كما أمدّت الحرب اللبنانية - اللبنانية الروائيين اللبنانيين بأكثر من حكاية من حكايات هذه الحرب الأهلية الردامية، أمدّت المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل الروائية الفلسطينية، سحر خليفة، بالحكاية في معظم ما كتبته من روايات. وكما انبنت روايات اللبنانيين بمنظور نقدي لعلاقة الداخل بالداخل، أو لعلاقة الأنا بذاته، فإن روايات سحر خليفة لم تخل من نقد لعلاقة الداخل بالداخل الفلسطيني، بما هو، أي هذا الداخل، واقع اجتماعي يشكو من انقسامات وتناقضات، ومن عمالة وقصور في الوعي يخص، في وجه منه، علاقة الرجل بالمرأة، أو الذكورة بالأنوثة. ولئن كانت رواية اللبنانيين تهدف في نهاية مآلها الدلالي الى السلام بين أهل البلد الواحد، أو الوطن لبنان، فإن رواية سحر خليفة التي تناولت معاناة الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الاحتلال الاسرائيلي لأرضه، لم تخل من إشارة الى سلام، مرغوب، بين الفلسطيني واليهودي، لفظ يهودي مستعمل في الرواية، وإن كانت هذه الاشارة تأتي في سياق سرد يركز على اظهار الموقف الاسرائيلي باعتباره يمارس الاعتداء، ويحور الحقيقية، ويملك من العتاد ما لا يملكه المقاومون الفلسطينيون المدافعون عن أرضهم وعوائلهم وما بنوه خلال تاريخهم الطويل. كأن الكتابة بالنسبة الى هذه الروايات، وشأن كل ابداع في مثل هذه الحال، لا يمكنها أن تكون إلا رغبة في السلام ونشداناً للحياة. أي انها انتاج لثقافة انسانية ترفض الحروب وما تسببه للبشرية من موت ودمار. على ضوء هذا المنظور الذي أفترض، في مثل هذه الروايات، أرى الى رواية سحر خليفة الأخيرة"ربيع حار"2004، والى حكاية أحمد، الولد الفلسطيني الموسومة شخصيته، في الرواية، ب"التأتأة"، أي بتلعثمه في النطق وعجزه عن الإفصاح عما يود أن يقول. يميل أحمد، بداية، الى تأمل العالم، الصغير، حوله، والى رسمه وتصويره، أي الى التعبير الذي يعفيه من الحكي. ينقل أحمد المشهد الذي يختار كما هو في الطبيعة في ظاهر حضوره وفي رؤيته هو له، وليس كما يراه، أو يريده الآخرون من أناس مجتمعه، وما يمكن أن تحمله رؤاهم من معاني وأحكام مسبقة. كأن أحمد، بما هو عليه وبما يفعل، يقيم علاقة مع الطبيعة والحياة بعيداً مما يجري في عالمه الفلسطيني. فأحمد، وكما تقول لنا الرواية:"لا يتظاهر ولا يرشق الحجارة ولا ينطّ ولا يركض... فقط يهرب". ص 21. يهرب أحمد خائفاً كلما"اشتغل الضرب، ورشق الحجارة، وغاز الدموع"يهرب ويختبئ"ويظل من دون نفس حتى تهدأ معركة اليوم الصغيرة"ص 21. يبدو أحمد مختلفاً عن أناس مجتمعه، غريباً في سلوكه ومشاعره ورغباته. وهو لهذا موضع هزء وسخرية من قبلهم. غير أن عالم هذا الولد الذي يخاف ويهرب ويتأتئ في الكلام، هو عالم يتشكل، وكما توحي الرواية، بوعي آخر، وعي ناشئ يصبو الى حياة لا يدمرها هذا العداء بين العرب