فرضت جماعة"الإخوان المسلمين"وجودها بقوة على الساحة السياسية، ورفعت شعارات ديموقراطية، وأظهرت قدراً من الود تجاه القوى الديموقراطية الأخرى، فزادت حرارة الجدل الذي لا ينقطع عن الموقف المفترض للقوى الديموقراطية واليسارية من الجماعة. هناك الموقف الأكثر تشدداً الذي درج على وصفهم بالمتأسلمين، ويعتبر وجودهم خارج نطاق الشرعية ضرورة لأمن البلاد ومستقبلها. وهناك أصوات تتبنى الدفاع عنهم بلا قيد أو شرط، على أساس شعاراتهم الديموقراطية، وحقهم المبدئي كغيرهم من القوى السياسية في الوجود. وتتمثل المشكلة في الآتي: يشكل القبول غير المشروط للإخوان خطراً حقيقياً على قيام دولة ديموقراطية، ويسهم في تعريض حياة وأوضاع وحريات قطاعات مهمة من السكان للخطر الفادح. بينما يشكل الإصرار على استبعادهم من المسرح السياسي موافقة ضمنية على قيام دولة شديدة القمعية تتولى ذلك، لا يستقيم أن تنادي بها أي قوة تصف نفسها بالديموقراطية. وفي مقابل خيار الاحتماء بدولة الاستبداد ضد الإسلاميين، يحاول المقال، وهو ثمرة نقاشات داخل اتجاه ديموقراطي في اليسار المصري، أن يبحث في إمكان الرهان على أن يكون المجتمع الديموقراطي، لا الدولة الاستبدادية، هو الحصن ضد استبداد الإخوان، وربما الضغط عليهم لتعديل أطروحاتهم في اتجاه ديموقراطي. الإخوان قوة ديموقراطية؟ الشكوك التاريخية عند التيارات الديموقراطية واليسارية تجاه الإخوان لها أساس قوي. فللإخوان تاريخ طويل من العداء الظاهر والباطن لهذه التيارات، خصوصاً حين يكون لها وزن حقيقي في أوساط الطبقة الوسطى. وقد يكون العنف الذي يصل إلى حد الاغتيال أبرز ما يؤخذ تاريخياً على الإخوان. ولكن هذا ليس أكثر من القمة العائمة من جبل الجليد. فمثلاً حين سيطروا على الاتحادات الطلابية، ثم النقابات المهنية، منعوا بالسلطة الإدارية كل نشاط للقوى الأخرى، وصبوا قوالب النشاط نفسها وفقاً لتصوراتهم. فأخطر ما في الإخوان هو إيمانهم العميق بالهيمنة الأبوية على المجتمع باسم الإسلام المختزل في شريعة. فبموجبه يترسب لديهم اقتناع راسخ بحقهم المطلق في فرض رؤيتهم تحت عنوان"إعلاء كلمة الحق"، وبالتالي إلغاء الآخر الأيديولوجي بأي طريق متاحة. فليس لديهم أي رادع داخلي عن ذلك سوى مصلحتهم السياسية، لأن الجماعة في عرف أعضائها حاملة نور الحق، بألف لام التعريف، ووكيل مصلحة المسلمين، بل ومصلحة العالم كله، كما صرحوا ويصرحون حتى الآن. حقاً واجه الإخوان التنظيمات المتطرفة في السجون منذ أواخر الستينات، فأصدر المرشد حسن الهضيبي كتاب"دعاة لا قضاة"ليُنهي به فقهياً مبدأ العنف المسلح عند الجماعة. ولكن الكتاب نفسه يقول إن الإسلام"دين ودولة، والهدف تطبيق الشريعة، والجماعة هي الناطقة بصحيح الإسلام"، كما أقر مبدأ الحاكمية. وقام رفضهم لفقه العنف على مبدأ"إننا دعاة لا قضاة"، بمعنى أننا لا نحكم على شخص بعينه بالكفر، وإنما نحدد فحسب"الأفكار الكافرة". وهو ما يعني المطالبة بهيمنة إيديولوجية شاملة. فالإخوان"دعاة لا قضاة"، ولكنهم دعاة وصاية سلطوية أصولية فقهية عمادها دولة دينية. وأهمية هذه المسألة أنهم سيكونون في السلطة أكثر من قضاة، سيكونون مشرعين، وبالتالي سيحكمون على المجتمع ككل وكأفراد. وتضع رؤيتهم واجباً دينياً على كل عضو فيها، مفاده أن يستغل سلطته، سواء في مدرسة أو اتحاد طلابي أو نقابة، ناهيك عن وزارة، في وأد