خلال الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، أي خلال السنوات العشر الأولى من قيام الأممالمتحدة، كانت الشرعية الدولية في الفقه الغربي تنحصر في قرارات الجمعية العامة باعتبارها الجهاز الممثل لجميع الدول الأعضاء. واستناداً إلى النظرية الديموقراطية الغربية في أن الأكثر تمثيلاً هو الأكثر تعبيراً عن الشرعية. فقد برر الفقه الغربي قرار تقسيم فلسطين الرقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي منح الجمعية العامة سلطة تقسيم الأقاليم بين أصحابها والوافدين عليها بغير سند قانوني مقبول. ولكن القرار تأثر بالقانون الدولي الاستعماري، فافترض أن النازحين اليهود مستعمرون، وأنهم وضعوا أيديهم على جزء من فلسطين من طريق الاستقرار فيها، فتمكنوا من حيازتها وصار لهم وفق القاعدة الرومانية القديمةUtti Possiditis "لكل ما حاز"، أي سيطرة الحيازة على الملكية وعدم الاعتداد بصكوك الملكية، فالحيازة كانت هي أهم سبل اكتساب الأقاليم في الفقه الاستعماري الذي بحث دائماً عن المبررات القانونية للسلوك الاستعماري الذي استند دائماً إلى القوة لاكتساب الحقوق، وهو المنطق نفسه الذي قامت عليه إسرائيل. والفارق الكبير بين منطق الاستعمار المتمثل في القوة والحيازة الفعلية، وحال إسرائيل باعتبارها مشروعاً استعمارياً، هو أن الدولتين العظميين في النظام الدولي الجديد في ظل الأممالمتحدة قبلتا حق الشعوب في تقرير مصيرها، فأصبح اليهود شعباً له حق تقرير مصيره على أي أرض أجنبية، خلافاً لما يقضي به هذا المبدأ، وهو أن يتقرر مصير الشعب على أرضه. واحتاط واضعو قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة لشبهة اعتباره توصية غير ملزمة، ولما دفع به الفقه العربي لاحقاً، من أن القرار يجاوز سلطة الجمعية العامة في الميثاق. وتحسباً لمعارضة تنفيذه، أسندوا إلى مجلس الأمن بسلطاته في الفصل السابع مهمة تنفيذ القرار عند الحاجة. ويمثل الموقف السياسي والعسكري العربي قمة التناقض، في ذلك الوقت، بين الشرعية الدولية ممثلة في قرار الأممالمتحدة، والشرعية العربية ممثلة في قرارات الجامعة العربية وسلوك الحكومات العربية التي اختارت أن تواجه العصابات الصهيونية على الأرض وتعوق تنفيذ القرار الدولي، الذي تسانده إرادة مشتركة من الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة وغالبية ثلثي أعضاء الجمعية العامة، بصرف النظر عن الإرهاب الذي مارسته واشنطن على بعض الأعضاء لتأييد القرار. وهذا الإرهاب في الظروف العادية يمكن أن يكون سبباً في إبطال القرار، لأن القرارات شأنها شأن المعاهدات يفترض أن تصدر عن إرادة حرة، فإن شابت الإرادة والرضا شائبة فسدت الإرادة والرضا وانعدم القرار. ولكن كل ما يتعلق بإسرائيل كان دائماً خارج دائرة الأصول القانونية المعروفة، فهي الوحيدة التي ولدت بقرار دولي، وهي الوحيدة التي استعلت على قرارات المنظمة التي أنجبتها، وهي الوحيدة التي ناصبتها العداء. ولو قدر للدعم الأميركي والأوروبي أن يتوقف لأمكن طرد إسرائيل من المنظمة ومن مجتمع الأمم المتحضرة في