سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الأزمة في سنتها العاشرة : "الحياة" تتجول على مدار 31 يوماً في الجزائر 1 . من انتفاضة 1988 إلى شوارع 1998 : الأزمة ثقافية اساساً ولا يمكن حلها بأدوات أمنية
هذه الرحلة محاولة ميدانية للدخول في الجزائر من أبواب لم تطرق. هنا ذهاب أبعد مع المشكلات والقضايا التي فجّرت الحرب، وتلك التي نجمت عنها، بهدف إعادة التعرف إلى الجزائر الأخرى التي تتوارى وراء كل من "المانشيت" السياسي والأمني اليومي، والإعلان الكلاسيكي ل "ثورة المليون شهيد" التي خرجت من الواقع وانتقلت إلى التاريخ. إنها رحلة في الجزائر التي يمكن رؤيتها من خلال عين الصحافي وأصوات المثقفين الجزائريين أنفسهم الذين بقوا في بلدهم على رغم الأخطار المحدقة بهم، والتي أحاقت بكل من يحمل قلماً، أو له صوت، ويعبر عن رأي. في هذه الرحلة، التي بدأت من الوسط الجزائري، عبوراً نحو أقصى الشمال، وشملت إلى العاصمة الجزائر ولايات تيبازة، وسطيف، وقسنطينة، وعنابة، أنصتت "الحياة" إلى أصوات المثقفين الجزائريين في هذه الولايات، وحاورتهم في القضايا الأكثر سخونة التي تسيطر على النقاش في جزائر اليوم، متعرفة من خلال هذه الإنشغالات إلى العقد المستحكمة في الأزمة الجزائرية، وما يغذيها من وقود ما يزال يدفن الجمر تحت الرماد. ولعل في اختيار "الحياة" الرحلة في جسد الثقافة الجزائرية نفسها، أن الأزمة المهيمنة على البلاد منذ عشر سنوات بدءاً من 1988، وحتى اليوم هي في أساسها أزمة ثقافية، تتصل بماضي الجزائر القريب والبعيد، بالمكونات الوطنية للهوية، وبالحقبة الاستعمارية، على حد سواء، وبما انتجه ذلك من مشكلات وتعقيدات تشكل جزءاً لا يتجزأ من قضايا الثقافة الجزائرية، والإنسان الجزائري. وأن هذه الأزمة الثقافية وجدت انعكاساتها المدمرة في كل مستوى، وعلى كل صعيد، وانتجت خطابات فكرية، وايديولوجية متصارعة في ما بينها قادها الصراع إلى درجة الانزلاق إلى الدرك الأسفل من الاقتتال الدموي، والتصفيات الجسدية التي طالت الجماعات بعد الأفراد، والفلاحين الأبرياء بعد المثقفين المراقبين، أو الضالعين في صياغة خطابات الأزمة. المطار المقفر حطت الطائرة في مطار الجزائر حوالي الخامسة بعد الظهر بتوقيت لندن. ومن نافذتها بدت مدرجات المطار مقفرة، ما خلا بضع طائرات تابعة للأسطول الجوي الجزائري. لم يكن على الطائرة، ربما، مسافر آخر غيري من تابعية أخرى غير جزائرية. كنت طوال الرحلة التي لم تستمر أكثر من ثلاث ساعات بين لندنوالجزائر، في خط مباشر، أحاول أن أتخيل ما سيكون عليه الوضع هناك حيث أنا متجه. فالصور والتقارير اليومية التي تنقلها وكالات الأنباء الدولية للوضع في بلد المليون شهيد لا تشجع على شد الرحال إليه، إن لم يكن السفر في مثل هذا الوقت خطراً أكيداً على صاحبه. وبينما عجلات الطائرة تلامس أرض المدرج، كانت عيناي تجهدان لتريا من زجاج النافذة شيئاً ما مميزاً أستبقيه