أوقعت اتفاقات أوسلو 1993 حركة ياسر عرفات فتح من تناقض لم تخرج الحركة منه الى اليوم. فهل هي حركة تحرر وطني، وقادتها مناضلون، وغايتها الاستقلال، وأداتها الاولى المقاومة؟ أم هي حزب، وقادتها هم رجال دولة، وغايتها انشاء مؤسسات، وأداتها الاولى المفاوضة؟ وكان من أمر ارساء السلطة الفلسطينية أن بلغ التناقض شفير الانفجار. وبعض الفلسطينيين لا يترددون في القول انهم يوم كسبوا معقلاً خسروا وطنهم.... ويسع"حماس"اليوم ان تمنح محمود عباس فرصة من غير قبوله اتفاقات أوسلو. ويسعها كذلك الانخراط في المؤسسات الفلسطينية من غير الموافقة على السياسات السابقة. ف"حماس"تتمتع بقوة نسبية تجعلها على يقين من قدرتها على المحافظة على استقلالها، من جهة، وعلى استعمال ثقلها في رسم قرارات منظمة التحرير والسلطة، وفي صبغة المجتمع الفلسطيني الدينية، من جهة اخرى. وهي تنظر بعين الرضا الى مشروع الرئيس الفلسطيني السياسي - الشفافية والديموقراطية ? وبينما محمود عباس قادر على مفاوضة واشنطن واسرائيل، لا تمانع"حماس"وهي لا تتمتع بهذه القدرة، في الامر. وعلى هذا، فوقف اطلاق النار"التهدئة"الجزئي والمضطرب يواتيها مواتاة تامة. فالفلسطينيون متعبون ومرهقون، واستمرار"حماس"على الحرب قد يكبدها خسارة جمهور الفلسطينيين ومساندته. والى كذلك، أدت العمليات الاسرائيلية الى مقتل معظم قياداتها التاريخية، وحطت بقوتها العملانية. فقد يبدو مسعى الرئيس الفلسطيني في دمج"حماس"تحررياً، وفي وقت غير مناسب. والحق ان عباس ورث، حين ورث"فتح"، منظمة رخوة، من غير وحدة ولا نهج واضح، ومصدر قواتها امجادها الماضية وقادتها الذين قضوا اغتيالاً. ولم يفلح الخلف، بعد اكثر من مئة اليوم على انتخابه اقناع الفلسطينيين بجدوى سياسته. ويخشى الاسرائيليون والاميركيون والفتحاويون حيازة"حماس"قوة راجحة في الهيئات الفلسطينية، واضعاف سيطرة"فتح"على السلطة جراء استراتيجية الرئيس، وعمله على دمج الخصم الاسلامي في السلطة. ولعل ارجاء الانتخابات التشريعية المظهر الاقوى للخلاف. ولكن عباس يرى الامر على نحو مختلف، فهو يقدر ان دمج"حماس"قد يؤدي الى تغير المنظمة الاسلامية و"فتح"وطريقة تناول الفلسطينيين السياسة، معاً. وما على كوادر"فتح"إلا لوم أنفسهم اذا خيبت نتائج الانتخابات توقعاتهم. ... واذا اضطرت"فتح"الى المساومة مع قوة برلمانية اسلامية قوية، فقد يفرض عليها ذلك رص صفوفها، وضبط ناشطيها، وصوغ برنامج سياسي وطني متماسك، وتعريض نفسها للشفافية، وكبح اطماع قادتها. ... واظهرت الانتخابات البلدية تصدر قوة"فتح"وسبقها، على رغم احراز خصمها تقدماً. ومعظم الفلسطينيين يرفضون المقاومة الاسلامية؟ وتحظى"حماس"بعطف من الرأي العام ناجم عن الشك الشعبي في العملية السلمية، وفي السلطة الفلسطينية وظروف الحياة في اراضي السلطة، فوق ما هو ناجم عن جاذبية برنامجها.... وقد تجني"حماس"، في الدورة الانتخابية الاولى، مكاسب سببها طهارة من لم يزاول الحكم ويتقلب في وصوله. فاذا كسب محمود عباس رهانه، وتعاونت اسرائيل والولايات المتحدة على تحسين احوال الفلسطينيين ميدانياً، ورعاية أمل ملموس، فلن يلبث النجم الاسلامي ان يخبو حين حلول الموعد الانتخابي التالي. والحق ان"حماس"لا تملك خطة حكم، ولا أجوبة عملية عن المسائل التي يؤدي استلامها السلطة الى طرحها. وتدرك"حماس"ان اموراً كثيرة وحاسمة تتعذر معالجتها من غير مساعدة سياسية واقتصادية تتولاها واشنطن. فاذا استلمت السلطة وهي على سياستها المعروفة اليوم. ترتب على استلامها رد دولي قوي ترجم تردياً مادياً في احوال الفلسطينيين... و"حماس"اعتادت السياسات المعارضة، وليس الاضطلاع بالمسؤوليات. وهي لا تريد تحمل المسؤولية عن اخفاق محمود عباس. وتقدر موقع"حزب الله"من الهندسة السياسية في لبنان حق قدرها: فهذا الموقع يتيح للحزب الجمع بين فوائد العمل داخل المؤسسات وخارجها، وبين الامتناع من قبول القرارات الرسمية والرضوخ لها ضمناً، وبين التنديد بافعال الدولة والاستفادة منها.... وبحسب محمود عباس ان دخول"حماس"منظمة التحرير والمجلس التشريعي يجبرها على المساومة، بما فيها على القرارات التي ترفضها. ويرى الرئيس الفلسطيني ان تهميش المنظمة الاسلامية يضع استراتيجيته في مهب عمل هجومي عسكري. فاذا انضمت الى المعترك البرلماني، فهو على يقين من رجحان كفة التزامها الهدنة والزامها بها قاعدتها. وما دام الاحتلال الاسرائيلي، فكل محاولة بتجريد الحركة من سلاحها بالقوة تستنفر مقاومة عنيفة، وتفضي حتماً الى نزاع أهلي، والى تنديد شعبي عريض.... حسين آغا كاتب فلسطيني وروبرت ماليه مستشار بيل كلينتون لشؤون المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية، ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، النصف الاول من حزيران يونيو 2005.