مسكينة هي العراق، ومسكينة هي مكتباتها ومتاحفها وشوارعها فلم يعد في البشر أو الصنم العربي اليوم إحساس لنتأسف أو نتألم من أجله، فلم يبق منا إلا الطوب والحجر وما خطه القلم لنفتقده، فالتاريخ الحديث لم يشهد بلاداً أعلن الجميع الوصاية عليها بقدر ما هي العراق، ولم يشهد التاريخ بلداً بدا وكأن أهله تآمروا على تمزيقه بقدر ما هو حادث في العراق... والغريب أن الذين تسابقوا اليوم إلى العراق ليخلصوه من الوصايا الأجنبية، كما زعموا، ها هم اليوم يمارسون الوصايا عليه بأيديهم وينقلون بشاعتهم عبر عمليات عسكرية يعتقدون بأن أهل البلاد عاجزون عن القيام بها للدفاع عن وطنهم... بينما يتجمع الآخرون من داخل البلاد لصياغة مسودة دستور ستكون نتيجتها هي سيطرة شيعية على البلاد، ما سيكون مدخلاً يمهد له الأميركيون ليعلنوا من خلاله سبباً لتقسيم العراق المسكين... هكذا هم ربونا، على أن نعيش دائماً بخوف من غول الهلال الشيعي في المنطقة وتطبيق سياسة اللا اندماج أمام من نعتبرهم نحن أقليات في مجتمعاتنا... أخطر الجزئيات التي تهدد أي إصلاح في الفكر السياسي العربي هي هذه الجزئية، فبلا تغيير في هذه التركيبة الفكرية للخريطة الذهنية الشرق أوسطية التي على رغم كل التغييرات التي طرأت على المنطقة إلا أنها ما زالت تعيش تناقضاً حاداً بين السلطة والمجتمع بفئاته وتياراته المتنوعة التي يتجاهل الكثير منا أنها حقائق جغرافية واجتماعية يجب مواجهتها والاعتراف بها للتعامل معها بصورة صحيحة داخل المنطقة العربية وداخل حدود البلد الواحد. نعم هناك سنة ونعم هناك شيعة بيننا، ونعم هناك مالكية وشافعية بيننا، ونعم هناك عرب وعجم وبربر بيننا، لهم كلهم باختلافاتهم حقوقهم، كما لنا هي حقوقنا، ولا... هي ليست حرباً لمن يحكم الآخر، كما يملي علينا الأغراب إلا إذا أردنا أن نجعلها كذلك. المستعمر الجديد يربينا اليوم على الفرقة وهناك بيننا من يغذي هذه الفرقة بدسائسه وأيديولوجياته المبرمجة ليسوق للفرقة بين مسلمينا، كما سوق لها منذ سنوات الخوارج... هناك نوع من الإسفاف على صفحات الإعلام العربي وداخل كواليس الفكر السياسي المحلي يكشف لنا تعاملاً سطحياً مؤدلجاً تنقصه الحكمة والرشد في التعامل مع القضايا المصيرية التي تحكمنا، وعلى رأس هذه القضايا قضية تعاملنا مع الموضوع الشيعي في المنطقة. فباللغة الملتهبة الطائفية الدارجة اليوم لن نخدم نحن إلا العدو بيننا، وفي المقابل من هذه اللغة هناك سياسة أخرى تغطس رؤوسها كالنعام داخل التراب تنكراً لواقع يحيط بها، متجاهلة أن هذا فعل انتهى زمانه. فالمتغيرات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية تحولت اليوم إلى واقع آخر رضينا به أم أبينا، ولن تبقى أو ترضى الشعوب بأن تعيش في زمن صنم مثل صنم صدام، فقد سقط الصنم وسط بغداد ولكنه للأسف لم يتعلم من سقوطه الأخرون... فقد سقط الصنم الذي كانت شعوبه تهتف باسمه خوفاً من يده البائدة ولم تتعلم الأصنام أن من يهتف بحبهم اليوم قد يكون لا يعرف أجود من ذلك عندما يكون الخوف هو نزيل قلبه الدائم، والخوف كان في الغالب يسكن في قلوب الأقليات التي اضطهدت وهمش دورها بفعل صنم لا يعرف أن احتواء الآخر هو أقصر الطرق للسيطرة عليه... سقط الصنم وما زالت الشعوب تتفرج على مسرحية أبت أن تنتهي طوال سنوات حسبت على تاريخنا العربي بأنها سنوات تحرير من الاستعمار لنرى اليوم أن ذاك الصنم لم يخرج من بيننا إلا على يد صنم أكبر، وهذه إنما هي نتيجة التغييب المبرمج من سياسات"تتنك"لواقع!!!... كلامي هذا قد يكون مبهماً للبعض وممنوعاً من البعض الآخر ولكنه في الغالب هو طريق للحرية، فإن لم نواجه حقيقة التنوع الثقافي والسياسي والقومي في معظم الأقطار العربية سنغرق في بئر المؤامرة التي لا تعيش إلا في أذهان من حبكوها لنا ليحققوا أهدافهم الاستراتيجية التي لا تخدم إلا مصالحهم. طوال سنوات أثبت لنا التاريخ أن الدول التي تقهر المواطن وتقمعه ليعترف بأن هناك توافقاً وتناغماً داخلياً ينفجر فيه ذاك المواطن المقهور عند أول تراخ من قبضة السلطة عليه، فما يحدث اليوم في العراق إنما هو انعكاس لقبضة صنم فشل في إدماج شعبه في منظومة سياسية واحدة، وعاش لتحقيق منظومة سوقت لها أميركا تحت ذريعة مواجهة المد الثوري الإيراني المهدد للمصالح الحيوية الأميركية في المنطقة... فالطائفية السياسية التي انفجرت في مطلع الثمانينات مسيسة، سوق لها ناس هم ليسوا بشيعة ولا سنة، بل هم جعلوا من الطائفية ممارسة سياسية مخزية لأنها الأسهل رواجاً واستعمالاً وأكثر المعارك اشتعالاً وانتشاراً، وإن لم نتدارك لعبة الطائفية التي يسوق لها اليوم، سنكون نحفر قبورنا بأيدينا! منذ طفولتي وأنا أربط كل أحلامي بذاك المستقبل الذي أبى أن يأتي... منذ طفولتنا ونحن نحلم بمستقبل قيل لنا إنه قريب لنكبر ونكتشف انه إنما يبعد كلما كبرنا... كنت في الابتدائية وكانت المملكة تعيش في بدايات الطفرة كان أبي يعدنا أنا وأخوتي بأن يبني لنا مستشفى إن تخرجنا أنا وأخواتي طبيبات... كان يعدنا بأن يشتري لنا سيارة عندما نتخرج في الثانوية لنقودها لأنه كان على قناعة بأن الأوضاع ستتغير بعد سنوات قريبة من ذلك الحديث... كان الكثير ممن هم حولنا وقتها في منتصف السبعينات يحلمون بالهجرة إلى بلاد الغرب للاستقرار عندما يجمعون قدراً قليلاً من المال يكفيهم... كانت الأيام والآمال كلها مبنية على الغد... والكل كان على قناعة بأن الغد مختلف، إنه أجمل وأكثر حرية!!! كاتبة سعودية.