في ذاكرتي. لم يكن هناك في مدى النظر شيء آخر سوى تلك الشمس التي نشرت ضوءها في سطوع. كنت أحاول أن أتثبت من حقيقة أنني سأطأ بعد قليل أرض المليون شهيد، وبلد جان دارك العرب جميلة بوحيرد. كنت أريد، أيضاً، أن أرى، منذ الآن، ومن على مقعدي في الطائرة، جبال الأوراس الشاهقة التي قاتلت الفرنسيين أواسط هذا القرن، وأخرجتهم من الجزائر، ومن حلمهم الامبراطوري في أن يكون المتوسط بحيرة فرنسية. كنت موزعا نهب شوق عارم إلى جزائر المخيلة والكتاب المدرسي المبكر، وبين رهبة العبور إلى مفاجآت الجزائر الأخرى الحديثة، جزائر الحزب الواحد الذي انهارت فكرته، فوزع جسمه في جسوم كثيرة، وظل قائماً تحيط به وبعاصمته الجليلة جبال تعتصم فيها بنادق "الإسلام المسلح" بالكلاشنيكوف، والهبهاب، وكذلك بالفتوى والسكين وجهاز الفاكس. وجزائر الجبهة الاسلامية للإنقاذ المحظورة. "إنها قارّة" قال مجالسي الشاب الذي قدم لي نفسه فعرفت أنه قبائلي يدرس في لندن، وأنه قادم إلى الجزائر ليمضي إجازة مع ذويه في جبال الأوراس. هل ينتظرك أحد في المطار؟ قالها لي، وكأنه أخذ يحدس قلقي. كنت مضطرباً، ولا أدري من أين واتتني الفكرة التالية: ماذا لو لم يكن هناك أحد في انتظاري في المطار؟ العين والكاميرا شعوران قويان بالانفراج والراحة عشتهما، هنا في الجزائر، لمرتين على التوالي يفصل بينهما شهر ويوم: الأول عندما ختم موظف الأمن جواز سفري وقال لي: أهلاً بك في وطنك الثاني الجزائر، والثاني عندما سألتني مضيفة الطائرة إن كنت أرغب بكأس من عصير البرتقال، وقد تأكد لي بما لا يقبل الشك أن طائرتي أقلعت، وأنني في طريق العودة إلى لندن، ومعي حوالي 50 شريط كاسيت تتضمن محاوراتي مع المثقفين الجزائريين حول البرهة الدامية في وطنهم، وما يجري في الجزائر اليوم، من خلال أصوات مثقفيها وعيونهم. وعدد من الصور التي التقطتها بنفسي. لكنني، وهذا هو الأهم، رجعت ومعي ذكريات عن أشخاص التقيتهم فاستضافوني بحب غامر وقدموا لي مشكورين يد المساعدة، وخففوا عني مشاق المهمة التي من أجلها جئت الى هذا البلد الذي يشهد حرباً فيه وحرباً عليه، من كل نوع، وعلى كل مستوى. لقد شكل وجود هؤلاء الأشخاص معي عنصر حماية أكيد لي في مكان أجهله، وفي ظل ظروف أقل ما يقال فيها انها غير طبيعية. من هؤلاء كان صديقي عدلي صادق الكاتب المعروف والقائم بأعمال سفارة فلسطين في الجزائر، والمهندس رائد شبلاق، والشاعر أبو بكر زمال، والروائي بشير مفتي، والدكتور علي كشك، والدكتورة آسيا موساي، والشاعرة نصيرة محمدي، وأخيراً صديقي الباحث أحمد شاهين الذي سعدت بعثوري عليه بعد سنوات من الغياب، منذ أن أطلق الجيش اللبناني في عهد أمين الجميل سراحه سنة 1984 وغادر بيروت. هؤلاء الأصدقاء توزعوني بين بيوتهم وقلوبهم، فلم أشعر بغربة ولا بوحشة أو خوف، حتى عندما كانت تخيم على البلد ظلال حدث فاجع، وتكفهر الوجوه وهي تنصت إلى أخبار مذبحة جديدة. بعد أيام قليلة على