هل يمكن أن تؤدي ممارسة الديموقراطية إلى إحداث تغيير في النظام السياسي العربي؟ هذا السؤال من الأهمية بمكان, بعدما أصبحت كل الدعاوى الخارجية والداخلية تتجه نحو تطبيق الديموقراطية في البلاد العربية والإسلامية, وكأن هذا المنهج في العمل السياسي هو الطريق الى الإصلاح والتغيير؟ وبالطبع تختلف دعوات الديموقراطية بحسب الجهة الداعية, من النظم السياسية العربية إلى النخب المتغربة إلى السياسة الخارجية الأميركية, إلى الحركات الإسلامية. ويبدأ السؤال من جدول أعمال التغيير, فهل كل دعوة للديموقراطية تشمل جدول أعمال للتغيير, وما هو هذا التغيير وحجمه. ولا ينتهي السؤال, قبل أن نحدد دور صناديق الانتخاب في إحداث التغيير. والحقيقة الأولى أن ممارسة الديموقراطية ليست وسيلة للتغيير, ولا الانتخابات تعد وسيلة للتغيير. فالحاصل في الدول الديموقراطية أنها مارست الديموقراطية بعدما وصلت إلى حال سياسية مستقرة ومتفق عليها. ففي الغرب قامت النهضة الغربية المعاصرة, من خلال الثورات والحروب, ووضعت الدساتير الجديدة كنتاج لحركات تغيير كبرى. وأصبحت هذه الدساتير هي المعبّرة عن الوضع السياسي الجديد, ومن داخلها بدأ الغرب في ممارسة الديموقراطية والاحتكام للانتخابات. ولكن الخروج من العصور الوسطى, إلى عصر النهضة الغربية المعاصرة, لم يكن من خلال الانتخابات, بل كان في معظمه تغييرًا ثوريًا ودمويًا في أحيان كثيرة. والديموقراطية كمنهج للعمل السياسي, تقوم على التنافس الحر بين أحزاب سياسية, تنتمي كلها إلى النظام القائم, وتتنوع في مواقفها داخل هذا النظام. لهذا يعد تداول السلطة قائمًا بين بدائل النظام العام المسيطر نفسه, والمترجم في الدستور والقوانين. وحجم التغير الحادث من خلال الانتخابات, لا يؤدي إلى تغيير جذري, ولا يغير من نظام إلى آخر. وحالة دول أوروبا الشرقية, تمتزج فيها ممارسة الديموقراطية مع العصيان المدني, وهي في النهاية تشمل عملية تحول من تيار غربي إلى آخر ينتمي الإطار الحضاري نفسه. بمعنى أن التحول من الاشتراكية والشيوعية إلى الرأسمالية, لم يحدث بالانتخابات فقط, بل حدث من خلال التظاهر والعصيان المدني والحروب, وجاءت الانتخابات لتكمل عملية التحول. وفي البلاد العربية والإسلامية, لا نرى أننا في حالة استقرار وتقدم ونهضة, بل في مرحلة تخلف وتراجع حضاري واضح. أننا نحتاج للتغيير, حتى نخرج من أزمات التراجع الحضاري الداخلي, ونواجه تحديات العدوان الخارجي. وعندما نتكلم عن ممارسة الديموقراطية, في ضوء الأوضاع الراهنة في البلاد العربية والإسلامية, فإن هذا يعني ممارسة سياسية من داخل النظام السياسي العربي الإسلامي الراهن, أي ممارسة لتكريس الوضع الراهن. وربما تعني الممارسة الديموقراطية في ضوء الوضع الراهن, تطويرا للنظام السياسي, أو تعديلا في آليات الوصول للسلطة, أو تحقيقًا لتداول السلطة, ولكنها لا تعني تغييرا للنظام السياسي. والحقيقة أن تلك المشكلة لا تقف عند حد دلالة الوسيلة السياسية, أي الديموقراطية, ولكنها تتجاوز هذا لمجمل المواقف التي تنادي بالديموقراطية. فالنظم السياسية في البلاد العربية, ومواقف النخب المؤيدة لها, وكذلك النخب التي تدعو للمشروع السياسي الغربي, تتفق في النهاية على شكل للديموقراطية, نراه يجهض كل محاولات التغيير. فإذا أخذنا من الديموقراطية فكرة التنافس الحر بين التيارات والجماعات والأحزاب السياسية, قد يرى بعضهم أن هذا كفيل بتحقيق مساحة من العمل السياسي قد تؤدي إلى التغيير والإصلاح, الذي تنادي به بعض الحركات ومنها الحركات الإسلامية. وقد يرى البعض أن التنافس الحر, سيسمح لأصحاب مشاريع التغيير بتحقيق برامجهم, إذا تحققت لهم الأغلبية من خلال صناديق الاقتراع. ولكن الواقع ينطوي على ممارسات, قد تجعل الديموقراطية متحققة, من دون أن تتحقق مشاريع التغيير. لا أحد يستطيع الزعم بأن مشاريع التطبيق الديموقراطي ودعواته, والتي تتردد الآن من جهات متعددة, هي من قبيل الدعوات الجماهيرية المعبرة عن الأمة العربية والأمة الإسلامية. والواقع أن الدعوة للديموقراطية جاءت أولاً من النخب المتغربة, ثم جاءت ثانيًا من الدول الغربية, وأصبحت مشروعًا استعماريًا أميركيًا بامتياز, ثم أصبحت شعارًا للأنظمة العربية. فالدعوة خارجية, وليست جماهيرية, ولها جدول أعمال لم يأتِ من الناس أنفسهم. ولهذا تصبح الديموقراطية جدول