أفكار"الضالين"وشل حركتهم، أو فرض"صحيح الإسلام"كما يفهمه، وإلا اعتبر نفسه خائناً للدين أو"موالياً للمشركين"، فيعذبه ضميره. والعضو هنا مضطر أن يكون ديكتاتوراً بأمر إلهي. غير أن ضميره في هذا الشكل يمثل تهديداً خطيراً لضمير المجتمع ككل. فالمجال العام سيكون محكوماً تماماً بايديولوجية الجماعة إذا وصلت للسلطة، أكثر بكثير مما كان محكوماً بالميثاق في عهد عبدالناصر. وستتسع الهوة بين معتقدات الناس وممارساتهم الخاصة، وبين ما يجب أن يظهروا عليه. ولعل هذا يفسر للإخوان لماذا يكرههم الكثيرون، سياسيين وغير سياسيين على غرار السؤال الذي طُرح في أميركا. وتؤكد"وثيقة الإصلاح"الصادرة عن الإخوان في آذار مارس 2004 رؤيتهم الاستبدادية. فعلى رغم أنها لا تضع شروطاً لتشكيل الأحزاب، فإنها تطرح قيام"نظام برلماني دستوري ديموقراطي في نطاق مبادئ الإسلام"، ونظام تعليم يتفق مع ما تسميه الجماعة"ثوابت الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضاري"، مع"دعم المعاهد الأزهرية والكليات الشرعية"، و"إحياء نظام الحسبة"، و"تحقيق التدين والربانية في المجتمع". والحال أن الربانية التي هي اسم آخر للحاكمية والدستور الإسلامي، يفرغان قبول التيارات السياسية الأخرى من أي مضمون، لأنها ستصبح في الحقيقة أشبه بپ"أسرى الحرب"، تعمل داخل إطار معاد مؤسسياً لها. أما الحسبة فستقلب حياة الناس جحيماً، فقد تصل في حدها الأقصى إلى فرض نظام أخلاقي متشدد وقمعي على السلوك الاجتماعي في مجمله، وفى الحد الأدنى التحكم في المجال الأيديولوجي كله. واشتُهر الإخوان، مفكرين وناشطين، بالمطالبة بالحد من حريات الفكر والإبداع. وبالعبارات الديبلوماسية في وثيقتهم: تتأسس"مفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز"على"المبادئ والقيم الإسلامية، تربية للفرد ... لحمايته من التغريب والتغييب". فالأفراد، بحسب الإخوان، ليسوا مصدر السلطات، وإنما هم قاصرون تحت الوصاية، خاضعون للتربية والحماية، التي ستفرضها عليهم دولة الإخوان باسم الإسلام. وقس على ذلك. هذا أقصى ما تفتقت عنه ديموقراطية الإخوان المستجدة: دستور جمهورية برلمانية على مقاسهم، يعطيهم بحكم بنيته نفسها وضعاً ممتازاً بوصفهم روحه الحقيقية. والخلاصة أن"جمهورية الإخوان البرلمانية"أقرب إلى تقنين انتخابي للوصاية على النخبة والجمهور، في إطار رؤية أشمل تحلم بالوصاية على البشرية كلها. وبالتالي ليست الديموقراطية في فكر الجماعة سوى أداة مناسبة لپ"الاستعلاء بالحق". ويمكن القول بأنها تبنت جانبها الانتخابي بمنطق براغماتي. فنظراً إلى أن دعوتهم منتشرة، فإن طريق الانتخابات يتيح لهم مشروعية، يعتبرونها حديثة وديموقراطية، تبرر أمام الآخرين وضع أيديهم الثقيلة على مخالفيهم والتحكم فيهم وإعادة صياغتهم على صورة الإخوان ومثالهم. وهكذا فإن نقطة الخلاف الجوهرية بين الإخوان والقوى الديموقراطية تكمن في مفهوم الديموقراطية نفسه. فالديموقراطية تعني أن الناس بعقائدهم وأجناسهم وألوانهم كافة متساوين أصلاً لمجرد أنهم ناس، ولهم الحق نفسه في صوغ نظامهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتعديله، الخ... وهو نظام سياسي له أساس فلسفي يقوم على الفردية، وبالتالي لا يتيح لأي غالبية، مهما بلغت، الحق في أن تفرض الوصاية الايديولوجية والسياسية على فرد. وبالتالي ليست الحرية