وصولي، فكرت: حسناً انني لم استمع إلى نصائح من عرفوا بعزمي على السفر إلى الجزائر، والا لما كانت قدماي وطأتا هذه الأرض، ولكنت حرمت من زيارة هذه الجنة الخطرة التي رحت أدخل في مجاهلها. فالجزائر قارة بالغة الجمال ولها تضاريس متنوعة. وهي بلاد، لولا الحرب وسنوات الحزب الواحد، لكانت بين اكثر بقاع الأرض اجتذاباً للسياح. انتفاضة الحيطيست في 5 تشرين الأول أكتوبر المقبل من هذا العام تُتم الأزمة الجزائرية سنواتها العشر، منذ أن أسفرت الأوضاع الإجتماعية المتأزمة في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد عن انتفاضة 5 أكتوبر التي نفذها شبان كانوا يسمون بالحيطيست، لأنهم كانوا يستندون الى الحائط طوال النهار في شوارع المدينة، يائسين، وبلا عمل أو آمال يعلقونها على شيء. وقد بدأت هذه الإنتفاضة بمظاهرات عنيفة قام بها، غالباً، ناشئة وشبان انطلقوا من الجزائر العاصمة وراحوا يحرقون ويخربون مؤسسات الدولة ومكاتب حزب جبهة التحرير الوطني ووزارات النظام، وكل ما يمكن أن يرمز إلى الدولة، ويمكن أن تصل إليه أيديهم. قيل، آنذاك، ان نظام الشاذلي الذي كان يشعر بقرب أجله له يد في هذه الحركة التي ذهبت أبعد مما خطط لها، إذ سرعان ما امتدت هذه المظاهرات وأعمال الشغب إلى ولايات جزائرية أخرى، ولم يعد في إمكان النظام السيطرة عليها. كان نظام الشاذلي بن جديد، آنذاك، قد وصل، باعتراف بعض أبنائه أنفسهم، اليوم، ممن التقيت بهم، إلى ذروة الفساد والرخاوة، في ظل نخبة سياسية وثقافية خاملة ورثها نظام الشاذلي عن عهد بومدين الذي تميز بكثرة الوعود والأماني. لقد جاءت انتفاضة الشبان، على خلفية اجتماعية واقتصادية متردية شعر معها هؤلاء أن المجتمع السائر في طريق البناء، لم يبن من أجلهم، فلا النوادي التي بنيت لهم في الأحياء قد دبت فيها الروح، فهي غالباً بلا تجهيزات، ولا الامكانات المادية الخاصة تسمح بإمكان الحصول على رفاهية الحركة والسفر والنشاطات المشابهة، في وقت تزايدت فيه معدلات البطالة، وضعفت قدرة العائلة على ضبط أبنائها وتوجيههم تربوياً، فتفسخت أخلاقهم وانعدم الحس الاجتماعي عندهم، وتحولت فكرة الوطنية إلى شيء مضجر وكاذب لكونه ارتبط بعالم آخر موجود ويرونه بالقرب منهم، هو عالم الأثرياء الجدد من أبناء النظام أو المرتبطين به والمحسوبين عليه، الأمر الذي جعل المرارة تعصر الأنفس الشابة التي تربّت على فكرة مثالية تقول بأن الإشتراكية هي طريق المجتمع الجزائري. ولنا، الآن، أن نتخيل رد فعل مجتمع أكثريته من الشباب! في أواخر عهد بومدين انتشرت نكتة تقول إن الإشتراكية لها تفسيرات مختلفة حسب كل تجربة في العالم، فللتجربة السوفياتية تعريف، وللصينية تعريف، والآن إليك بالتعريف الجزائري: "الاشتراكية الجزائرية تعني أن السيارة الفخمة لك والحمار لي!". كانت هذه في عهد بومدين مجرد نكتة، ولم تكن المفارقة الإجتماعية قد بلغت بسخريتها المأسوية ما بلغته في عهد بن جديد. فقد