"عندما تعيد أميركا صناعة العالم"كتاب للباحث غسان سلامة صدر عن دار فايار الفرنسية للعام 2005 ليطرح علل أميركا المحيرة، والعالم المُعتل بأميركا، إذ يستحيل عليه العيش من دونها أو العيش ضدها، ويرغم نفسه شيئاً فشيئاً على التعايش معها!! فأميركا التي تتميز بعلة الحداثة وجهل الجذور، صارت كعرافة معبد دلفي تقرر المصائر بمنتهى الايجاز البليغ:"إما معنا وإما ضدنا"لأن الحرية التي تنادي بها تُلزم الكرة الأرضية قاطبة بخلاص:"إما وإما"!! فبعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 أشعل جورج بوش هذه القسمة، فأثار بها حفيظة الأصدقاء وأصولية الأخصام، حتى انه كاد يحوّل الأصدقاء الى أخصام!! فالمرض الأميركي الذي بدأ يصيب الكرة الأرضية حلّ رحاله في الكتلة الشرقية التي استعجلت الحداثة الليبيرالية وقد تمثلتها بمطاعم ماكدونالد، ومقاهي الهارد روك، والجامعات التي يقصدها ثمانون ألف صيني كل عام، فلربما حقق الواحد منهم حلمه بأن يصير مواطناً أميركياً ويفيد من الفرص"المادية"اللامتناهية في ما يُسمى"بالمعجزة الاميركية"!! فالقارة التي هي نسيج وحدها تجعل - باتساعها وتعددها - الفريق القادم اليها، يكتفي بها ويغفل عما سواها!! فالقوة العسكرية الأميركية التي لم يشهد تاريخ الانسانية شبيهاً لها، أصابت الحلفاء والأعداء بالتنويم المغناطيسي، فأسلموا زمام أمورهم الى" المعالج الجبار"وناموا في أحضانه!! ان الحلم الأميركي باستعمار العالم الحديث لشبيه بما فعله البريطانيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إذ كانوا أسياد المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس! وفي سبيل هذا الحلم عقد الأميركيون علاقات صداقة مع حلفائهم الذين يتنازعون في ما بينهم، ولو انهم يحرصون على تحقيق استراتيجية أميركا وأحلامها الرأسمالية، لعل حظوة تكون من نصيبهم!! فالولاياتالمتحدة كقوة عظمى ومنذ ما يقارب القرن قررت اتباع سياسة الهيمنة كما يقول بوزن. وبقي السؤال هيمنة ليبيرالية تعددية كما شاءها كلينتون أم هيمنة احادية كما قررها جورج بوش والمحافظون الجدد الذين رأوا ان الولاياتالمتحدة هي القطب الأوحد الذي يسخر من سباقات التسلح التي شهدتها العقود المنصرمة. فهي بسلاحها وحده يمكنها أن تحكم العالم وتخيّب ظن الحلفاء في إمكان اللحاق بها!! غير ان الولاياتالمتحدة وعلى رغم تفوقها العسكري تبقى منشغلة بالتهديدات والمخاطر التي يعددها دائماً رامسفيلد في أجواء من الشك التام بصحة المعلومات التي تصل، مما يفتح أبواب مخيلة المحافظين وتعاظم مخاوفهم. هذه المخاوف المتعاظمة جعلت المحافظين الجدد يصورون الحرب على أفغانستان حرباً ضد الشر، مذ توهم المحافظون الجدد ان إعلان الحرب لم يعد يتيقن وجود العدو وإنما افتراضه!! هذا الافتراض يجعل من أمن أميركا المطلق عقيدة تحتم عليها الهيمنة على كل تنين طائر في كوكب تتخيله في شكل أفعى تمد ذنبها بين الدبين الأصغر والأكبر. وقد يعتبر إيليوت كوهين من الأوفياء لهذه العقيدة بعد أن حدس بانهيار الاتحاد السوفياتي ورأى ان نهاية الحرب الباردة لا تعني قيام السلام أو التخلي عن أحلام أميركا الاقتصادية بإخضاع الأسواق العالمية لمصالحها ولو على حساب شعوب الأرض قاطبة وإفقارها ونهب ثرواتها!! فمذ كتب على أميركا أن تكون القوة الوحيدة المسيطرة قرر الأميركيون الدفاع المستميت عن قارتهم، ومساندة الحلفاء، والتدخل بين المتنازعين لو كان نزاعهما يهدد مصالح أميركا في حفاظها على تدفق أموال التجارة العالمية. الى هذه الأسباب التي تستقوي بها أميركا يضيف إليوت كوهين ما ردده فريق عمل بوش لأكثر من ألف مرة ومرة وبخاصة الثنائي تشيني/ رامسفيلد: الارتياب واللبس والغموض والحيرة في أمر عدو محتمل. وهكذا تصير أميركا دولة في حال من الحرب الدائمة والمستمرة كما هي الحال اليوم في العراق اليوم. فالرئيس بوش إذ يلجأ الى شرعة الأممالمتحدة والقوانين الدولية فإنما لتشفع لحروب وقائية يديرها ولأخرى يختارها!! فغسان سلامة يرى ان اعادة النظر الجذرية بمفهوم السيادة الذي يسمح للدول بالتدخل العسكري أينما كان في الكرة الأرضية هون مفهوم يدين الدول ويعري منها النيات الخفية وهو ما ايقنته جورجيا وكولومبيا وباكستان ومونغوليا التي تجاوزت حدود الخوف من اغضاب النسر الأميركي!! فإذا كانت المهمة العسكرية في أساس التحالفات كما يقول رامسفيلد فإن الحلفاء تبعاً لهذا المبدأ لن يكونوا شركاء دائمين بل"خزانات"موارد كالحلف الأطلسي!! من هذا المنظور فإن الوحدة الأوروبية تصير عائقاً لا حليفاً، وهو عائق يستدعي العمل على تفكيكه!! "جوقة الأمم" وإذ يصير الأمن الوقائي هو المبدأ والعقيدة فماذا لو اعتمدت الدول ما اعتمدته الولاياتالمتحدة من حروب وقائية ومن اغتصاب لحقوق الشعوب في العيش الكريم والسيد والحرّ؟ ففي غياب"جوقة الأمم"رفضت الولاياتالمتحدة قرارات مجلس الأمن لحساب حربها الوقائية ضد من لا يساويها عدة أو قوة أو نفوذاً!! وعليه بات من المستحيل تحديد معاني التهديد بالمفهوم الأميركي، وصار من السهل اختيار الهدف والتصويب عليه!! وقد أيقن غسان سلامة أن المجموعات الإرهابية التي تبحث عن موتها وموت غيرها هي غير الدول والشعوب التي تبحث عن الحياة!! لذا فإن طوني بلير لم يتورع من اتهام بغداد بتصنيع أسلحة الدمار الشامل ومثله تشيني الذي كان يخشى الترسانة النووية المتقدمة في العراق ومثله وولفوفيتز الذي لم يكن مطمئناً لتواطؤ العراق مع القاعدة ومثله كينيث بولاك الذي يؤكد ان الحرب الوقائية وحدها تحدّ من قدرات صدام وترسانته من أسلحة الدمار الشامل!! فالحرب الوقائية ليست حرب آلات ومعدات وإنما هي مبدأ يقوم على التخريب والفوضى والعماء الذي لا ينتهي الى استقرار أو الى انتصار كما هي حال ما بعد الحرب العراقية، والفضائح التي غرقت فيها أميركا إذ ضربت بعرض الحائط شرعة حقوق الانسان بممارسة التعذيب والاغتصاب، ورفع شعار الديموقراطية في خواء لا قيمة فيه لكرامة السجين أو لحرمة الثكلى أو لمرارة الأيتام!! عصر الصراعات وهكذا فإن ما سمته الولاياتالمتحدة حرباً وقائية يعود إليها غسان سلامة ليسأل: هل ان القرن الواحد والعشرين ستميزه الصراعات الدينية التي تنبأ بها اندريه مالرو؟ وهل لأميركا أن تهدئ من عصبيتها الدينية وان تعود أوروبا الى حرارة إيمانها الماضي الذي تجاوزته بعد عصر الأنوار؟ وقد رأى أرفينغ كريستول انه لولا الدين لما انتصرت الشيوعية، وانه لولا الدين لما سقطت الشيوعية!! وهذا يستدعي تنبوءات هنتنغتون الذي لم ير الى الحضارات إلا من منظور ديني باستثناء اليابان التي لم يقم بنيانها بإسمنت الدين!! ومثل اليابان الغرب الذي يتحدد بأنظمته السياسية والاقتصادية ويعتد بقيمه ومؤسساته المهددة إما بالتدمير أو بالسيطرة عليها! غير ان الغرب إذ يفاخر بقيم يسعى لتقاسمها وتشاركها يعود ليطرح هويته الإشكالية ويسأل: أيمكن لجنوب افريقيا وكوريا واليابان وتايوان وتركيا وروسيا ان تصير"غرباً"طالما ان الغرب لا يقوم بالدين أو بالتحالف الاستراتيجي وإنما بتمثل مؤسساتي يسمح للعالم بأسره ان يصير"غرباً"كما يسمح للغرب بأن يصير العالم بكليته!! أي عالماً ديموقراطياً علمانياً وليبيرالياً!! غير ان العالم الذي تعيد أميركا صناعته هو عالم برنارد لويس الاستاذ في جامعة برنستون وصاحب الأثر العظيم على بيتر والدمان الذي كتب قائلاً:"ان تشخيص لويس