واليهود. كأن أحمد اشارة الى جيل فلسطيني يفارق، بما يتبرعم داخله من مشاعر، أجيالاً سابقة عاشت هذا الصراع الطويل بين العرب واليهود. من خلف السياج الفاصل، يرى أحمد الى الفتاة اليهودية الصغيرة، ميرا، وهي تلعب مع كلبها"بوبو". حب صامت يحرك قلب أحمد وروحه ورغبته في أن يكون له ما لميرا الحلوة من طمأنينة وهناءة وشكل نظيف. يحاول أحمد رؤية ميرا عن قرب. تستجيب ميرا، تحاوره عبر السياج. يتبادل الولدان، الفلسطيني واليهودية، الكلام. أحمد لا يتأتئ مع ميرا، وحين تبدأ بعدّ البيوت حولها يلاحظ، بصمت، الشبه بين ألفاظ لغتيهما. ليس الفارق كبيراً... والتفاهم ممكن. تقول ميرا: آحاد، اشنايم، شالوش، أرباع... ويقول أحمد: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة... ويقترب أكثر من السياج. تزحف ميرا وتصير عنده، ترفع يدها، فيمد أحمد يده بتلقائية ويسحبها نحوه عبر السياج. كأن أحمد وميرا"مشروع صداقة"، أو"سر صداقة"بحسب تعبير الرواية بين الناشئة، أو بين رمزين من رموزها الراغبة في السلام. لكن الحاجز الذي تجاوزه الولدان بالحب في المتخيل الروائي، يبدو أقرب الى المستحيل عند العودة بهذا المتخيل الى الواقع المرجعي. وبدل أن تستمر رواية سحر خليفة في الحكاية عن هذا الربيع، البالغ الدلالة، والذي وضعته عنواناً رئيساً لروايتها بعد أن وصفته بال"حار"، تنتقل الى الكلام عن حكاية"الصبر والصبّار"في دلالته المرة، والذي وضعته عنواناً ثانوياً لهذه الرواية. فما بدأ يتبرعم كمشروع حب أو صداقة بين الولدين: أحمد الفلسطيني وميرا اليهودية، يفشل. ومن الرغبة في الرسم والتصوير وتأمل الطبيعة والنظر الى ميرا... ينتقل أحمد للعمل مسعفاً للفلسطينيين المقاومين. ليست البنت الصغيرة، ميرا، طبعاً هي السبب، ولا الولد أحمد الذي لم يعد يتأتئ... بل هم، اليهود، الذين يكرهون العرب. ونح، الفلسطينيين، الذين نكرههم أيضاً. وحين نتصدى، بحسب الرواية، لعسكرهم الذين يحتلون أرضنا، ويدمرون بيوتنا، ويقتلوننا... تخذلنا أخطاؤنا، وانقساماتنا، وعملاء يخونوننا. على هذه الخلفية من المعاني ومن الرغبة، المتبرعمة، بالسلام، يجري السرد لينسج عالم الرواية في تنوع دلالاته وترميزاته وشموليته للمأساة الفلسطينية. يتمثل الترميز الدلالي في العلاقة بين"عنبر"، قطة أحمد التي يحبها كما يحب ميرا، و"بوبو"، كلب ميرا الذي تلعب معه: يعوي بوبو على عنبر، تخاف القطة من الكلب فتهرب، وإذ تخترق، بهروبها، الحاجز، يقبض عليها الجنود ويحبسونها، أهل ميرا، كما يدّعون، لا يكرهون عنبر، لكن القطط شأن العرب تتوالد بكثرة، لذا يجب حبسها ريثما يتم خصيها وتطبيعها. أما"بوبو"، الكلب، فهو يحرس ويحمي ويدافع عند اللزوم عن ميرا في إشارة الى جيش الدفاع الاسرائيلي. هكذا، وعندما يذهب أحمد، بمعاونة صديقه عيسى، الى البراكس ليرى قطته التي يحب، يقبض عليه