سجل بومدين، حتى باعتراف خصومه، نقاطاً مهمة، في التنمية على صعد مختلفة، وهو كما تقول الوقائع ويعترف الجزائريون، اعتمد على نخبة سياسية وثقافية وعسكرية نشطة، وقد فتح النظام التربوي الذي اعتمده آفاقاً مهمة أمام الشباب ورقيهم الإجتماعي، وفي مجال العمل تمكن من السيطرة على معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة، بحيث أمكن استيعاب التحولات الديموغرافية في مشروعات استراتيجية منتجة، وقد دام هذا الازدهار الذي رافق الطفرة النفطية، وأفاد منها، حتى نهاية عهده. بومدين والتعريب لقد أمكن لنجاحات بومدين على غير صعيد أن تغطى على عيوب النظام الواحد واخفاقاته الاستراتيجية في رسم المسار التطوري على الصعد المختلفة. على أن واحدة من بين أبرز اخفاقات نظام بومدين تمثلت في قضية التعريب، فلم يمكنه أن يجد لها حلاً معرفياً وتاريخياً معقولاً ومقبولاً. و في هذا الصدد تعترف شخصية جزائرية كبيرة تسلمت على مدار 21 سنة خمس وزارات اساسية، هو الدكتور بو علام بن حمودة انه "كان من المفروض ان نعود إلى لغتنا بمجرد الحصول على الاستقلال، وانني اعتقد شخصياً ان الشعب الجزائري، لو قررنا التعريب الكامل في 1962 لاعتبر ان قراراً مثل هذا طبيعي ولتكيف مع الوضع الجديد". لكن هذا لم يحصل، وبدلاً منه استمرت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال في نشر التعليم الرسمي بالفرنسية، وتكوين الموظفين في شتى ميادين اختصاصهم باللغة الفرنسية. بل ان المفارقة المؤلمة ان المدارس الفرنسية تضاعف عددها مئات المرات عما كانت عليه سابقاً. وهكذا عملت دولة الاستقلال على فرنسة شعبها الذي حررته من الفرنسيين ودفعت من اجل ذلك مليوناً واكثر من الشهداء. بصرف النظر عن الجذر التاريخي لهذا التفصيل المأسوي، وعلى رغم نجاحات بومدين في ميادين مختلفة منها سياسته الخارجية في العالم العربي، المتوازنة إلى حد كبير، كانت علاقات الجزائر بالعرب غير منتجة ثقافياً وفكرياً بصورة مؤثرة ومناسبة للوضع الإستثنائي للغة العربية في الجزائر، ربما لأن المستشارين والموظفين الثقافيين للنظام كانوا دون القدرة على التصرف بحرية وحيوية بصورة تمكنهم من الإفادة من الخبرات العربية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأن مسألة التعريب لا يمكن على الأرجح أن تتم بإملاءات علىا يفرضها النظام بمعزل عن حيوية القاعدة الإنسانية واستعداداتها، في التجاوب مع المضمون الفكري للغة العربية التي يراد من الجزائريين اتقانها. وقد سمعت هذه الملاحظة من كثيرين ممن التقيتهم وحاورتهم، هنا في الجزائر. لقد أدت الصياغات القسرية المحافظة والرديئة، غالباً، لعملية التعريب، حسب بعض الملاحظين الجزائريين، إلى إحداث صدمة إجتماعية، أدت بدورها إلى انسدادات عدة بسبب التناقضات الاجتماعية التي نجمت عنها مع نهايات السبعينات، وتمثلت في انقطاع متنام للصلة بين الناس والمثقفين المستقلين الذين راحوا