اعتبر معلقون كثيرون في بريطانيا تقرير القاضي البريطاني المتقاعد اللورد هاتون عن ملابسات انتحار مفتش وخبير الاسلحة الدكتور ديفيد كيلي مخيباً للآمال، خصوصاً لانه القى بالجزء الاكبر من اللوم على "هيئة الاذاعة البريطانية" بي بي سي كذلك على الدكتور كيلي باعتباره مصدر الاتهامات لحكومة توني بلير بالمبالغة في تقويم خطر "اسلحة الدمار الشامل العراقية" على بريطانيا، لتبرير شن حرب على العراق واحتلاله. لكن التقرير انتُقِد في الصحافة البريطانية خصوصاً لانه برأ رئيس الوزراء بلير من تهمة تضليل النواب في مجلس العموم في ما يتعلق ب "خطر" اسلحة الدمار الشامل العراقية وامكان تجهيزها للاطلاق في غضون 45 دقيقة، اعتمادا على اقوال ادلى بها المعارض العراقي اياد علاوي رئيس حركة الوفاق الوطني الذي عاد وقال قبل ايام انه كان يجب على الاستخبارات البريطانية التي زودها هذه "المعلومة" ان تتأكد منها! وثمة خوف الآن في بريطانيا على مستقبل "بي بي سي" التي لا شك في انها تمثل صرحاً إعلامياً عالمياً مهما ومؤسسة بريطانية قيمة طالما اقترن اسمها بالموضوعية والتوازن والعمل، بموجب ميثاقها، لخدمة مستمعيها ومشاهديها، تعليماً وإعلاماً وتسلية. ذلك انه على رغم ان تعيين رئيس مجلس امنائها وامنائها ال 12 يصدر بمرسوم ملكي، فان التعيين يتم بناء على توصية رئيس الوزراء الذي يحق له ايضاً، هو او الوزراء المعنيون في حكومته اقتراح قانون جديد يغير طبيعة "بي بي سي" لجهة الرقابة عليها من خارجها او لجهة حملها على تحصيل اموالها عن طريق التنافس التجاري بدلاً من تمويل برامجها عن طريق جباية رسوم اجهزة الراديو والتلفزيون كما هي الحال منذ تأسيسها قبل 70 عاماً. والواقع ان هذه اكبر ازمة تمر بها "بي بي سي" منذ العدوان الثلاثي على مصر الذي وقفت فيه هذه المؤسسة الاعلامية موقفاً منتقدا لحكومة انتوني ايدن بسبب شنها ذلك العدوان الذي تآمرت فيه مع اسرائيل وفرنسا لضرب نظام الرئيس جمال عبدالناصر. ومهما قيل عن ملابسات انتحار الدكتور كيلي، فان التحقيق في مسألته يبقى امرا تفصيليا جانبيا مقارنة بالهجوم على بلد كبير غني بالموارد من دون مبرر يستطيع اي من بلير او الرئيس الاميركي جورج بوش اثباته واشهاره امام العالم المتشكك الغاضب. لم يكن العراق يملك اسلحة دمار شامل قبل غزوه واحتلاله وهذا ما يؤكده الآن رئيس فريق المسح الخبير الاميركي ديفيد كاي، ولكن "بعد خراب البصرة". لقد فتح الغزو الاميركي للعراق، بمشاركة بريطانيا، الباب على احتمالات تقسيم هذ البلد او اندلاع عداوات بين طوائفه واثنياته، لكن المأمول هو ان تتغلب نوازع الوحدة الوطنية العراقية على هذه الاحتمالات. وما زال العراق مدمرا بفعل العقوبات القاسية والحرب الاخيرة، وتحيط شبهات الفساد والنهب بمشاريع اعماره. ويبدو الاميركيون معارضين لإجراء انتخابات مباشرة وحرة تفرز حكومة مستقلة ممثلة للعراقيين تمثيلاً حقيقياً في الاشهر المقبلة، لانهم يفضلون تنصيب حكومة طيعة تكرس المصالح الامبراطورية الاميركية وتجعل العراق مركزا رئيسا جديدا لإشعاع النفوذ الاميركي وترسيخه، مع ترك الحرية التامة لاسرائيل كي تسلب الفلسطينيين ما تشاء من اراضيهم وحقوقهم.