تخرجت كيت بلانشيت من المعهد العالي للفنون الدرامية عام 1992 ولم يمرّ عام على تخرجها حتى نالت اعجاب النقاد والجمهور معاً، فلدى دخولها معترك التمثيل التحقت بأحدى الفرق المسرحية العاملة في سيدني وحصدت اولى جوائزها عام 1993 عن دورها في مسرحية"الوافد"وكرّت سبحتها المسرحية بنجاح قلّ نظيره ما لفت انظار المنتجين التلفزيونيين فشاركت في مسلسل"هارتلاند"ثم قامت بدور اوفيليا ضمن انتاج حديث لمسرحية"هاملت"نالت عليه جائزة النقاد. من هناك كان الطيران الى هوليوود امراً طبيعياً، فعلى غرار الاسترالية الاخرى نيكول كيدمان كانت بلانشيت محط انظار المخرجين الاميركيين، ولسنا هنا لنعدد ادوارها السينمائية والجوائز التي حصدتها، بل لنستمع الى الممثلة المختارة للقيام بدور كوكو شانيل، اسطورة الازياء الفرنسية، لعلّ بين المرأتين اوجه شبه أو مسوغاً جعل هوليوود تختارها من بين عشرات الممثلات لهذا الدور الصعب. سئلت كيت مرة عن لون شعرها الطبيعي فقالت"الواقع، انه من غرائب الوجود، فأنا لا استطيع الاجابة عن هذا السؤال، لكنني شقراء الى حد ما، والصراحة، لست ادري". وعن مشاركتها في ثلاثية"سيّد الخواتم"قالت:"انها المرة الاولى لي امام الشاشة الزرقاء والخدع السينمائية المتطورة، كنت أحسّ بدخول عالم مختلف كلياً كأنه عالم الالعاب الالكترونية، لكن بصراحة قبلت الدور لأنني كنت متشوقة بسبب الاذنين والصلعة والظهور في مظهر خارج المألوف تماماً". وعن دورها في"المفقود"للمخرج رون هاورد، قالت:"احببت القيام بالدور لأنه لم يكن وارداً في خاطري بالمرة ان امثل في فيلم كهذا: رعاة بقر وهنود وركوب خيل مع تومي لي جونز واطلاق عيارات نارية، يا إلهي كم كان ذلك مسلياً". "عموماً"تقول كيت بلانشيت عن التمثيل السينمائي"بقدر ما تمارسه بقدر ما تعتاده، تتعلم التركيز من البداية مثل طفل، وعليك ان تتعلم الاستسلام للعمل والاسترخاء في الوقت نفسه. اذكر عجبي في الشريط الاول لي حين رأيت بطل الفيلم يطالع الجريدة او ينام بين اللقطة والاخرى وكدت اصرخ به: كيف تقدر على ذلك؟". كوكو: انطلاقاً من بدايتها المذهلة لجهتي السرعة والنجاح تشبه كيت بلانشيت بطلتها كوكو شانيل المتوفاة عام 1971 عن ثمانية وثمانين عاماً، والتي اعتبرها كريستيان ديور الثائرة الاولى في عالم الازياء. ترعرعت شانيل في ميتم فرنسي وتأثرت بالملابس البسيطة للراهبات والايتام على السواء. عام 1912 وقعت في هوى المليونير آرثر كابل الملقب ب"بوي"والذي كان بارزاً في الحياة الاجتماعية الاوروبية قبيل الحرب العالمية الاولى. ساعدها بوي على تحقيق احلامها خصوصاً افتتاح متجرها الشهير حتى اليوم في 31 شارع كامبون في باريس. وفي منتصف العشرينات من القرن الماضي اقتحمت كوكو شانيل المشهد السائد في الملابس النسائية حين كانت الفساتين الطويلة والمشدات والسترات المتوسطة بيتي كوت مسيطرة ومنتشرة ومستتبة، فاذا بالتيمية الفرنسية تصعق باريس بفساتينها المختصرة السوداء ذات البساطة"المروعة"في خضم ذلك الزمن الوارث زركشة القرن التاسع عشر واصداء قرقعة حوافر الخيل. وكما يحدث دائماً في الانقلابات الكبرى على اكثر من صعيد، تبقى العلامة المغيّرة حيّة مدى الازمنة، فان"تايور"شانيل المكوّن من قطعتين متناسقتين: سترة وتنورة، اصبح اللباس الانيق الكلاسيكي السائد لكل سيدة من جنوب الارض الى شمالها. في بداية الثلاثينات طلب صاموئيل غولدوين من شانيل تصميم الملابس لبطلات افلامه لقاء مليون دولار في السنة وضمّت اللائحة كاثرين هيبورن وغريس كيلي واليزابيت تايلور، الا ان العصبية الاميركية كانت في اوجها آنذاك وبصرف النظر عن جودة وجدة الازياء التي اقترحتها شانيل لقيت صداّ من جهة