يطورون نظرات فكرية من داخل النص الإسلامي من جهة، وبين مسؤولي النظام الذين راحت تتفشى فيهم المساوىء وتطغى عليهم فئات من المنتفعين وذوي النفوذ الفاسدين، الذين بات في وسعهم، بصورة أكيدة، الحصول على كل ما راح الشعب يفقده ويحرم منه شهراً بعد آخر، وسنة بعد أخرى، في ظل وضعية من التضخم والفشل الإقتصادي، كل ما فيها يدعو إلى التقشف، وينذر بأسوأ العواقب. أسوأ العهود وتعتقد القراءة الموضوعية المتأملة لما وقع على المنقلب ما بين حكم بومدين وحكم بن جديد، على جبهة التنمية المستقبلية، أن الأسس غير المحكمة للسياسة البومدينية نحو الشباب هي واحدة من الأسباب التي جعلت أوضاعهم تنهار تماماً في عهد الشاذلي. لقد اهتم بومدين شخصياً بالشباب كطاقة حية إلى درجة التزلف لهم. لكن التناقضات المترسبة من عهد بومدين والمتجمعة في عهد الشاذلي بن جديد، لم تجد أفضل من الشباب بيئة تستحكم فيها. فبعد رحيل بومدين، وزوال السحر الإيديولوجي لجبهة التحرير الوطني ومشروعها الاشتراكي، بزوال فترته، فتح الجزائريون أعينهم على العالم الخارجي ومايجري فيه، أكان هذا العالم هو أوروبا من خلال البوابة الفرنسية، أو العالم العربي من بواباته المختلفة، واكتشفواأنهم هم أيضاً يريدون شيئاً من هذا الرفاه الذي راح يعلن عن نفسه في سلوك العرب من أبناء الدول النفطية الأخرى، على وجه الخصوص، فنشط السعي إلى اقتناء المواد الاستهلاكية من أدوات كهربائية وألكترونية وغيرها، في ظل وضعية مالية للفرد لا تسمح للجزائري بما تسمح لغيره من العرب المشار إلىهم. وقاد هذا بالضرورة، إلى اكتشاف أرض الكسب غير المشروع. ويوصف عهد بن جديد بأنه أسوأ العهود الجزائرية وأكثرها فساداً. والمتابعون في الجزائر لتاريخ تطور الفساد في الإدارة، كظاهرة منتشرة ومستحكمة قوامها الاختلاس والرشوة، ولها أساطينها وعصاباتها، ولها حتى جمهورها العريض، يعيدون هذه الظاهرة إلى السنوات السبع الأخيرة من نهاية البومدينية وبداية الحقبة الشاذلية. ففي هذه الفترة، حسب أحد الموظفين السابقين للنظام، وقع التهدم الحقيقي داخل النخبة الجزائرية الحاكمة، فتبدلت روح المسؤولية لتصير خمولاً وجمودا، وانتقل الإفصاح عن القدرة على الابتكار والعطاء إلى حسد وغيظ وشك، ومن التحلي بالأخلاق الشريفة والقدرة على العطاء، بلا حساب، ومن دونما سعي إلى مقابل، غدت الرشوة اليومية وسيلة لتحسين الأوضاع، والترفه بهدف الصعود الاجتماعي واحتلال مواقع مهمة ونيل العيش الرخي، الأمر الذي جعل منها نخبة متهتكة. لقد عبر الشباب عن رد فعله بإزاء التدهور الحاصل في المجتمع الجزائري في الفنون الشائعة، كالغناء مثلاً، لكن ذلك جرى بطريقة عفوية، وإن تكن مؤثرة، ومؤلمة، كما فعل مغني الراي الشاب الهندي عندما غنى "من اجلك امزق جواز سفري!". ترى هل قال ذلك لأنه كان حراً، أم لأنه لم يكن يملك جواز سفر أصلاً؟! وممن عبروا عن تفاقم الانهيار في المجتمع الجزائري خلال السنوات