يطرح ترشح الشيخ هاشمي رفسنجاني لمنصب رئاسة الجمهورية، وحظوظه الكبيرة بالفوز، تساؤلات حول ما اذا كان سيستأنف ما كان قد بدأه اثناء ولايتيه الرئاسيتين السابقتين في التركيز على الجانب الاقتصادي على حساب الابعاد الاجتماعية والسياسية الاخرى ، ام انه سيتفادي اخطاء الماضي فيعمل على اطلاق مشروع اصلاحي متكامل الابعاد، ما قد يدخله في مواجهة مع التيار المحافظ, في الدرجة الاولى, ومع التيار الاصلاحي الذي سيجد نفسه خاسرا لاطروحته السياسية. وللوقوف على ابعاد الاختلاف بين التيارين الاصلاحي والمحافظ من جهة ورفسنجاني من جهة أخرى، في ما يأتي قراءة في مشروعه أثناء ترؤسه الجمهورية الاسلامية لولايتين, كما تراها القوى الاصلاحية والمحافظة التي عملت معه. يصعب الفصل بين تاريخ الثورة الاسلامية في ايران والدور المؤثر للشيخ رفسنجاني في المفاصل الحرجة.فمع صعود دوره في الحياة السياسية تولى رفسنجاني ملف الحرب العراقية - الايرانية وتشعباته ممثلا لمؤسس الثورة الامام الخميني في المجلس الاعلى للدفاع وقيادة القوات المسلحة، وبالتالي مهمة ادارة الحرب. ومع توليه رئاسة مجلس الشورى في وقت كان رفيق دربه السيد علي خامنئي رئيساً الجهورية ، تحول احد ابرز الشخصيات السياسية التي سيقع على عاتقها رسم مستقبل ايران السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما جعل منه هدفا متكررا لمحاولات الاغتيال من قبل العناصر والأحزاب المعارضة للثورة. وعندما وصلت الحرب العراقية - الايرانية الى مشارف نهايتها، بعد التراجع الايراني على جبهات القتال والتدخل الغربي والاميركي ضد طهران، تولى رفسنجاني مهمة اقناع الامام الخميني بتجرع سم"الموافقة على انهاء الحرب. وفي خطوة استشرافية لموقعه في هرمية القيادة,مع انصراف الامام الخميني لترتيب البيت الداخلي، دخل رفسنجاني في مغامرة اقناع مؤسس الثورة باجراء تعديل على الدستور يطال موقع رئيس الجمهورية ويلغي منصب رئيس الوزراء، خصوصا بعد التجربة التنافسية التي حكمت السنوات الثماني الاولى من عمر الثورة بين الموقعين، فكان له ما اراد. في نيسان ابريل عام 1988 استفاقت ايران على خبر رحيل مؤسس الثورة الامام الخميني. عقد مجلس خبراء القيادة اجتماعا عاجلا قبل دفن جثمان فقيد ايران لينتخب السيد علي خامنئي خليفة له تاركا منصب الرئاسة الجمهورية للرجل الثاني الشيخ هاشمي رفسنجاني الذي بدأ ما عرف بمرحلة اعادة البناء والانفتاح الاقتصادي. رفسنجاني وجمهورية اعادة البناء بعد رحيل الخميني، وما يمثله من رمزية المؤسس، كان لا بد ان تشهد الساحة الايرانية تغييرات جذرية، لم تكن لتمس الهوية العامة للنظام واسسه، بل تطال المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية وحتى الحزبية. فالسنوات الثماني التي تلت رحيل المؤسس وتولي السيد الخامنئي قيادة الثورة، شهدت انسجاما كبيرا بين المواقع القيادية في النظام الاسلامي حول السياسات الداخلية والخارجية على حد سواء، واستمرت في نهج اكثر صرامة في التعاطي السياسي مع الاطراف الداخلية. ترافق وصول رفسنجاني الى الرئاسة مع نقلة نوعية في حياة الثورة والدولة، اذ مثلت فترة انتخابه انتهاء لمرحلة مليئة بالمصاعب والتحديات، والبدء بمرحلة جديدة لا تقل تحدياتها صعوبة، لكنها مهدت للانفتاح الايراني على الخارج الاقليمي والدولي، والانطلاق في عملية اعادة البناء والنهوض بالاقتصاد والتنمية الاقتصادية التي تعطلت آليتها على مدى السنوات التسع السابقة. وشهدت هذه المرحلة اللجوء الى سياسة الاقتراض من الخارج والانتقال الى الاقتصاد الحر المقيد بشروط خاصة داخلية ما جعل الدولة حاضرة في مفاصله الرئيسة، كما شهدت اولى ارهاصات التشكل الحزبي من خلال الاعلان عن تأسيس حزب"كوادر البناء"الذي مثل طبقة التكنوقراط والذي كان مقربا من رفسنجاني ومحسوبا عليه. وتعتبر رئاسة رفسنجاني من اكثر الفترات تعقيدا في عمر الثورة الايرانية. فمن جهة كان يطمح الى بناء دولة قوية يتمتع فيها