اليوم التالي. وفي أيلول عام 1951، أصدر مجلس الأمن القرار الرقم 95 الذي دان فيه منع مصر لسفن بضائع وجهتها إسرائيل. وطالب مصر باحترام اتفاق القسطنطينية الذي يلزم مصر بفتح القناة أمام سفن جميع الدول من دون تمييز. ولما كان المجلس ركز على التزام مصر من دون أن يلحظ حق مصر في الاتفاق نفسه، رفضت مصر القرار بسبب تفسيره الأحادي الجانب، وهو القرار الوحيد الذي رفضته مصر عن حق، خصوصاً أن الترويج للشرعية الدولية من خلال قرارات مجلس الأمن لم يكن مؤثراً، إذ كانت الجمعية العامة في نظر الفقه الغربي هي مصدر الشرعية الدولية، وهذا الاتجاه بالذات هو الذي ألحق الضرر بالحقوق العربية في فلسطين. على أن الشرعية الدولية من خلال الجمعية العامة وقراراتها استعادت ثقة العالم العربي فيها في البداية عندما دانت الجمعية العامة العدوان الثلاثي على مصر في حملة قادتها الولاياتالمتحدة في شكل خاص الرئيس أيزنهاور الذي شاع في العالم العربي أنه مساند للحق والعدل في مواجهة العدوان الأوروبي المتحالف مع إسرائيل، وكان ذلك بالطبع في إطار السياسة الأميركية الساعية إلى الحلول محل القوى الغربية. والمنطق نفسه هو الذي دفع صدور قرار الجمعية العامة الشهير الرقم 1415 في منتصف كانون الأول ديسمبر 1960 وهو قرار تحرير المستعمرات الذي أنشأ لجنة الأممالمتحدة لتصفية الاستعمار التي أشرفت على تصفية الاستعمار، خصوصاً في أفريقيا. وظلت الشرعية الدولية من خلال الجمعية العامة تحظى بالاعتبار، وبخاصة بعد سيطرة دول العالم الثالث على قراراتها حتى منتصف السبعينات، وبعد مساندتها القضية الفلسطينية، وقرارات تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية، ووقف عضوية جنوب إفريقيا العنصرية بعد رحلة طويلة من النضال ضد الحكم العنصري بدأت منذ العام 1952 واصطدمت بالموقف الأميركي المعادي الذي حول الثقل من الجمعية إلى مجلس الأمن. فحتى العام 1975، كانت قرارات الجمعية العامة في العالم العربي هي مصدر الشرعية الدولية، عدا قرار تقسيم فلسطين الذي بقى أثره عقوداً طويلة. أما الشرعية من خلال المجلس، فبدأت تقريباً منذ العام 1975 بعدما أصبحت الجمعية العامة حصناً للاتحاد السوفياتي ضد الولاياتالمتحدة، إذ كان الفقه السوفياتي يشدد على دور الجمعية العامة مصدراً للشرعية الدولية بعدما كان يعتبر قرارات مجلس الأمن وحدها في نهاية عقد الأربعينات وطوال الخمسينات هي مصدر الشرعية الدولية، لأن الجمعية العامة كانت تحت سيطرة واشنطن، ولأن موسكو كانت تتمتع بالفيتو مصدراً وحيداً للقوة في مجلس الأمن. وخلال الفترة بين 1975 و1990، تحول مركز الثقل في صناعة الشرعية الدولية نسبياً من الجمعية العامة التي اعتبرتها جهاز ديكتاتورية العالم الثالث أو ديكتاتورية الغالبية، إلى مجلس الأمن. وصار المجلس منذ انتهاء الحرب الباردة هو مركز الثقل الأساس في توليد الشرعية الدولية، ومنحت قراراتها مرتبة أسمى من المعاهدات الدولية الشارعة، وبخاصة أثناء أزمة الغزو العراقي للكويت عام 1990/1991 وطوال توابع الأزمة حتى غزو العراق نفسه عام 2003. وخلال