النجمات الاميركات فقررت عدم متابعة المغامرة. عام 1939 اغلقت شانيل محلاتها في باريس وذهبت لتعيش في سويسرا طوال 15 سنة بعدما وقعت في غرام ضابط نازي، لكن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في الابتكار فقررت عام 1954 تجديد"هجومها"على الموضة المقيّدة للحركة خصوصاً ان ديور استعاد في تلك الفترة ايحاءات"الكورسيه"من القرن التاسع عشر، فقررت شانيل التصدي له بمزيد من البساطة، واذا باللواتي تعجرفن ونأين عنها في الثلاثينات يقبلن على تصاميمها بنهم، واذا بها تمضي الخمسينات والستينات مصممة لهوليوود بمختلف ستوديوهاتها، بل لقيت تصاميمها رواجاً كبيراً في الولاياتالمتحدة، خصوصاً مع بدء خوض المرأة هناك معترك الوظائف المدينية وتعاظم الحاجة الى اللباس الانيق والعملي في آن. "كي يكون المرء غير قابل للاستبدال عليه ان يبقى مختلفاً دائماً"، قالت كوكو شانيل ذات يوم، ومثلما عبرت المحيط غازية اميركا بتصاميمها، كانت كيت بلانشيت المولودة في ملبورن، استراليا، موفقة ايضاً في غزوها بلاد العم سام، ولا يختلف اثنان انها ستكون موفقة في تلبسها شخصية كوكو شانيل على الشاشة الفضية اذ ليس وارداً ان تقوم بلانشيت بهذا الدور الصعب من دون استعداد معمّق يتناول الوجوه المختلفة لكوكو، المرأة المستقبلية التي كانت في التاسعة والعشرين من عمرها"امرأة اعمال"كما يقال اليوم"رجل اعمال". وتمكنت قبل بلوغها الخامسة والثلاثين من قلب معادلة الكسوة النسائية في الغرب اولاً، ثم عبر الكرة الارضية، رأساً على عقب، فاستعملت اقمشة ومزائج بسيطة، خفيفة، عملية، قابلة للغسل والكيّ السريعين، و"طردت"كل الزوائد التزيينية حتى اصبح شعارها:"لا زرّ بلا عروة!"وصممت جيوباً يمكن للمرأة ان تغرق فيها يديها براحة تامة. وفي مستهل العام 1917 رفعت زاف التنورة أعلى فأعلى، وصممت لباساً للاستحمام البحري تحوّل في ما بعد الى اساس المايّوه السائد حتى اليوم عوضاً عن الجلباب المقيّد للحركة الذي كان رائجاً حتئذ. وادركت شانيل بحدسها الصائب ان امرأة المستقبل لن تلبس الفساتين الثقيلة المكشكشة وتتمشى على رصيف البولفار حاملة شمسيتها الظليلة، لئلا تلفحها اشعة الشمس، بل ستكون امرأة دينامية، تمطي الخيول وتدخل المسابقات الرياضية، وتستقل القطارات والطائرات وتقود السيارات وتعمل في المكاتب والمصانع والمباني المعقدة، ولذا كان قولها المأثور"لا وجود للموضة بعيداً من الشارع"وقولها ايضاً"لنصنع الفستان اولاً لا زينته". وفي نظرة استعادية نرى شانيل في السبعين من عمرها عام 1954 حين اصابها النجاح الباهر لكريستيان ديور بموجة حسد وابداع متلازمين، خصوصاً بعدما تبين لها ان عطره"الآنسة ديور"وديوريسيمو"بدأ يسيء الى مبيعات"شانيل 5"في اميركا، ورافق ذلك تراجع نوستالجي نحو الملابس"الصعبة"، يومها صاحت شانيل بملء صوتها:"بعض النساء يردن لانفسهن الحبس داخل اثوابهن. معاذ الله! فعندما يدخلن في احد تصاميمي يشعرن بالحرية، والحرية فقط". وما هي سوى اسابيع حتى ظهرت ابتكاراتها الجديدة: سترات من دون ياقة، وتنانير ذات خفة اقرب الى اجنحة الفراشات. لكن الصحافة الفرنسية كانت لا تزال مشغولة بالشأن الشخصي الذي جمع شانيل والضابط النازي، فلم تلتفت الى جديد كوكو بعين مجردة بل وصفت ذلك الجديد بأنه"نتف أوزات الماضي"أي ان شانيل كررت نفسها ولم تضف، ولم يكن ذلك صحيحاً او دقيقاً علماً بأن الصحافة الانكليزية جارت زميلتها الباريسية مما جرح شعور شانيل التي عرفت باحترامها وشغفها بالانكليز، غير ان موسماً واحداً كان اكثر من كافٍ لالتقاط الانفاس، وكانت عودة شانيل الى الواجهات صاعقة ربطت ضفتي المحيط بخيط سحري ما زال متوهجاً حتى اليوم.