رئيس الجمهورية بدور محوري. غير ان الواقع المسيطر ووجود منصب ولي الفقيه دستوريا على رأس النظام وصلاحياته المطلقة، فرض عليه التراجع عن كثير من طموحاته، واعتماد أسلوب واقعي في التعاطي مع العديد من الملفات، خصوصا في مجالات العمل السياسي والثقافي والحريات الحزبية والاعلامية والفنية. وانطلاقا من هذا الواقع، ومع ان البدايات كانت توحي بامكان ارساء اجواء من الديمقراطية وحرية النقد والتعبير، الا ان دقة المرحلة وتعقيداتها فرضت على حكومة رفسنجاني التعاطي بخلاف ما كان متوقعا منها، ما جعله يتعرض للكثير من النقد من قبل الاطراف التي رأت فيه وفي شخصيته المرنة مجالا للتحرك تحت سقف نظام الجمهورية الاسلامية. فعلى رغم اعلانه اتباع سياسة انفتاحية, الا ان الفترة الاولى من رئاسته شهدت انعطافة في التعاطي الصارم مع المعترضين على سياساته، ولعل حادثة الزج بنحو ثمانين من المثقفين والمفكرين في السجن اثر رسالة وجهوها اليه تحمل انتقادا قاسيا لسياسته وادارته المالية والاقتصادية تشير الى ان الاجواء الداخلية لم تكن تسمح بعد باطلاق حريات الرأي والتعبير والمعارضة والعمل الحزبي المطلق. وعلى رغم ذلك، تميزت هذه الفترة بشكل اساس بالانفتاح الاقتصادي واعادة البناء على حساب الامور الاخرى، ودخلت ايران في عملية الاستقراض الواسع من الخارج، وتجاوزت قيمة الديون الدولية سقف ال60 بليون دولار، بعد ان تمكنت الدولة من تجاوز فترة الحرب من دون اللجوء لذلك نسبيا، وارتفع سعر صرف الدولار بسرعة كبيرة ليتجاوز عتبة 4500 ريال للدولار الواحد بعدما حافظت العملة الايرانية على ثباتها النسبي طوال الفترة الماضية. عمل رفسنجاني في تلك المرحلة على ارسال اشارات سياسية واضحة للمجتمع الدولي حول السلام في الشرق الاوسط كان ابرزها التشديد على اعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه نافيا الاتهام بان المسلمين يريدون رمي اليهود في البحر، وهو التوجه الذي سيتبلور لاحقا في كلام قائد الثورة السيد علي خامنئي من دعوة لانتخابات ديمقراطية يشارك فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون من سكان فلسطين الاصليين، واستعداد ايران للقبول بنتيجتها مهما كانت. الاهتمام الذي اولاه رفسنجاني للجانب الاقتصادي واعادة البناء، كان كما يجمع الكثيرون من أنصاره ومعارضيه، على حساب الابعاد والجوانب الاخرى من الحياة السياسية والاجتماعية، وهذا ما فتح عليه باب النقد الواسع. اعتقد رفسنجاني ان النهوض بايران لا بد ان يتم بالتركيز على الاقتصاد، خصوصا بعد انتهاء حرب دامت قرابة ثماني سنوات ساهمت في تدمير البنى التحتية والاقتصادية، واوجدت حائلا دون الاهتمام بالتنمية لما اوجبته من توظيف كل الجهود في المجهود الحربي، لذلك سعى الى ايجاد طبقة من التكنوقراط تتبنى مشروعه وتعمل في هذا الاطار. ودخل رفسنجاني ومعه الدولة الايرانية في عملية بناء واسعة على جميع الصعد، فشهدت ايران نهضة في بناء المصانع والمعامل واعادة اعمار المناطق التي تضررت بشكل كبير من جراء الحرب العراقية. الا ان جميع هذه الخطوات التي شملت كل ايران من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها ، وان كانت قد ساهمت في جانب منها في اعادة بناء الحلم التاريخي لايران بان تعود محور المنطقة خصوصا منطقة اسيا الوسطى والدول المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي السابق ، من خلال المشروع الحلم الذي وضع حجر اساسه رفسنجاني لاعادة احياء"طريق الحرير"وهذه المرة عن طريق السكك الحديد ، الا ان كل ذلك جاء على حساب الابعاد الاخرى من الحياة الايرانية الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية والفكرية. وعلى رغم ان الجميع يكاد يتفق على ان الجمهورية الثانية اختارت التفرد بالاهتمام بالجانب الاقتصادي وتركت الجوانب المختلفة لمؤسسات اخرى في النظام، كالامن والسياسة الخارجية والداخلية، الا ان عددا من المعارضين المعروفين لسياسة هذه