لاحظت قبل شهور عدة أن وزير داخلية بريطانيا السابق دايفيد بلانكيت استقال من منصبه على أثر افتضاح أمره بكونه ساعد خادمة عشيقته في الحصول على اجازة عمل والبقاء في بريطانيا. وقال في معرض استقالته انه بعمله ذاك خان الأمانة التي سلّمها له الناس. كما لاحظت عندما كنت أعمل في أميركا أن مجلس الشيوخ يرفض تعيين الشخص المرشح لمنصب مهم، إذا كان في سجله ما يشير الى وجود تضارب في المصالح أو احتمال الإخلال بالأمانة حين تأدية الواجب. لقد أثار عمل الوزير البريطاني الشجون في نفسي، فتذكرت الحالة في بلدي - العراق - بعد قيام سلطة التحالف بتنصيب مجلس الحكم الموقت، الذي قام بدوره بتعيين وزراء عراقيين للمرة الأولى بعد سقوط النظام. لقد تسلم هؤلاء أهم أمانة يمكن ان يتسلمها مسؤول، وهي إدارة شؤون البلاد. وبدلاً من معالجة الخراب وتضميد الجراح، توجه البعض من هؤلاء - ولا أقول جميعهم - لتقاسم الغنائم، فأصبحت الوظائف الحكومية تُعطى للأعوان، والبضائع التي كانت تحتكر الدولة استيرادها - وهي مدعومة الأسعار - توزع على من يملك أمراً من حزب أو توصية من عضو في مجلس الحكم، والمقاولات لإعادة البناء أو توفير الخدمات او تجهيز المواد ترسو على الأقارب والأصدقاء والمتنفذين الجدد، كما أضحى المال العام فريسة سهلة تنهش منها الضباع. ان المسألة التي أتعرض لها في هذه السطور لا تقع في دائرة الأخلاق فحسب وإنما تقع أيضاً في صميم الاقتصاد. ذلك ان نظام صدام حسين خرّب اقتصاد البلاد وعاث في الارض فساداً. وكان المفروض بمن يأتي بعد سقوط النظام ان يكون المثال، ليس فقط في رقي الأخلاق، ولكن أيضاً في التفاني في تقويم الأداء الحكومي المعوّج والشروع بإعادة البناء بعد خراب دام طويلاً، وتوفير الخدمات الأساسية التي غابت عن تناول الناس والقضاء على الفساد الذي تفشى في مفاصل الحكومة وأوصالها. على ان الذي حدث، للأسف، هو العكس في كثير من الأحيان. إذ قام بعض المسؤولين - اللامسؤولين - بارتكاب الاخطاء نفسها التي ارتكبها النظام السابق وربما أكثر، وبذلك ساهموا في صب الزيت على النار بدلاً من اطفائها ورش الملح على الجراح بدلاً من تضميدها. ان الشعب العراقي يأمل بعد وضع الدستور الجديد وانتخاب جمعية وطنية تدوم فصلاً كاملاً أن يتسلم السلطات الثلاث أناس أمناء، همهم إعادة البناء بعد خراب شامل أصاب حياة الشعب العراقي بكل وجوهها. لقد قال الزعيم الوطني المصري سعد زغلول سابقاً:"نحن لسنا بأوصياء على الأمة بل وكلاء عنها، ولكن وكلاء أمناء، فيجب علينا أن نؤدي الأمانة لأمتنا كما أخذناها منها". وأنا أضيف - من موقعي المتواضع - بأنه يجب علينا أن نؤدي الأمانة لأمتنا بأحسن مما أخذناها منها. * خبير النفط والاقتصاد في مركز دراسات الطاقة العالمية - لندن.