أعمال سياسيًا يخص القائمين عليه والمدافعين عنه. والحقيقة أن النظام السياسي العربي, والذي كثيرًا ما يتحفظ عن المشروع الديموقراطي الغربي, يمثل تطبيقًا سياسيًا للنموذج السياسي الغربي, في بناء الدولة والدستور والقانون. والنظام السياسي العربي لا يتحفظ على التغريب, ولا على الأخذ من المشروع السياسي الغربي, إلا في ما يخص اهتمامه ببقائه في السلطة. فالنظام السياسي العربي, لم يقم على التنافس السياسي الحر, ولم يأتِ من الناس, ولم يكتسب شرعيته من الأمة, ولهذا لا يريد المنافسة السياسية, حتى مع الأحزاب المنتمية إلى المشروع السياسي الغربي. لهذا فكل الأطراف المنادية بالديموقراطية لديها تصور عن حالة سياسية بعينها, تريد تحقيقها على أرض الواقع. وهذه الحالة لم تأتِ من الناس, بل هي حالة سابقة التجهيز, ويراد تنفيذها. وهنا ينبغي الحذر الشديد, لأن الاختلافات بين الأطراف المنادية بالنموذج الغربي يمكن أن تصل لحال تسوية سلمًا أو ضغطًا, ونعرف بالطبع من يملك قوة الضغط. وهو ما سيحدث في المستقبل القريب في مكان أو آخر, والمراد له أن يحدث في مصر والسعودية أساسا, حتى تتساقط بقية البلدان تباعا, ومن دون جهد. وهنا يصبح تصنيع حال من الديموقراطية تكريسا لأوضاع قائمة, وإن كان في صورة محسنة. ووجه الخطورة في هذا, أن تكون حالة الديموقراطية المصنعة, نوعًا من المسكنات الطويلة الأجل, تمدد فترات التراجع الحضاري. والمشكلة الأكثر خطورة, هي أن حال الديموقراطية المراد تصنيعها, تنطوي في الواقع على حال استعمار غير مباشر, مما يعني أننا أمام وسيلة جديدة للاستعمار, تعتمد على الوسائل غير المباشرة وذلك من خلال إنتاج نظام سياسي غربي في الدول العربية والإسلامية, وهو ليس نظامًا غربيًا في مضمونه فقط, بل نظاما تابعا للهيمنة السياسية الغربية, أي نظاما يُدار من الخارج. وبهذا يصبح الإصلاح مؤجلاً, والتغيير مرجأ, والاستقلال حلما بعيد المنال. وتصنيع الديموقراطية يقوم أساسًا على تصنيع نخب تؤمن بالديموقراطية والمشروع الغربي, بل نقول نخب تابعة للسياسة الغربية, والأميركية خصوصًا, وقد تكون نخبا تابعة لأجهزة الاستخبارات وغيرها. وتصنيع النخب يتم من خلال دعمها, وتوفير الموارد اللازمة لها, وإعطائها سلطة ونفوذًا وتأييدها وربط المعونات بها وحمايتها. ثم تقوم هذه النخب بممارسة العمل السياسي, من خلال منع أيّ حركات أو تيارات سياسية من خارجها من ممارسة أي دور. وتتصنع الحال الديموقراطية, عندما يجد الناخب بدائل أمامه عليه أن يختار بينها, ويرى أن اختياره مؤثر, وصوته له دور. ولكن المشكلة أن البدائل المصنعة, تكون هي البدائل الوحيدة المتاحة. ومع الممارسة, سيجد الناخب أن صوته كرس الاحتلال, وينفجر بركان الرفض. بهذه الصورة لا يكون للإسلاميين أي دور في هذه العملية, إلا بتصنيع تيار إسلامي يماثل ويواكب الحال الديموقراطية المصنعة. ولهذا نرى أن قبول الإسلاميين للعمل من خلال الديموقراطية, لم يقبل من الأطراف التي تعتبر نفسها وصية على الديموقراطية. والأمر ببساطة يعني أن التيارات الإسلامية لا تريد المشاركة في تصنيع الحال السياسية الغربية في بلادنا, بل تريد تحقيق الإصلاح والتغيير القائم على المرجعية الحضارية والدينية للأمة. وهذا المشروع معادٍ للديموقراطية المصنعة, وليس معاديًا للديموقراطية, إذا كان التنافس الحر والاحتكام للأمة. وهذا ليس المشروع الديموقراطي المفروض من النخب والأنظمة والقوى الخارجية, الذي لا يعرف معنى الاحتكام للأمة, لأنها في تصوره أمة غير ناضجة, ويلزم فرض الوصاية عليها. وأصبحنا الآن أمام مشروع ديموقراطي يعطل بسبب وجود الإسلاميين, وهو في الواقع ليس ديموقراطيًا من حيث أنه مفروض من الخارج. ومَنْ يرَ أن على الإسلاميين قبول شروط المشروع الديمقراطي المعروض, أو الانسحاب من الساحة لفتح المجال أمام الديموقراطية, يؤيد ضمنًا مشروع التغريب السياسي, والذي يعتبر مقدمة لمشروع التغريب الحضاري الكامل. وهنا يأتي دور الإسلاميين, وعلى رأسهم حركات الاعتدال والوسطية الإسلامية, وجماعة الإخوان المسلمين نموذجًا لهذا التيار, ودورهم في الحقيقة الدفع كي تكون الديموقراطية والتعددية والشورى, أي كي يكون الإصلاح السياسي القائم على التعددية والتنافس الحر بين التيارات السياسية, وسيلة للتغيير والإصلاح, وليس تخليقا لحالة ديموقراطية مصنعة. * كاتب مصري.