انتخابات، وإنما الانتخابات محصلة للنقاش السياسي الحر في نظام ديموقراطي. ووفقاً لهذا المعيار، يعني القول بسيادة جماعة معينة بدعوى أنها تمثل الغالبية، إخراج الآخرين من الإجماع السياسي الذي تقوم عليه فكرة الدستور الديموقراطية نفسها، وبالتالي يكون الدستور، بفرض أنه أُقر بغالبية انتخابية، وهو ما لم يقل به الإخوان أصلاً، مجرد"إعلان دستوري"لحرب أهلية مستترة. ليست المشكلة أن الإخوان سيقلبون الصندوق بمجرد الوصول للسلطة. قد لا يقلبونه، ولكنهم سيستخدمون كل الوسائل المؤسسية للحد جذرياً من قدرات معارضيهم كما يفعل النظام الحالي، وباسم دستورهم نفسه. المشكلة الأخرى في علاقة الإخوان بشعاراتهم الديموقراطية المستجدة، أن علاقتهم بالنظام الاستبدادي القائم ليست علاقة عداء وتناقض. فإلى جانب تاريخ القمع المشهور، هناك تاريخ مسكوت عنه من التعاون الصامت والعلني، وتقارب أيديولوجي عميق، ودور مهم للنظام، حتى في العهد الناصري، في التمهيد لما يعرف بپ"الصحوة الإسلامية"، ولكن هذا موضوع يطول شرحه. وفي الوقت الحاضر تقتصر مطالب الجماعة على الإفساح لها داخل نفس النظام القائم. وفى مواجهة حركة"كفاية"، أعلنوا أنهم مع"الإصلاح"لا"التغيير". ولا أجد تفسيراً أفضل لتظاهرات الإخوان الأخيرة تحت شعارات ديموقراطية من أنها محاولة استثمار فائض الضغط الأميركي الأوروبي للحصول على شرعية من داخل النظام القائم الذي يظل دعمه هو خيارهم الاستراتيجي، مع الضغط عليه لانتزاع مكاسب. وهو حساب مبني من الأصل على اتفاقهما على تجنب إصلاح ديموقراطي أصيل، ورفض مطالب الإصلاح الخارجية والداخلية التي تمس سياسات الهوية وتقلص مكاسب التشويه الأيديولوجي الذي حققه التيار الإسلامي في العقود الأخيرة. أين يمكن اللقاء إذن؟ يبدو أن أي رهان على إدماج الإخوان في مجتمع سياسي ديموقراطي ينشأ بالضرورة من الرهان على القطاع الحديث داخل الجماعة. وتتمتع الجماعة بثقل ملحوظ داخل الفئات الوسطى الحديثة، وقطاعات من رجال الأعمال، ولكن، هناك في المقابل ثقل آخر داخل البرجوازية الصغيرة التقليدية. ومن الناحية السياسية ثمة فكرتان مختلفتان تتنازعان الجماعة: الحفاظ على الجماعة بوصفها الشامل، حيث السياسة أحد جوانب نشاطها فقط، مقابل أن تعلن نفسها حزباً. ويبدو أن المرشد ونائبه مع الاتجاه الأول، في مقابل قادة جيل الشباب. واتساقاً مع هذه الرؤية يمكن القول بأن أحد الجناحين على الأقل يحمل، بقبول فكرة الحزب، خطاباً تحديثياً، محوره فكرة الفئات الوسطى: النهضة، أي مكانة داخل العالم الحديث، وبالتالي قبول تعددية حزبية نشطة تتجنب، من جهة، خياراً إسلامياً متطرفاً وسلطوياً تماماً يتعارض مع مطالب التحديث ومع الأوضاع الدولية، ومع مصالح القوى الاجتماعية التي تؤيدهم نفسها، وتتجنب من جهة أخرى الضوابط الأمنية الحالية التي تحد من نشاطهم، مقابل القبول بضوابط قانونية. وهو ما لا يتحقق إلا بالاحتماء بقوى التحديث الأخرى لبناء نظام سياسي، لا بوليسي، على أساس حد أدنى مشترك. كذلك فإن التظاهرات الأخيرة للإخوان تقربهم موضوعياً من المعارضة الديموقراطية، وتحول دون طرح أنفسهم بوصفهم اللاعب الشرعي الوحيد. فالألعاب والمؤسسات الديموقراطية لها منطقها الخاص الذي يصعب صبه في قالبهم الضيق. وفي المقابل، فإن التيارات الديموقراطية، إذا قبلت التحليل السابق، ستجد أن ثمة أساساً للرهان على تطور