تنعقد قمة بين قادة عرب وقادة من أميركا اللاتينية، ولعلها من القمم النادرة التي يجتمع فيها طرفان يعرف أحدهما عن الآخر أقل القليل وربما يكاد لا يعرفه. إن ما يعرفه المسيّسون من أبناء أميركا اللاتينية عن العرب لا يزيد عما تنقله اليهم أجهزة الإعلام الغربية، خصوصاً الأميركية، ومعظمه يركز هذه الأيام على الإرهاب والعنف والنزاعات. فالشرق الأوسط يبدو للرأي العام في أميركا اللاتينية منطقة تسودها الفوضى والجهل والتخلف وتناقضات فاضحة في السياسة والاقتصاد وأحوال المجتمعات. ولا أظن أن دولة عربية أو أكثر حاولت بذل جهد معقول لتغيير هذه الصورة، وربما كان انعقاد هذه القمة فرصة لا سابقة لها. وفي الغالب لن تتكرر طالما استمرت السياسات الخارجية العربية محدودة الأفق لا ترى إلا ما هو أمامها مباشرة. وهو يكاد لا يزيد عن الولاياتالمتحدة ومصالحها وضغوطها. ومن ناحيتنا كعواصم عربية، ناشطة في العمل الدولي أو خاملة، لم نسع يوماً للتعرف على أميركا اللاتينية. فقد استقر في الذهن الديبلوماسي العربي أن هذه القارة تتلخص في نهاية الأمر في عدد من الأصوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقررة لها سلفاً في واشنطن توجهاتها. هكذا تصرفنا معها عندما كانت دول في المنطقة العربية تقود الحياد الإيجابي وحركة عدم الانحياز ومازلنا نتصرف معها على هذا النحو حين بادرت البرازيل مع الهندوجنوب أفريقيا بالدعوة إلى إنشاء مجموعة جديدة من دول العالم النامي الصاعدة بسرعة سلم التقدم. ولعل الاهتمام المفاجئ بهذه القارة جاء عندما احتاجت الدول العربية إلى دعم جالياتها في الخارج في مواجهة الحملة ضد العرب والمسلمين بشكل عام. فقد اكتشفت الدول العربية الوضع الحرج الذي تعيش فيه جالياتها منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر واكتشفت في الوقت نفسه أن هذه الجاليات يمكن لو أحسن توظيفها أن تكون رصيداً لها. وأياً كان الدافع وراء عقد هذه القمة وسعي حكومات هنا وهناك إلى التقارب، يبدو أن الشروط اللازمة لإقامة علاقات أوثق لم تتوفر بعد، وأن الجانب العربي مازال غير متحمس لتوفير هذه الشروط. وستظل أميركا اللاتينية في آخر سلم الأولويات العربية. ولا أقول بضرورة تغيير الترتيب ووضع أميركا اللاتينية في موقع متقدم من أولويات العرب، لكنني أدعو إلى زيادة الاهتمام بها. يكفي أن يكون هدف الاهتمام بها تحسين صورة العرب وكسب أصدقاء وأسواق جدد، أو أن يكون الهدف الاستفادة من تجارب دول تلك القارة، خصوصاً أن بعضها انضم مبكراً إلى مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وأكثرها جرب الإصلاح السياسي قبل أن نجربه بأنفسنا أو تحت الضغط الخارجي. بل أنني أحث القادة العرب على أن يعقدوا جلسات ثنائية مع قادة أميركا اللاتينية يستمعون خلالها إلى شهادات هؤلاء القادة عن قضايا مثل: فشل جميع تجارب الإصلاح الاقتصادي التي حدثت في الدول التي التزمت وصفة الصندوق الدولي، إذ لوحظ خلال السنوات الأخيرة تخلي دول في أميركا اللاتينية عن بعض سياسات اقتصاد السوق التي فرضتها الولاياتالمتحدة، وبدأت تقلص من عمليات خصخصة القطاع العام الصناعي وقطاع الخدمات والتجارة بعد أن اتضح أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء ازدادت اتساعاً، وهي في الأصل واسعة. كانت أميركا اللاتينية تفخر بأنها هي التي وضعت للصندوق والبنك الدولي في مرحلة مبكرة أفكاراً تبنياها وكانت تتعلق بضرورة أن تعتمد التنمية في دول العالم النامي على أسلوب التخطيط والتوجيه. وتحقق بالفعل تقدم في اقتصادات أميركا اللاتينية واقتصادات الدول النامية الأخرى التي أخذت بهذا النمط في التنمية إلى أن قررت الولاياتالمتحدة التوقف عن دعم هذا التوجه. وقامت نظم يمينية لتطبيق نمط جديد في التنمية. ولم تحقق معظم هذه النظم لشعوبها أي تقدم أو تحسن فسقط كثير منها. سقطت في الموجة الأولى حكومات بيريز في فنزويلا ودي لاروا في الأرجنتين وكوللر في البرازيل وعبد الله بوكرم في الإكوادور وفوجيموري في بيرو. وفي الموجة الثانية أسقط المتظاهرون في بوليفيا حكومه جونزالو سانشيز دي لوسادا، ثم عادوا وأسقطوا حكومة خليفته. حدث هذا في أقل من عام ونصف العام. وقاد المتمردين زعيم من صفوف السكان الأصليين اسمه إد موراليس، يطالب شركات الغاز الأجنبية بزيادة ما يدفعونه مقابل حق الامتياز من 18 في المئة إلى 50 في المئة وبيعه إلى عامة الشعب