هذه الفترة أبدى مجلس الأمن نشاطاً استثنائياً، فأصدر عدداً هائلاً من القرارات في أزمات عدة أبرزها العراق ولوكربي ضد ليبيا والسودان والحرب في يوغوسلافيا وهاييتي والصومال وليبيريا، وأنشأ المحاكم الجنائية الدولية ليوغوسلافيا ورواندا، وكل هذه القرارات تستند إلى الفصل السابع من الميثاق. ولوحظ أن مجلس الأمن نادراً ما يتمكن من الانعقاد لبحث الاتهامات الإسرائيلية في فلسطين، وإذا انعقد فإنه إما أن يعجز عن إصدار قرارات بسبب الفيتو الأميركي الذي استخدم في شكل أساسي لحماية إسرائيل نحو 42 مرة من العام 1972 إلى العام 2003، أو استخدم عبارات لينة أو اتخذ إجراء ضد إسرائيل، فإن إسرائيل درجت على إغفال مثل هذه القرارات كما حدث في قرار المجلس بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في جنيف عام 2002. وهكذا بدت قرارات الجمعية العامة بلا قيمة قانونية أو عملية، كما بدت قرارات مجلس الأمن خلال المرحلة الأولى وهى الممتدة - في نظرنا - بين 1990 و2003، تشكل أساس الشرعية الدولية كلما كان الأمر يتعلق بالدول العربية. ولكن هذه الشرعية تنحسر قيمتها كلما تعلق الأمر بإسرائيل. والحق أن قرارات الجمعية العامة في شأن الجدار العازل، وتحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية كانت بالفعل انتصاراً للشرعية الدولية، من خلال الجمعية العامة بعد أن عجز المجلس بسبب الفيتو الأميركي عن إدانة بناء إسرائيل للجدار. غير أنه اعتباراً من القرار 1441 في تشرين الثاني نوفمبر 2002 الخاص بالتفتيش على مزاعم أسلحة الدمار الشامل في العراق، يمكن القول إن مجلس الأمن أكد خطاً جديداً بدأه في لوكربي عام 1992 وسكت عليه العالم العربي، ومؤداه أن شرعية دولية جديدة تنشأ أساسها قرارات مجلس الأمن. وعبر عن هذا الاتجاه بوضوح القاضي شويبيل في محكمة العدل الدولية في شباط فبراير 1998 حين أصر على أن مجلس الأمن هو الذي يصنع القانون الدولي، وأن من حق المجلس أن يتجاوز هذا القانون إذا كان المجلس يسعى إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، فهذا الهدف مقدم على مراعاة أحكام القانون الدولي، على رغم أن القاضي الهولندي كويمانز تصدى له خلال إصدار المحكمة لقرارها باختصاصها في نظر قضية لوكربي في 28/2/1998، وكانت المحكمة أصدرت قراراً في 1992/4/14 رفضت فيه إصدار أوامر تحفظية ضد بريطانياوالولاياتالمتحدة، ففهم موقف المحكمة لدى بعض الأوساط بأن قرار مجلس الأمن الرقم 748 في 31/3/1992 أكد حرية المحكمة في القرار لأنه تضمن جزاءات ضد ليبيا وتسبب في صدام لم يكن متصوراً عند وضع الميثاق بين محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن. منذ قرار مجلس الأمن 1441، بدأ المجلس بتوافق كامل بين أعضائه يتجاوز خطوط السيادة الوطنية في العراق، إزاء التفسير الذي فرضته لندنوواشنطن لقرار المعونات الإنسانية الرقم 688 في نيسان إبريل 1991 واستندا إليه في إنشاء مناطق الحظر في العراق، مثلما استندا إلى قرار التفويض باستخدام "كل الوسائل الضرورية" لتجديد عدوانها العسكري على العراق عامي 