الجنود ويتهم بغير الحقيقة: إن ما قام به أحمد، وكما كتبت الصحف، عملية جريئة للتسلل"وزرع الألغام في مستوطنة كريات شيبغ". أحمد الراغب في السلام يسجن ويتعرض للتعذيب، فقط لأنه سعى لرؤية قطته. لكن فضل القسام والد أحمد، يكره هو أيضاً اليهود. يرفض فضل القسام أن يلتفت ابنه حيث ميرا. انها وسخة وقبيحة، يقول له. والفلسطينيون الذين يشوّه اليهود حقيقتهم، يشوهون، هم أيضاً، مقاومتهم: بيت الوشمي الذي يتمتع بمكانة مرموقة بين الفلسطينيين بيت مشبوه، وكبيرهم، الوشمي، رجل انتهازي وعميل. وعيسى، صديق أحمد، تحول عميلاً. ولورا ابنة الوشمي التي يحبها مجيد، من دون اعتراض، ليست أفضل من ميرا اليهودية التي يحبها أحمد. ومجيد، أخو أحمد، الذي انضم الى الثوار، ولد مائع لا يعرف من الثورة إلا كلمات كان يغنيها ص 141. والسلطة التي هي شبه حكومة، هي سلطة مفتتة: فصائل وقبائل وتنظيمات. وبعد بيروت جاءت بحكم لا يختلف عن الأنظمة العربية"فوضى وفساد وضرائب وأجهزة قمع واستزلام"ص 191. ومؤمنون يجيزون، في زمن الحصار، استخدام ماء الشرب للوضوء. أما عن علاقة الرجل بالمرأة: فأم سعاد يذلها زوجها، فهي وكما يناديها،"الحرمة"و"الهبلة"و"الحمارة"...ز على رغم أنها هي التي تقوم بمسؤولية البيت. أمور كثيرة تتناولها الرواية بالنقد. لكن اليس وراء هذا الموقف النقدي للوضع الفلسطيني عداء تضمره الرواية، بل مرارة يفصح عنها السرد كلما تقدم وامتد زمن المسرود التاريخي، وعنفت ظلامات الاحتلال: ثلاثة أجيال من عائلة والد أحمد ومجيد عاشت وتموت في هذا الصراع... وأوضاع تتدهور،"وحرب بلا أمل، ولا تكافؤ"..."أرتال الجيش والدبابات وألوف جنود الاحتياط"... وأب يحس بالفجيعة وقد صار ابنه"مشروع شهيد". وضع غير عادل. وعملاء يتكاثرون: ابن البقال، بائع الزلابية والتمرية، والترمس. فقراء يتحولون الى عملاء... ومع هذا لا مفر، كما ترى الرواية، من المقاومة، من الموت. أبو رامي يقول لأم سعاد التي تشكو من ظلم الأهل أي من ظلم الفلسطيني ? للفلسطيني، وتنتقل السلطة:"مين السلطة؟ مش أنا وأنت؟ إحنا فلسطين". وأحمد الذي كان يتأتئ ويهرب، يسأل أباه الخائف على فقدان ولديه بعد انضمامهما الى المقاومة:"يابا شو نعمل؟"وعندما يقتل ابن غزة، يقول ببرودة اليائس:"هذا نصيبه". ومجيد الذي كان يهوى الغناء، يضيف:"هذا قدرنا"، معزوفة موت ولازم نرفض... والرواية التي تسهب في النقد تقول:"شباب بلا أمل صاروا قنابل مفخخة". بين الأخطاء والمقاومة، بين النقد والمرارة، بين ما يتبرعم وينطفئ، تكشف الرواية عن تناقض يحيل على الاحتلال الطويل، والعنف، ويظهر، في الآن نفسه، مسؤولية الداخل الفلسطيني. تعبّر الرواية عن هذا التناقض في ثنائيات حادة مؤلمة حين تقول:"ثورة وإذلال، عمالة وفداء، خسّة ونذالة وتجسس وكذلك تضحية قصوة تصل الفداء بتفجير الذات". ينعطف هذا الذي