة تربوية تابعة لوزارة الشباب والرياضة. من الشباب يبدأ بناء المستقبل في رأيه. تعب محّمد من النضال السياسي، وهو لا يجد لنفسه مكاناً في أي حزب"يساري". يذكّر بما قاله محمد أركون في التسعينات:"المتطرفون موضة وتمضي!". لكنّه يستدرك:"الديموقراطيّون هل هم مع الديموقراطيّة فعلاً؟ إنّهم أيضاً متطرفون في أحيان كثيرة... أو متواطئون مع السلطة. لا يعترفون بوجود فكر مختلف ينبغي التحاور معه. الاحزاب التقدميّة لا تعتمد مبدأ تداول السلطة. أنظر زعاماتها، هي نفسها منذ عقود". ويحتدّ الشاب الوديع الذي كان يحدثنا قبل قليل عن الصبايا وحياة الليل:"كل ما شهدته الجزائر لم يكن حرباً أهليّة... بل حرب على المجتمع الأهلي، كلّنا وقعنا ضحيّته. في ما يعرف بمثلّث الموت بسبب كثافة القيادات والقوى المتشددة فيه، يعرف اليوم أكبر نسبة مستوردين في البلاد كلّها 90 في المئة يقول. ما هذه الحرب التي طلع منها كل هذا العدد من المليونيريين والاثرياء؟". ويطمئننا محمّد:"اليوم انتقلنا من الأقصى الى الأقصى: من المحافظة الشديدة... إلى الانفتاح الذي لا يعرف أسساً، ولا يستند الى رؤية وركائز". ويهمس باسماً وقد استعاد لطفه:"أنا قلق على المستقبل!".