1996 و1998 بحجة رفض العراق السماح لمفتشي الأممالمتحدة بالاستمرار في مهمتهم، على أساس أن واشنطن ركزت على أن وجود أسلحة دمار شامل في العراق حقيقة لا يجوز لنظام صدام أن يلتف حولها بهذه السياسات. وتتسم المرحلة الثانية من قرارات مجلس الأمن بأنها ظلت في شكل انتقائي سند الشرعية، وتعلو على جميع مصادر الشرعية الأخرى على أساس الأهمية المركزية التي أعطتها الولاياتالمتحدة للمجلس في تلك المرحلة، حين اتجهت واشنطن إلى استخدام الأممالمتحدة بالكامل ووظفتها لتحقيق سياساتها خلال السنوات 1990 حتى 2003، ولكن في إطار معقول من السياسات المعارضة داخل المجلس حتى لو تجاوز المجلس بعض قيود الشرعية ما دامت قراراته تصدر وفق أحكام الميثاق من الناحية الإجرائية. وهكذا دخل المجلس منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 مرحلة جديدة أصدر خلالها قرارات في الأزمة العراقية، وأزمة دارفور، وعجز عن إدانة بناء إسرائيل للجدار العازل في الأراضي الفلسطينية بسبب الفيتو الأميركي، كما أصدر المجلس القرارين 1559، 1595 في الأزمة اللبنانية. من خصائص الشرعية الجديدة أنها تستند إلى قرارات المجلس الصادرة وفق الفصل السابع، وأن الولاياتالمتحدة هي التي تقف خلفها، وأن القرارات تصدر بتوافق الآراء من دون معارضة بعد مفاوضات بين أعضاء المجلس، لترضي كل الاتجاهات، فضلاً عن أنها تصدر وفق قواعد الإصدار الصحيح في الميثاق في المادة 27/3 منه. فالقرارات صدرت مستوفية شروط صدورها وفقاً للميثاق، وهي من هذه الزاوية قانونية تماماً. غير أن هذه القرارات التي تعبر عن إرادة عامة لمجلس الأمن تجاوز حدود الشرعية في الميثاق، فتقيم تناقضاً بين القانونية Legality وبين الشرعية Legitimacy. فالقانونية هي صدور القرارات وفقاً لأحكام الميثاق، وأما الشرعية فهي أن تمثل هذه القرارات تجاوزاً من جانب المجلس باختصاصاته أو انحرافاً بسلطته، أي استخدام سلطاته القانونية لتحقيق الأهداف التي تخرج عن نطاق الميثاق. والخطورة في ذلك أن المجلس في المرحلة الثانية يتمتع بسلطة سياسية ومعنوية هائلة بسبب توافق أعضائه جميعاً، فبدا وكأن هناك مؤامرة ومصالح مترابطة بين الكبار ضد العالم العربي، تماماً مثلما توافق العملاقان سياسياً عام 1947 فأصدرت الجمعية العامة قرار تقسيم فلسطين، وهو مجرد توصية من الجمعية. وينطوي هذا الوضع على خطورة أخرى، وهي أن توافق الدول الأعضاء في المجلس، خصوصاً أن المجلس يتمتع بالنيابة القانونية عن سائر أعضاء الأممالمتحدة، يضفي شرعية سياسية توازي الشرعية القانونية. وقد يكون هذا الطرح مغرياً من الناحية النظرية، ولكن التمسك بأن أعضاء المجلس ينوبون عن سائر أعضاء الأممالمتحدة يلزم أعضاء المجلس بالتمسك بأحكام الميثاق. وليس صحيحاً أن الأعضاء بهذا الأسلوب يمكن أن يكرسوا سوابق يعدل بموجبها الميثاق نفسه، لأن للميثاق طريقة نص عليها لتعديله. وفي هذه الحال، إذا خرج أعضاء المجلس على الميثاق، فهم يخرجون عن أحكام الوكالة القانونية، ويصبح تصرفهم عارياً من الشرعية السياسية أي إرادة أعضاء المنظمة * كاتب مصري.