لأمراض العالم الإسلامي تقوم بدعواته لاجتياح هذا العالم وزرع بذور الديموقراطية فيه"! فبرنار لويس المولود في لندن سنة 1916 والذي عمل للحكومة البريطانية خمس سنوات قبل الالتحاق ببرنستون 1974 هو اليوم"المعلم"للمحافظين الجدد الذين يعتبرونه المرجعية الوحيدة التي يمكن استشارتها في شؤون الاسلام والمسلمين. فريتشارد بيرل يعتبر ان"الحديث مع برنارد لويس هو بمثابة قصد معبد دلفين والاصغاء الى عرافته". وقد اعتبرت ادارة الرئيس بوش ان برنارد لويس هو المرجعية السياسية في شؤون الشرق الأوسط، وعليه تنهال الأثمان وكأنها المطر الذي يردّ اليه ألقاً في الثمانين من عمره!! فبرنارد لويس الذي كرسه المحافظون الجدد سلطة بغير منازع بمعرفة العالم العربي - الاسلامي أثار حوله الكثير من الحساد والكثير من النقاد الساخرين بسلطته حتى صح فيه أحد الأمثال الشعبية:"ليس في الميدان إلا حديدان"! فلو اعترفنا بفضل برنارد لويس الأكاديمي، فأبحاث له حول الاسلام القروسطي تميزت بالموضوعية حتى العام 1950، إذ انقلب حبه للثقافة الاسلامية الى منتهى الاحتقار وفقدان الصدقية لذا صار ادوارد سعيد يرى ان اعمال برنارد لويس الاكاديمية لم يعد فيها من الموضوعية أو من الصرامة الأكاديمية إلا الدعاية التي يروج لها المحافظون الجدد أمثال بيرل ووولفوفيتز وأبرامز وجافين. فالمحافظون الجدد وبعد أن انقلب برنارد لويس على أمسه الأكاديمي الموضوعي احاطوا به إذ عادى الاسلام، فصار فريق عمل بوش"مسحوراً"بمعارف لويس العدوانية عن اسلام يجهلونه هم كما يجهله حاضراً برنارد لويس!! الى برنارد لويس يشير غسان سلامة الى دانيال بيب الذي اعتبره جورج بوش خبيراً في الدراسات الاسلامية بعد أن حصل على دكتوراه في التاريخ الاسلامي وصار من أصحاب الدراسات المنحازة ضد الشرق الأوسط خصوصاً بعد أن أسس"فصلية الشرق الأوسط"التي صار من عناوينها:"لِمَ عبادة صدام حسين للقنابل؟"،"هل الشيعة تعني الأصولية؟". إضافة الى برنارد لويس ودانيال بيب يشير غسان سلامة الى دور فؤاد عجمي اللبناني الجذور، والشيعي المذهب الذي يوجه سهامه الى اسلام لا يؤمن به من منبر العلوم السياسية في جامعة جون هوبكنز حيث كان وولفوفيتز عميداً له مدة سبع سنوات. فكتاب فؤاد عجمي"ورطة العرب"نال حظوة لا مثيل لها عند قادة اليمين الجمهوري برعاية بوش الأب وبعدها بوش الإبن. ومن المعروف انه كاتم أسرار ديك تشيني والمحرِّض الأكثر بلاغة في شن الحرب على العراق. فبرنارد لويس ودانيال بيب وفؤاد عجمي تجمعهم نبرة التشكيك بالقومية العربية، وإعلاء الهيمنة - الامبريالية - التي تتزعمها أميركا!! هؤلاء هم محامو الدفاع عن التدخل الأميركي في الشرق الأوسط وكأنه"الصليبية الديموقراطية". ومما نعت به هؤلاء الاسلام والمسلمين: 1 - الحقد اللاعقلاني ضد الغرب، وهو حقد غير مستمد من السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وإنما من ماضيهم ومن سقوطهم التاريخي إذ كانوا يعتبرون انهم"خير أمة أُخرجت للناس"!! 2 - عقد النقص، التي يعانيها المسلمون بعد عصر ذهبي بدأ يتهاوى حتى لم يبق منه إلا الأنقاض!! 3 - استحالة التفاهم مع صدام"المجنون"ووساوس اسامة بن لادن وهوسه بموت الآخرين وقتلهم!! هذه القراءات المريضة التي تجاوزت أثر ابن رشد وابن سينا وأثرهما في الثقافات الغربية أثارت اعجاب جورج بوش الابن الذي اختصر الحضارة الاسلامية بپ"جنون صدام"وهوس"بن لادن"واطمأن الى خياراته العسكرية وكأن العراق يختصره"صدام حسين"كما يختصر بن لادن "أفغانستان وباكستان"!! أخيراً ان كتاب غسان سلامة يصبح بكثرة مراجعه، وموضوعية أكاديمية تميز صاحبها وتحمله على كثير من دقة العلم والملاحظة.