السابقة، الفنان فلاق الذي قال أقسى جملة نطق بها شاب جزائري خلال الأعوام الماضية فأجاب لما سئل عما كان يحمله معه من الجزائر بينما هو يغادر إلى سويسراً، قائلاً: "كيس زبالة حشاكم" لكي يستطيع ان يشم "رائحة البلاد"! كما قال. هل هناك أقسى من هذه الجملة؟! الخطير في هذا التحول انه شمل الإدارة بأسرها، فبدأ برأس الهرم وانتهى بقاعدته. ولم يعد في الإمكان الحديث عن جسم لم يتعفن، إلا ممثلاً بتلك القلة "الساذجة" من النزهاء الذين تحولوا إلى جزر معزولة داخل الإدارة لم يعتم الفساد ان اجهز عليها، او طالها "اضطهاد" التغيير والتوقيف و"الانسحاب" من مواقعها في الإدارة التي لحقت بها بفعل ذلك خسائر فادحة مادية ومعنوية. الشبان والاسلاميون والتعلّق بفرنسا كانت عيون الشباب ترى ذلك كله، ولم تكن تعبر عن ردود افعالها بعنف مباشر، وكانت القراءة السياسية للنخبة المثقفة الإسلامية والمتأسلمة ترى، وتفكر، وتعمل بدورها في السر. ولسوف يخرج التعبيران معاً لدى الشباب من جهة، ولدى النخبة الإسلامية من جهة أخرى الى العلن الواحد تلو الآخر، وسيتفاعلان. سيخرج الشبان إلى الشوارع مستهدفين تلك الإدارة بحجارتهم ونارهم، ويخرج "الإسلاميون" ليقودوا هذه الروافد الشابة إلى نهرهم الكبير، الذي سرعان ما سيهدر في الشارع الجزائري مهدداً كامل التجربة السابقة، ومبشراً بجزائر أخرى، لا قبل للجزائريين بها. ومما يلفت الانتباه كثيراً في الجزائر هو بلاغة حضور فرنسا والفرنسية في شارع يدين تاريخياً لفكرة الوطنية. انه حضور يتعدى اللغة الفرنسية نفسها إلى تلك الركاكة التي يطالعنا بها الشارع الجزائري المعرب، بدءاً من واجهات الحوانيت والمحال التجارية، أكانت في مركز المدينة ووسطها التجاري، أو في ضواحيها البعيدة. فالترجمة الحرفية عن الفرنسية هي المهيمنة على الإعلانات اليومية وواجهات العرض، وإشارات العبور، وحتى اعلانات التحذير من الارهاب. فهذه وغيرها من ثمرات التعريب اللغوي، والتي تطالعنا بصياغات باعثة على الفكاهة احياناً، تؤكد بما لا يدع هناك مجالاً للشك بأن الفرنسية مستحكمة من الجزائريين وحياتهم اليومية في الشارع، والمقهى، ومكان العمل، والبيت، وعبر كل الأجيال. فالمفردات الفرنسية تدخل في الكلام اليومي، وتخترق العامية فتشكل جزءاً اساسياً لا يتجزأ من بنيتها، من استعاراتها، ومصطلحاتها، ومجازاتها، الى درجة يستحيل معها الفكاك من هذه الثمرة المؤلمة لمائة وثلاثين سنة من فرنسة الجزائريين، وإلى درجة تستوجب من الجزائريين كثيراً من الصبر، والأناة، خلال سعيهم لإستعادة الذات الثقافية وتجذير صلتها بالعربية. إنهم في حاجة، أيضاً، إلى تنقية العامية الجزائرية مما خالطها من غريب الكلام. ولعل ما ينطبق على اللغة، ينطبق، ايضاً، على السلوكيات، والعقليات المتأثرة باللغة، والمتشكلة بفضلها، وعلى الأمزجة والنفسيات التي ساهمت في تشكيلها هذه اللغة المفروضة على الجزائريين فرضاَ، وينطبق كذلك على