بسعر بسيط. واللافت أن محللين أميركيين يلمحون إلى ضرورة التفاوض معه للوصول إلى الحكم بشروط معينة مثل أن يتخلى عن تأييده لرؤساء فنزويلاوالبرازيل وكوبا والامتناع عن تقليد سياساتهم وتوجهاتهم والإشادة بمواقفهم. يقول هؤلاء المعلقون إن استمرار فرض الحصار على المتمردين يزيد من قوتهم وأنه يجب السعي من أجل إدماجهم في النظام السياسي البوليفي. ومع ذلك استمرت السياسة الرسمية الأميركية تهدد بفرض الحصار الاقتصادي على بوليفيا في حال تولى موراليس رئاسة الجمهورية. يحدث هذا في وقت بلغ عدد الدول في القارة اللاتينية التي اتجهت ناحية اليسار ويقودها قادة لا يخفون أنهم ضد التوجيهات الأميركية، أكثر من عشر دول. من ناحية أخرى سيكون مفيداً للزعماء العرب الاستماع إلى ما يقوله زملاؤهم قادة أميركا اللاتينية عن ظاهرة تصاعد الغضب الشعبي وتعدد انفجارات التمرد في عديد من دول القارة ضد الاستغلال من جانب الشركات الأجنبية وسوء توزيع الموارد وانتشار الفساد. ففي فنزويلا يقود الرئيس هوغو شافيز نظاماً توفرت له شروط الديموقراطية كافة، ويعلن أنه يعمل لمصلحة الغالبية الفقيرة ويعيد توزيع الدخل ويبتكر أساليب لتشجيع إقامة تضامنيات وتعاونيات وإدماج القوى المهمشة خارج المدن في ساحة الإنتاج والمشاركة السياسية. هذه القوى نفسها هي التي قامت بحماية النظام من محاولات واشنطن المتكررة لاسقاط شافيز وإعادة الحكم إلى ممثلي طبقة رجال الأعمال"التجاريين". وفي بوليفيا، تستمر التظاهرات وحركات التمرد يقودها ممثلو الفلاحين الذين تضرروا من الحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة بوسائل شتى ضد زراعة الكوكا، من دون أن تقدم للفلاحين في بوليفياوبيرووكولومبيا بديلاً أو تعويضاً مناسباً. هؤلاء ويطلق عليهم"منتجو الكوكا"Cocaleros وأغلبهم من السكان الأصليين يرفضون التوقف عن التمرد قبل أن تتخلى الدولة عن سياسات اقتصاد السوق. يحدث الأمر ذاته، أي تمرد الشعوب، في الإكوادور حيث أسقطت التظاهرات قبل أسبوعين الرئيس لوشيو غوتييرس Lucio Gutierrez، وفي كولومبيا حيث تتصاعد أعمال منظمة"فارك"Farc ضد قوات حكومة الرئيس أوريبي، وفي بيرو حيث خاب أمل الفقراء وخصوصاً السكان الأصليون في الرئيس توليدو Toledo الذي وصل إلى الحكم على أكتاف الفقراء وبخطة لمحاربة الفساد، ولم تسمح له الضغوط الخارجية وقوة رجال المال وأنصار اقتصاد السوق أن يحقق في بيرو ما وعد بتحقيقه. أربع أسئلة تمنيت أن يسمع قادة الدول العربية الإجابة عليها من أقرانهم في أميركا اللاتينية: - الأول: لماذا وكيف سقط النموذج النيو-ليبرالي بهذه السرعة في أميركا اللاتينية، وما تفسيرهم لانحسار التيارات النيو-ليبرالية لصالح قوى"شعبوية"ترفع شعارات يسارية؟ - الثاني: لماذا فشلت معظم حكومات دول أميركا اللاتينية في التعامل مع حركات التطرف والإرهاب ولماذا لم تحاول هذه الحكومات إدماج التيارات الفلاحية، معقل هذه الحركات، في النظام السياسي والاجتماعي القائم؟ أم أنها تحاول الآن؟ - الثالث: كيف تواجه دول أميركا اللاتينية ضغوط الجار الأعظم، أي الولاياتالمتحدة، خصوصاً في ما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي والتدخل في شؤونها الداخلية، خصوصاً بعدما أصبح هذا الجار الأعظم لدول أميركا اللاتينية جاراً للدول العربية بحكم وجوده المطول في العراق، يفصل بينهم وبينه نهر يحمل اسم ريو برافو ولا يفصل بيننا وبينه فاصل. - الرابع: على ضوء التدهور الخطير في أوضاع كثير من دول أميركا اللاتينية خصوصاً حال عدم الاستقرار السياسي، كيف أمكن تحييد الدور المشهود للمؤسسة العسكرية في التدخل في شؤون الحكم. وهل كان للعامل الخارجي، أي الولاياتالمتحدة دور في هذا الشأن؟ أم أن تجارب نصف القرن الماضي أكدت للنخب المثقفة في أميركا اللاتينية أن العسكريين لم يكونوا دائماً منحازين لغالبية الشعب، بل تحالفوا مع المصالح الأجنبية ووكلاء تلك المصالح، وهل يمتنع العسكريون عن التدخل في السياسة لأنهم يدركون أنهم غير مرغوب فيهم ويخشون وقوع مقاومة شعبية عارمة في حال تدخلهم؟ هذه القمة فرصة لنا للاستفادة من تجارب من سبقونا في أميركا اللاتينية، أم ستفلت كما أفلتت فرصتان واحدة في جنوب شرق آسيا والثانية في شرق أوروبا. وهى في الوقت نفسه فرصة لدول أميركا اللاتينية، خصوصاً للبرازيل، لملء فراغ كبير في قيادة العالم النامي إلى جانب الهند والصين. كاتب مصري.