تتوالى منذ مطلع هذا العام الاحتفالات العالمية برواد الأدب الخرافي والخيالي، ومنها الاحتفال بالمئوية الثانية لولادة الدانمركي أندرسن جامع الأدب الخرافي الاسكندينافي، والمئوية الأولى لوفاة الفرنسي جول فيرن رائد أدب الخيال العلمي، ومرور ثلاثة قرون على ترجمة"ألف ليلة وليلة"الى الفرنسية. أما نحن العرب، فنتساءل عن موقع الأدب الخرافي في انتاجنا الكتابي المتواضع وكذلك في حياة الأطفال المعنيين الأوائل به. يورد الواقع لنا سلسلة من الدلائل الى تدهور موقع هذا الأدب الذي يكاد يكون في طريق الانقراض. المثال الأول هو ما واجهته المشرفة على نشاط يهدف الى حثّ الأطفال على تأليف قصة خيالية، تنظيم"قصر الأطفال"في بيروت. اذ توصّل الأطفال بصعوبة الى تأليف قصة خيالية، ما دعاها الى التساؤل:"هل نحن فعلاً في بلاد"كان يا ما كان"؟ في شرق"ألف ليلة وليلة؟"سؤالها موجّه لنا جميعاً. ماذا نقدّم لأطفالنا وكيف أوصلناهم الى مرحلة تجمّد خيالهم؟ المثال الثاني هو تجربتي الشخصية في مدرسة سألت طلابها عن الحكايات التي تحكى لهم في البيت، والصدمة كانت أن نحو عشرة في المئة منهم فقط تروى لهم حكايات قبل النوم! ننتبه هنا الى أن معظم أطفال اليوم ما عادوا ينامون في السرير على حكاية قبل النوم، بل ينعسون أمام التلفزيون الذي يعتمدون عليه في معرفة القليل من القصص الخيالية، تحديداً قناة"ديزني"التي استعارت قصصاً خرافية شعبية وحوّلتها الى مسلسلات وأفلام مثل: طرزان،علاء الدين، بياض الثلج والأقزام السبعة... وطبعاً فإن ديزني ترويها وفق رؤية أميركية مدبلجة الى اللغة العربية، تنقل علاء الدين فوق بساط سندباد السحري ومعه الجني الطريف وهي رؤية أبعد ما تكون عن الأصل الشرقي لعلاء الدين والعربي لألف ليلة وليلة. اذاً لا يصل للصغار شيء من الرؤية العربية في مسلسل"سندباد"المدبلج عن الصينية منذ عقود، الذي يقدّم لنا فتى من بغداد يعشق الرحلات والمغامرات يلتقي علي بابا"اللص"وعلاء الدين"العجوز". أما صديقه الشاطر حسن فهو خمول لا يجرؤ على ترك بغداد... تستخدم الرؤية الصينية أسماء عربية رنانة شهيرة بعد التلاعب بشخصياتها ومحو معالمها الحقيقية. وتأتي الرؤية الفرنسية لتقدّم الأميرة شهرزاد العزباء التي تجول من دون شهريار بحثاً عن المغامرة والدهشة... الا أن أحداً لم ينتبه الى هذه الأخطاء الخطيرة ولم يحاول تقديم رؤية عربية وشرقية بديلة أو على الأقل موازية ورديفة. نعود لنلاحظ أن معظم ما يقدّم للصغار اليوم في العالم العربي ينحو نحو الواقعية اليومية، أي نقل يوميات الطفل بحذافيرها"المملّة غالباً"وتجاهل ما يكمن في ذات الطفل من رغبة بالانطلاق نحو المجهول واكتشاف العالم الواقعي والخيالي أيضاً وحشريته اللامحدودة التي تتعدّى المدرسة والبيت والمحفظة والثلاجة... بينما اغراقه في يومياته أكثر وأكثر وتذكيره بواجباته المدرسية أو المنزلية تناول ما تطبخه ماما، اطاعة الأوامر، النوم باكراً... كل هذا لا ينفره من القراءة والكتاب فحسب بل يجمّد خياله ويقمع توقه الى الابداع والحلم. إن كانت وسائل اعلامنا لا تهتمّ بهذا الأدب ولا تقدّر دوائر برامج الأطفال فيها المفتقرة في معظمها الى اختصاصيين في علوم نفس واجتماع وتربية الأطفال...، فإن الاحتفالات العالمية الرفيعة المستوى برواد هذا الأدب يجب أن تفتح المجال أمام اعادة قراءة انتاجاته الغنية المبدعة التي تشكّل الى جانب الملاحم قاعدة الأدب الكلاسيكي دي نرفال، لافونتين... وصولاً الى الواقعية السحرية ماركيز بورخيس... والأهم انقاذ عادة تلاوة القصص على الصغار، تحديداً حكايات جداتنا النابعة من بيئتنا الصغيرة، والعبارة الساحرة:"كان يا مكان في قديم الزمان". لماذا نترك ديزني، أو غيرها، تتفرّد بتقديم الحكايات على طريقتها؟ لماذا لا نخبر أطفالنا عن معروف الاسكافي ومغارة علي بابا وسيف بن ذي يزن وأبو زيد الهلالي ورحلات الشاطر حسن... إن كان الروائي العالمي غونتر غراس اعترف بفضل حكايات أندرسن الخرافية عليه وتأثيرها الايجابي في قلمه وخياله، فهل يشكل هذا حافزاً للتخلص من عقدة الكثيرين حيال هذا اللون الأدبي واستخفافهم به؟ وإن كان بدأ كل فقرة من أحد فصول روايته الحائزة نوبل الطبل بعبارة"كان يا مكان"، فهل يلتفت المهووسون بالعالمية الى هذه العبارة قبل أن يبتلعها النسيان؟