اللاوعي الجمعي للجزائريين، وهو لاوعي تشكل بدوره خلال الحقبة الاستعمارية انطلاقاً من نمطين متصارعين ومتعايشين من ردود الافعال الفردية والجماعية، الواعية منها وغير الواعية: أولاً: بإزاء الممارسات الاستعمارية العنيفة ضد الجزائريين، وثانياً: بإزاء "الآخر" الاستعماري وثقافته المهيمنة، التي تنظم اعتباراته الخاصة لنفسه وهي اعتبارات فرضها على الجزائريين من موقعه الأعلى كمستعمر على موقعهم الأدنى كمستعمَر. هذان النمطان المتطرفان من ردود الأفعال يتلخصان في موقف مضاد من الفرنسي رافض لكل ما يتعلق به بما في ذلك لغته يؤجج هذا الموقف ذلك الجرح النرجسي الذي لم يندمل، مقابل موقف مساوم يرى في اللغة الفرنسية مصدراً من مصادر التحضر ووسيلة من وسائل الرقي المعرفي انطلاقاً من رواسب الاحساس بالدونية. على ان موقفاً ثالثاً، يمكن ان يكون فوضوياً او بدوياً، او حتى براغماتياً، على تباعد هذه الأسباب، هو ذلك الموقف الذي عبر عنه مالك حداد عندما قال انه يعتبر الفرنسية "غنيمة حرب". سامحه الله على هذه الجملة المغرية للسان، فمنذ ذلك الوقت وهذه الجملة تغري باستعمالها قطاعاً واسعاً من المثقفين الجزائريين الذين يجدون انفسهم مطالبين بالبحث عن صياغة مقنعة للسبب الذي يجعلهم متعلقين باللغة الفرنسية. معربون ومفرنسون لقد انحدرت النخبة السياسية في الإدارة الجزائرية من عهد بو مدين إلى عهد الشاذلي نحو خمول، وكسل، وانحراف، في السياسة والثقافة والاقتصاد، في ظل تراجع العمالة، وقيام الجامعات بضخ الخريجين المعربين الى شوارع البطالة، تحت الأنظار المتشفية والخائفة معاً، للنخبة المفرنسة المسيطرة على الإدارة، وفي ظل جدل متنام يدور في اوساط المعارضة، الإسلامية منها بصفة خاصة، في السر وفي العلن، حول نخبة سياسية وادارية تحكم البلاد منذ الاستقلال، لم تتمكن من ان تنجز حتى "التعريب"، على رغم انها تهددنا به كل بضع سنوات... وها هي تعلن يوم 5 تموز - يوليو المقبل موعدا نهائياً لتعريب الادارة تعريبا تاماً وصرفت على "فرنسة" البلاد نيابة عن فرنسا اكثر مما صرفت على التنمية، بحيث ابقت الجزائر ملحقة ثقافياً، وحضارياً بالاستعمار الذي خرج جنوده وظلت ثقافته، ممثلة في تلك الإدارة المفرنسة، ومشروعاتها التي راحت تبدو يوماً بعد يوم "غريبة" عن ثقافة المجتمع واتجاهات التفكير فيه، مقابل جمهور متعاظم من المعربين الذين لم يكن في وسع غالبية الشباب منهم الزواج، او العثور على مسكن، فضلاً عن صعوبة العثور على عمل. وكانت الإدارة المفرنسة تصد عنها جموع المعربين هؤلاء، ولا تستوعب إلا القلة القليلة منهم، مقابل كثرة مشدوهة من جراء صدمة اكتشاف الفرق بين الأحلام الغيفارية التي لازمتهم في سنواتهم الدراسية الأولى، وبين الواقع المأسوي الماثل امامهم، على صورة انسداد كامل للأفق. من هنا، بدأ وقود الانفجار الكبير، وتلاقت عناصر التحول في موازين القوة السياسية والإيديولوجية في الشارع الجزائري