هل يختلف الحوار الدائر الآن في الأردن حول الاصلاح بين النخب السياسية عما سبقه من حوارات؟ لقد بات واضحاً أن الحوار محصور بين تيارين: الأول يمثله تيار ما يسمى بالليبراليين الاقتصاديين والثاني يمثله تيار تقليدي محافظ مجازاً. تطورت مكونات تيار الليبراليين الاقتصاديين خلال السنوات القليلة الماضية ببرامج اقتصادية عنوانها الخصخصة واقتصاد السوق ولكنها إفتقرت الى البرنامج السياسي واضح المعالم. وكانت مقالة الدكتور فواز الزعبي وزير الاتصالات السابق بمثابة التعبير الأكثر وضوحاً عن الرؤى السياسية لهذا التيار والتي تتمثل بإحلال ديموقراطية مبنية على أساس المواطنة تُفضي الى تشكيل حكومات برلمانية. وهذا هو جوهر الإصلاح السياسي الذي يتحدث به الملك منذ العام 1999. أما التيار التقليدي المحافظ فعبر عن نفسه من خلال احتجاج نيابي 48 نائباً على تشكيل الحكومة الحالية وكان أبرز اسباب الإحتجاج"إغفال إرادة نواب الشعب وعدم التشاور معهم اثناء تشكيل الحكومة، مما يجعل دور مجلس النواب دوراً هامشياً ويخرجه عن موقعه الدستوري الفاعل". ويتفق التياران على أن هناك ضرورة لدور أكثر أهمية لمجلس النواب في العملية السياسية. إلا أن الاختلاف يظهر في مدى وقوة الدور. ففي حين يطالب الليبراليون ب"حكومة برلمانية منتخبة"وهو ما لمح الملك له في مقابلة تلفزيونية في 18/3/2005 بالتصريح بأنه يطمح بأن يؤدي الاصلاح في نهاية المطاف الى"ملكية دستورية"، يطالب المحافظون بدور"تشاوري"للمجلس ولم تظهر لديهم مطالبة واضحة بحكومة برلمانية كما هو واضح لدى تيار الليبراليين. ويكتفي الاسلاميين بالإشارة الى النص الدستوري بأن نظام الحكم"نيابي ملكي"، ويمكن إتخاذه كمؤشر على رغبتهم بحكومة نيابية. إلا أن الخلاف الأساسي الآخر الذي ربما يبرر موقف النواب الاستحيائي من المطالبة بحكومة برلمانية، هو موضوع التمثيل السياسي للأردنيين من أصل فلسطيني في مجلس النواب. وهو ما تطرق له كتاب لا يصنفون على أي من التيارين السابقين ولهم وجهة نظرهم الصريحة في الموضوع، وكان بيان النواب ال 47 كان قد ذكر"التوطين"على انه من"أهم المخاطر التي تواجه الوطن". هنا تكمن الإشكالية التي ينبغي على الجميع التعامل معها بروح عالية من المسؤولية وهي كيف نوائم بين التمثيل السياسي الديموقراطي والحفاظ على الهوية الفلسطينية وما يرافقها من حقوق لللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض، بحيث لا يفهم الاصلاح الديموقراطي على أنه تخلي عن حقوق الفلسطينين على حساب الأردنيين ولا العكس. يرى فريق من الكتاب والسياسيين محافظين تقليديين، واسلاميين، ومن فلسطينيي فلسطين أن الأردنيين من أصل فلسطيني يجب ان لا يمثلوا في مجلس النواب بشكل يعكس حجمهم الحقيقي لأن ذلك يعني تطبيقاً لبرنامج حزب ليكود الإسرائيلي بخلق وطن بديل للفلسطنيين في الأردن. وهناك ايضاً نوع من التناقض في خطاب بعض السياسيين الإسلاميين وغيرهم الذين يطالبون بمثيل كامل للاردنيين من أصل فلسطيني حيث تعني هذه المطالبة من وجهة نظرهم"تطبيقاً لبرنامج الوطن البديل". وفي حال عدم منح الأردنيين من أصل فلسطيني حقوق سياسية كاملة، فإن الأردن يصور على أنه"بلد عنصري لا يساوي بين جميع مواطنيه في موضوع التمثيل السياسي". يمكن تصنيف هذه التناقضات على أنها سياسية من الطراز الأول وتُبقي العملية السياسية تدور في حلقة مفرغة. وقد تكون الواقعية السياسية التي يطرحها الليبراليون هي الحل. وبالنسبة الى الليبراليين الاقتصاديين تبدو هذه القضية محلولة في برنامجهم السياسي الذي طرحه الدكتور فواز الزعبي والقائل بالديموقراطية المبنية على أساس المواطنة. فهذا الطرح مستقى من مصدرين. الأول مبني على رؤية ديموقراطية للأردن كدولة حديثة لجميع مواطنيها. والثاني مستمد من الواقعية السياسية التي يتحلى بها هذا التيار والقائلة أن موازين القوى والحقائق على ارض الواقع لا تسمح للاردنيين من أصل فلسطيني بالعودة الى فلسطين حتى لو كان هذا الخيار واقعياً. وإن كان هذا الخيار مطروحاً فنسبة من سيعودون قد لاتتجاوز حسب أكثر التوقعات تفاؤلاً 10 في المئة من اللاجئين. والمهم