الإخوان الديموقراطي. فالامتداد المنطقي للتحليل هو أن الإخوان يمثلون داخل الحركة الإسلامية خياراً مختلفاً عن الحركات الفاشية الدينية، وأنهم أكثر تقدماً مقارنة مثلاً بالتبليغ والدعوة والتيار السلفي، وبالتالي يمكن للاتجاه الأكثر تقدماً من الإخوان أن يلعب دوراً إيجابياً في التعامل مع هذه التيارات ويحد من تزييف الحركة الإسلامية ككل، ويعزز فرص الطبقة الوسطى. والقوى الديموقراطية لا تملك ترف تأجيل تحرير المجال السياسي. فهذا يهدد فعلياً بالمزيد من نمو نفوذ الأصولية، على نحو ما يوضح تاريخ النظام الاستبدادي الحاكم. كما يعني القبول الضمني لدور النظام في الحد من خطورة الإخوان الترخيص له فعلياً بلعب ورقة صراع التيار الإسلامي وخصومه لمصلحة استمراره، في ما يعرف بسياسات التوازن. كما أن القوى الديموقراطية لا تستطيع أن تلعب دوراً في دفع تطور الإخوان نحو الديموقراطية بغير القبول المشروط بوجود تيار ديني. ودورها مهم، لأن المرجعية الإخوانية الرسمية ممثلة في القرآن والسنّة ومدارس الفقه لا تقدم جديداً، فهي تراث ثابت منذ أكثر من ألف عام. وعلى عاتق القوى الحديثة فعلاً، الديموقراطية واليسارية، تحديد المحتوى الفكري الذي يحقق مهام النهضة، كشرط مسبق لتطور فكر الإخوان. وبالطبع فإن فاعلية هذا المحتوى تعتمد تماماً على فاعليته الواقعية أيضاً في ساحة الصراع السياسي. غير أن هذا اللقاء الممكن بين القوى الديموقراطية والإخوان يتطلب تنازل هؤلاء عن مبدأ صوغ دستور يقوم على ايديولوجيتهم، وقبولهم بأن احترام العقائد الدينية لا يكون بوضعه أحدها في الدستور، على طريقة"المصدر الرئيس للتشريع"، فهذه وسائل سلطوية، وإنما عن طريق إرادة أفراد الشعب الحرة المتجددة في عملية التشريع، وبما لا يؤدى إلى الافتئات على طائفة منه ووضعها في موضع أدنى. كما يجب أن يتخلوا عن فكرة وجود تفسير واحد صحيح الإسلام، ويقبلوا فكرة حرية الاجتهاد المفتوحة، في الدين وغير الدين، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أي ادعاء ديموقراطي. ومن الناحية السياسية، فإن التحول إلى حزب سياسي شرعي، يعني تحويل الجماعة إلى حزب، لا إقامة حزب إلى جانب الجماعة. فالتنافس في الحلبة السياسية يجب أن يكون بين جماعات لها وضع قانوني متساو. كما يعنى إما حل التنظيم الدولي أو تحويله إلى"دُوَلية"أو منتدى حوار بين الأحزاب الإسلامية، على غرار"الدُولية الاشتراكية". وينبغي أن يخضع تمويل الحزب الداخلي أو الخارجي ومشاركته في الانتخابات لنفس الضوابط التي تخضع لها الأحزاب الأخرى. كما أن ديموقراطية الحزب الداخلية جزء لا يتجزأ من ادعاءاته الديموقراطية. فالديموقراطية ليست إنزال المصاحف ورفع الشعارات الديموقراطية بأوامر"الأمراء"على طريقة السمع والطاعة. ومن واجب الإخوان تبني سياسات معينة للحد من الكراهية بين أصحاب العقائد، وتجريم الحض عليها. وكذلك الاعتذار عن تاريخهم في العنف، ليس بغرض إذلالهم، ولكن كميثاق شرف معلن يمنعهم أدبياً من الارتداد إلى عهد الجنازير والكرابيج في الوقت الذي يناسبهم. أما في اللحظة الحالية، فالدفاع عن الإخوان أمام عسف السلطة واجب على كل القوى الديموقراطية التي عليها أيضاً في الوقت نفسه تقديم نقد صريح لبرنامجهم وفضح صياغاته التسلطية، ومطالبتهم بقبول حقيقي للديموقراطية، كشرط لاعتبارهم قوة ديموقراطية حقاً. * كاتب مصري.