تتناوله سحر خليفة في روايتها"ربيع حار"، على ما سبق وقدمته في روايتها"باب الساحة"1990 من نقد لأخطاء الداخل الفلسطيني وانقساماته. تذكرنا أم سعاد في"ربيع حار"بأم عزام في"باب الساحة"، ومجيد في علاقته بلورا يذكرنا بحسام في علاقته بنزهة، وسعاد بسحر، والوشمي الانتهازي بأبو عزام، وما يجري في رام الله من اعتداء ومقاومة يذكرنا بما جرى في"باب الساحة"... ويبرز السؤال أمام القراءة: هل تكرر الكاتبة نفسها؟ أم انه التاريخ هو الذي يتكرر إذ يعيد الواقع الاجتماعي انتاج شرط تكراره؟ في"باب الساحة"، ومنذ ما يقارب الخمس عشرة سنة، سعت سحر خليفة الى بلورة وعي معرفي يكشف للذات الفلسطينية التناقض الذي يحكم ممارساتها. يومها ركزت الكاتبة على هذا الوعي الذكوري المتقاطع مع وعي ايماني مسائل يشكل، ومن منظور الرواية، وعياً زائفاً يكرس موقعاً دونياً للمرأة في المجتمع، ويشوه قيم الثقافة، ويعيق الثورة بما هي تحرر من ظلم الاحتلال الاسرائيلي بعامة وسطوة الذكورة بخاصة. ذلك ان التحرر هو، بحسب الرواية، تحرر، وقبل كل شيء، من ظلم الذات لذاتها. في"ربيع حار"، تتضاءل مساحة السرد الذي يتناول علاقة الذكورة بالأنوثة، ليترك مجالاً أوسع للكلام على الأخطاء وفداحة المأساة، وليفتح نافذة على سلام مرغوب ولكنه معوق. تتمثل فداحة المأساة في تزايد العنف الاسرائيلي واتساع رقعة احتلاله للأراضي الفلسطينية، وصولاً الى حصار مقر الرئيس عرفات. يحيل الكلام عن فداحة ما يجري الى اسلوب سردي تسجيلي. كأن السرد بتسجيليته يُظهر الصورة ويؤكد حقيقتها. بينما يميل الكلام عن السلام المؤمّل الى اسلوب ترميزي ويقتصر على ما يتبرعم بين الناشئة، أو بين بعضهم، كأن السرد بترميزه ينسب ما يحكيه الى متخيله لا الى واقعه المرجعي ويضعه على مستوى المؤمل والمرغوب. تنتهي الرواية بمقتل أحمد في سيارة الاسعاف. ينكسر المؤمّل، الحب أو الصداقة بين الولد الفلسطيني والبنت اليهودية. أما مجيد، أخو أحمد، فيتحول الى انتهازي،"يحلم بوكيل لوزارة ثم وزارة", ولورا التي أحبت مجيد وأحبت فلسطين، ولم تكن، كما ظنوها، عميلة مثل الوشاشمة، فتقول لمجيد:"أنت في البحث لم تلقني أنا المرأة/ فلسطين وأنا لقيتك وأضعتك مثل فلسطين". كأن الرواية، إذ تعود الى الحكاية نفسها، حكاية المقاومة والأخطاء والعمالة... إنما تؤكد معناها العميق، منوِّعة على دلالاته، فاتحة، هذه المرة نافذة ملحوظة للسلام. المعنى الذي يربط بين نجاح المقاومة وبين انتاج وعي جمعي، معرفي، به يرى الداخل الى أخطائه ويعمل على التحرر منها، فيما هو يعمل على التحرر من الاحتلال. وكأن سحر خليفة، الروائية الفلسطينية، إذ تعود بروايتها الى الحكاية نفسها، إنما ترهن إبداعها ودلالاته بهذه الحكاية، أي بالواقع المرجعي، بالتاريخ... حتى لكأن الرواية والحكاية، أو السرد والمسرود، يعانيان شرطهما المشترك.