في هذا المجال ان جميع الأردنيين من أصل فلسطيني ليسوا لاجئين. فالغالبية منهم هم مواطنون اردنيون قبل عام 1967 ويجب أن يتم التعامل معهم على هذا الاساس إضافة الى أنهم لم يأتوا للاردن كافراد بلا أرض، بل أنه عند قيام الوحدة بين الضفتين العام 1950 أصبحوا مواطنين أردنيين وعند احتلال الضفة الغربية كانت جزءا من الأردن. وتأسيساً على ذلك، فلهؤلاء حقوق مواطنة في الدولة الأردنية. ونتيجة لقرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية العام 1988، أصبح الفلسطينيون المقيمون في الضفة مواطنين غير أردنيين. والآن هم مواطنون فلسطينيون. الحوار الدائر الآن ليس جديداً من حيث الموضوع الذي يعالجه ولكنه لا شك جديد في آلية المعالجة للواقع السياسي الأردني. ففي الوقت الذي يطرح فيه الاصلاحيون الليبراليون برنامجاً واضح الاستراتيجية والأهداف يتعاطي مع الواقع كما هو، يكاد يكون هناك برنامج مغاير للمحافظين التقليديين يعتمد على إبقاء الوضع القائم مع دور"تشاوري"أكبر لمجلس النواب في تشكيل الحكومات والحفاظ على دور القطاع العام في البنية التحتية والخدمات الرئيسة. وفي ظل المعطيات الدولية والمحلية لا يُمكن تأجيل الإصلاح السياسي، أي التحول نحو نظام ديموقراطي متكامل، إلى حين حل القضية الفلسطينية. لذلك لا بد من حوار وطني حول موضوع تمثيل الإردنيين من أصل فلسطيني يحفظ حقوقهم ويهديء مخاوف الأردنيين من أصل أردني. وكان الملك قد طرح موضوع حكومة برلمانية منتخبة بالنص في العديد من المقابلات الصحافية منذ استلامه مهامه الدستورية العام 1999. وإذا لم يكن الاصلاح السياسي يعني، في نهاية المطاف، التحول نحو النظام الديموقراطي، فماذا يعني؟ بالنسبة للملك وفي مقابلته مع بيتر جيننغز من ABC news بتاريخ 18/3/2000كان الموضوع محسوماً باتجاه"الملكية الدستورية""وهي تعني في الأدبيات الأكاديمية والتطبيق العملي كذلك أن الملك"يملك ولا يحكم"كما هو الحال في الملكيات الديموقراطية في أوروبا الغربية. ولدى الملك تصور واضح المعالم حول هذا الموضوع، يبدأ باللامركزية الإدراية وتشكيل ثلاثة أقاليم الشمال، والوسط، والجنوب لها برلماناتها المنتخبة التي تحدد أولويات التنمية. وسيكون المواطن من خلال المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على حياته هو الذي يحدد شكل برامج التنمية التي يرغب بها، ويساهم في بناء الديموقراطية من القاعدة باتجاه الهرم بدل الواقع الحالي. ومن جانب آخر، فإن عدم نجاح الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الخمس الماضية بمعالجة مشاكل البطالة والفقر والفساد والمديونية الخارجية، وهي القضايا التي تُشكل أولويات الأردنيين حسب إستطلاعات الرأي العام، يعزز من موقف الملك الرامي في"المحصلة النهائية"إلى تمكين البرلمان من تشكيل حكومات منتخبة ذات أغلبية برلمانية وتحويل دور الملك إلى الدور المناط ب"الملكية الدستورية". ويعني تمكين البرلمان في هذه الحالة تغيير آلية تشكيل الحكومات بحيث يتحمل المواطن مسؤولية القرارات السياسية الإنتخابية التي يتخذها بدلاً من أن يتحملها الملك كما هو الحال الآن. ويأتي، ربما، من هنا تأكيد الدكتور فواز الزعبي في مقالته على مسألة ان الحكومة البرلمانية ستحد من"تآكل شرعية النظام السياسي"القائمة على الإنجاز والتي ترتبط بشكل وثيق بأداء الحكومات التي يعينها ويقيلها الملك. فإذا كان الرأي العام الأردني يقيّم أداء الحكومات المتعاقبة بسلبية في معالجة القضايا الاقتصادية الرئيسة فقر، بطالة، مديونية، فإن لذلك انعكاس على مدى ثقة الناس بآلية تشكيل الحكومات السائدة حتى الآن. إذا تمكن الأردن من الوصول إلى آلية تحل إشكالية تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني وإنجاز مشروع ديموقراطي قائم على أساس المواطنة، فإن الأردن سيُقدم أيضاً نموذجاً لإمكانية ان يتحول بلد عربي الى الديموقراطية متجاوزاً إنتظار حل القضية الفلسطينية التي لا يبدو أن حلاً قريباً ينتظرها. لذلك لا بد من يبدأ حوار وطني هاديء حول اشكالية المواطنة. باحث في مركز الدراسات الإستراتيجية - الجامعة الأردنية