الجمهورية يرى ان ارهاصات حرية التعبير والصحافة قد بدأت بالظهور في نلك الايام. فيما يرى اخرون ان الامر خلاف ذلك، وان اختيار رفسنجاني للجانب الاقتصادي على حساب الابعاد الاخرى على رغم قد قدرته على لعب دور بارز في هذا الاطار، اثر سلباً في موقعه الشعبي وجعل كثيرا من القوى تقف في صف المعارضين له, واتهام سياسته بانها اوجدت شرخا وانقساما طبقيا واضحا في المجتمع الايراني وعمقت الشعور الطبقي بين افراده. وقد بلغت حدة المعارضة لرفسنجاني ان رأت مجموعة من المثقفين الذين شكلوا في ما بعد الكتلة الاجتماعية والجسم الذي حمل المشروع الاصلاحي، ان الجمهورية الثانية ساهمت من خلال تخليها عن التصدي للمسائل الثقافية والسياسية في افساح المجال امام القسم الثاني من النظام للتأثير سلبا على المشروع التنموي الذي كان يلحظ كل الجوانب، خصوصا ان هذا الجزء من السلطة قام بالتصدي للمرة الاولى لمحاولات تأسيس صحافة حرة ومنفتحة على كل التوجهات، والتي شكلت في ما بعد او عرفت بالصحافة الاصلاحية، فكان ان اقدمت الاجهزة الامنية والقضائية على اقفال عدد من الصحف والمجلات. اما في مجال النشاط الفني والسينمائي مثلا، وبعدما كانت الجمهورية الثانية بدأت بالتأسيس لمرحلة جديدة من العمل في هذا الاطار فاتحة الباب واسعا امام الابداع والعطاء، فان اعمالا فنية كثيرة قد منعت من العرض. وعلى رغم شبه الاجماع حول اهتمام الجمهورية الثانية بالجانب الاقتصادي على حساب الابعاد الاخرى ، الا ان الجميع متفق على ان هذه المرحلة سمحت بتبلور اولى ارهاصات الحركة الاصلاحية على صعيد العمل النيابي، ففي اواخر الدورة الثانية من رئاسة رفسنجاني، بدأت قوى اصلاحية بالظهور في شكل علني على الساحة السياسية مستفيدة من الاجواء المفتوحة التي وفرتها حرية العمل الحزبي الذي بدأه حزب كوادر البناء المقرب من رفسنجاني، وقد تبلورت هذه التحركات والانفراجات في الانتخابات النيابية للمجلس الخامس بعد الثورة الاسلامية، اذ تمكنت الاتجاهات المقربة من هذا الحزب الى جانب اعضائه من السيطرة على معظم مقاعد المجلس النيابي مؤسسين بذلك اول برلمان اصلاحي استمر خلال السنوات الثلاث الاولى من عمر رئاسة السيد محمد خاتمي الاولى. اضافة الى ذلك، فان رفسنجاني سعى الى ان يكون شريكا فاعلا في اختيار الرئيس المقبل للجمهورية، وذلك في اطار رؤيته لاستمرار مشروعه التنموي والنهضوي، وشعوراً منه بان المرحلة قد تكون بحاجة الى اعادة الاهتمام بالابعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي اصابها بعض الاهمال في السنوات الماضية، لذلك رمى حزب كوادر البناء بثقله في الاعداد لحملة خاتمي الانتخابية، وقام الامين العام لهذا الحزب غلام حسين كرباستشي الذي كان يتولى منصب رئيس بلدية العاصمة بتحمل العبء الاكبر منها، وادى به الامر الى دفع الثمن من خلال محاكمته من قبل السلطة القضائية بتهمة الفساد المالي وسوء الاستفادة من موقعه الرسمي وانتهى به الامر لدخول السجن. فاز خاتمي في الانتخابات الرئاسية فاتحا بذلك مرحلة جديدة من عمر الثورة وبداية الجمهورية الثالثة، لكن جسم الحركة الاصلاحية الذي عانى من اهمال الجمهورية الثانية، وضع في اولويات اهتماماته التخلص من شبح الرئيس رفسنجاني ، فبدأ حملة اعلامية قاسية ضده وضد كل ما يمثله من انجازات ومشاريع، واستمر به الامر طوال السنتين الاوليين من رئاسة خاتمي والتي انتهت بالانتخابات النيابية للمجلس السادس، التي شهدت اقسى هذه الحملات خوفا من عودة ظله للبروز من خلال المجلس النيابي الذي ترشح للمشاركة به، وكانت النتيجة ان استطاعوا زعزعة مكانته الاجتماعية بالاشتراك مع جماعات ايضا من التيار المحافظ الذي سعى ايضا لاضعافه والخروج من تحت عباءته. واثر اعلان نتائج الانتخابات جاءت النتيجة على خلاف ما كان يتوقعه رفسنجاني، ما اجبره على الاستقالة من مقعده النيابي مكتفيا بالقبض على احد المفاصل الاساسية والمهمة في تركيبة النظام وهو مجمع تشخيص مصلحة النظام.