مرّ مشروع منظمة التحرير الفلسطينية بعد أوسلو بمأزق حقيقي، أو مرّ بمأزق حقيقي أدى الى أوسلو. نترك ذلك لنقاش السببية العقيم في الظواهر الاجتماعية المركبة. وقد ثبتت وجهة نظر معارضي أوسلو أنه لم يخرج منها سالماً معافى. ونجمت فترة الغموض عن ان كوفية ياسر عرفات لم تستر رأسه فقط، بل غطت ايضاً على هذه الحقيقة من بين حقائق أخرى، لم يعد هنالك ما يغطيها. كان ياسر عرفات، قوة أوسلو الدافعة، مقتنعاً بأن هذه التسوية هي جزء من مشروع الدولة الذي تبناه منذ نهاية السبعينات. وقد أسس مشروع الدولة ذاته بعدما فقد روحية التحرر لفساد عظيم من دون دولة، لكن عرفات كان أيضاً من يمد المناضلين بالمال والسلاح والدعم داخل المؤسسة، فكان يحتضنهم وكانوا يدافعون عنه. بعضهم يقول بوجهين لسياسته، وفي رواية أخرى وجوه عدة، وفي رواية ثالثة تغيب السياسة تماماً عن عالم المياومة العرفاتي، والله أعلم... لا بأس، ولكن كان للرجل قسط في تقليدين متوازيين متناقضين على الأقل. في يوم النكبة الفلسطيني الأخير أسمعت في رام الله صفارات الإنذار في موعد محدد سلفاً. وبثتها وكيف لا؟ فضائية عربية أيضاً. وكان المقصود وقوف الناس دقيقة صمت، حتى في الشوارع والأماكن العامة. وقد رمز هذا السلوك المأزوم بقوة الى عمق المأزق الذي تعيشه السياسة الفلسطينية التي بدأت كنتيجة للنكبة. ولا أقصد ان أقول أنه لم يبق من النكبة إلا ذكرى، فمن الطبيعي أن يكون هذا اليوم أيضاً يوم ذكرى، ولا اقصد تذكرها بهذا الشكل اي بنسخ طريقة التذكر الرسمية الاسرائيلية الفريدة التي تجعل الشعب الاسرائيلي يبدو مؤدلجاً واقفاً كأنه رجل واحد، بل المقصود هو محاولة نسخ وفرض الخطوات الفريدة ذاتها التي يتركب منها حدث التذكر الإسرائيلي الرسمي: صفارة انذار ووقوف في كل مكان، في الأماكن العامة والخاصة. الضحية تقرر ان طريقة التذكر الوحيدة هي تقليد الفاعل. ويذكرني هذا بالمتحذلقين في إطار الرياضة الفلسطينية المعروفة بالحديث بالسياسة بحثا عن الحل السحري لما يسمى ب"القضية الفلسطينية"، كأنها قضية أو عقدة رياضية تبحث عن حل ابداعي ليتبين دائماً في النهاية أن الحلول المقترحة المتشاطرة لها علاقة بتقليد الاسرائيليين من نوع: يجب ان نقيم وكالة فلسطينية مثل الوكالة اليهودية، أو يجب علينا ان نسيطر على الإعلام!، وقد قال لي مرة قيادي فلسطيني أنه يفكر بالدعوة لعقد مؤتمر في بازل. ولا أستطيع أن اصنف انجذاب المستعمَرين لمشروع كولونيالي يستعبد حتى خيالهم إلا كاستعمار للنفوس التي تمتنع عن خيار المقاومة على أشكاله. لم يتحول المشروع الى دولة وفقد مزايا حركة التحرر. وما وُصِف أعلاه هو من مظاهر المأزق الملفتة، لأنه يحول النكبة الى ذكرى رسمية كما تحييها دولة قامت، في حين ان النكبة الفلسطينية مستمرة. وما تغير هو واقع المشروع الوطني الفلسطيني الذي يحاول أولا، ان يتصرف كدولة، وثانياً، أن يقلد الاسرائيليين حتى في ذلك، وكل هذا من دون أن يصبح دولة. وهو لا يلغي حركة التحرر من الاحتلال كمشروع تحرري فحسب، بل يعتمد ايضاً اعتماداً كلياً على الديبلوماسية الأميركية والإسرائيلية. وهي كما هو معروف لا تفرز حلاً للقضية، بل تفرز كما يبدو انحلالاً. بعض الحلفاء المحدودي الضمان في لبنان باتوا يراهنون عليه عند الحديث عن قضية اللاجئين انما هي النتيجة الأولى للنكبة اذا كان من معنى للتذكر. فكيف تنحل قضية اللاجئين بدل أن تحل؟ الجواب بسيط: الدولة الفلسطينية كفيلة بتحويلهم من لاجئين الى مغتربين أو ل"الاختصار الأميركي"بجوازات فلسطينية، ولهم دولة. وما دامت الأوراق الثبوتية تحمل شعار تلك الدولة لا أهمية لكون الدولة قامت كمرحلة مؤقتة طويلة المدى أو كحل دائم. المهم ان النتيجة لا توطين ولا حق عودة. مع الدولة الفلسطينية تنحل"مشكلتهم". وليس صدفة الحديث عن حل قضية اللاجئين بدل الحديث عن حق العودة. أما قضايا القدس والاستيطان وبقية القضايا التفاوضية، التي حددها اتفاق اوسلو تحت عنوان قضايا الحل الدائم ودخلت تحت هذا العنوان الفني الى قاموس الديبلوماسية الفلسطينية البائس، فتتحول إلى"خلاف حدودي"بين دولتين. ولا يبقى إلا الوقوف صمتاً وصفارة انذار تيمناً بإحياء الاسرائيليين ضحايا المحرقة وضحايا"حرب التحرير"التي يسميها الفلسطينيون نكبة. ولتتعايش ذاكرتان، قصتان، روايتان، لكل منها حقيقته النسبية وغير ذلك من ترهات تحويل تذوُّت الهزيمة الى تعددية وتحويل الصراع بين حركة التحرر الوطني والاستعمار الى اختلاف بين روايات متساوية متعايشة، او متنافسة تعكس واقعا غير متساو وغير متعايش. كيف نقنع من تذوت الهزيمة أن يذهب الى بيته من دون أن يفرض علينا طقوس تقبلها؟ لا يصف الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي اسرائيل بكلمة"عدو"، واختفى مصطلح"العدو الاسرائيلي"، ناهيك عن"العدو الصهيوني". وكيف لا تختفي بعد معاهدة بين"طرفين"؟ ولم تنجب المعاهدة بين ال"طرفين"سلاماً عادلا بالطبع، ولكنها أنجبت"شركاء". تحول الطرفان الى شريكين، وأكثر من ذلك أصبح لزاما على ال"طرف"الفلسطيني ان يقنع العالم واسرائيل انه يستحق أن يكون"شريكاً". وتشمل"الشراكة في عملية السلام"الاقتصاد والمشاريع المشتركة والمجتمع المدني، كل شي ولا المجتمع المدني! والمعتدلين والمتطرفين وغيره. لم تأت الدعوة لمقاطعة إسرائيل أكاديمياً أو لاأكاديمياً من مصادر السلطة الفلسطينية وإنما من أوساط ناشطين فلسطينيين تنظموا بمبادرتهم. حسناً، ولكن ما هو موقف السلطة الفلسطينية ومؤسساتها من المقاطعة؟ لا أحد يعلم. ولذلك فإن شجب واستنكار رئيس جامعة القدس الواقعة في ابو ديس للمقاطعة الأكاديمية البريطانية للجامعات الاسرائيلية لم يأتِ في فراغ. صحيح أن موقفه كرئيس جامعة فلسطينية مستفز للمشاعر الانسانية وليس الوطنية فحسب، ولكن تصدي المؤسسات والنقابات وغيرها دائماً لهذا الفرد او ذاك لا يعفيها من أن توجه السؤال: ما هو موقف السلطة الفلسطينية الرسمي؟ هل تدعو الى المقاطعة؟ لا، إنها لا تدعو للمقاطعة. ولا ندري الى ماذا تدعو السلطة الفلسطينية. فهي تدعو الى وقف الكفاح المسلح، ولكنها من ناحية أخرى لا تنظم أو تدعو الى تنظيم نضال مدني على المستوى الوطني ضد الاحتلال. وهي لا تدعو إلى خطوات عقابية دولية ضد إسرائيل، ولا حتى على مستوى الرأي العام العالمي. وتفضل أن "يحل عنها" كل المتضامنين ضد أميركا واسرائيل وأن يخففوا عنها هذا الإحراج، فقد وضعت أوراقها بيد أميركا وإسرائيل. فإلى ماذا تدعو إذا؟ لا ندري. الى الانتظار، كما يبدو: انتظار ماذا؟ انتظار أميركا وانتظار الانتخابات وانتظار نهاية زيارة شارون الى واشنطن وبداية الزيارة الثانية، وانتظار ما ستسفر عنه الجلسة مع آفي ويوس وداني من الضباط الميدانيين الذين يُخاطَبون بأسمائهم الأولى، وانتظار ما سيترتب عن المؤتمر، وما سينتج عن القمة وهكذا. وهل تمضي القيادات وقتها في الانتظار؟ لا، لكن لا يجوز الاستخفاف بالانتظار، فالانتظار يشغل أكثر مما يتوقع المرء للوهلة الاولى، وهنالك تفاصيل كثيرة لا تشبه صورة المنتظر المدخن الاستحواذي على محطة باص. وللناس مشاريع فردية كثيرة، فقد تمت خصخصة المشروع الوطني تماماً قبل نجاحة، وهذا يفرز مشاريع منصب ومشاريع انتخابات وقوانين انتخابية تسمح بإعادة انتخاب من ينتظر، ومشاريع اقتصادية ومشاريع الأبناء في البلاد وخارجها... المشاريع كثيرة، فبدل أن يخصخص قطاع الانتاج المادي دُوِّل في العالم العربي الحيز الفردي الضميري الخاص، ومقابله تمت خصخصة الدولة ذاتها الى مشاريع نخب سياسية وعسكرية واقتصادية وعائلاتهم. في العالم كله تتم الخصخصة في الدولة، وفي العالم العربي تتم خصخصة الدولة ذاتها إلى مشاريع عائلية. وفي فلسطين تتم خصخصة المشروع الوطني الى مشاريع فردية قبل كيان الدولة. وقد يتمخض كيانها المشوه المقترح من قبل شارون وبوش عن هذه الخصخصة تحديداً. وفي مرحلة"النفط مقابل الغناء"بعد انقضاء مرحلة"النفط مقابل الغذاء"يرحب العالم العربي ب"عودة الوعي الفلسطيني"، مع الاعتذار من توفيق الحكيم ومحمد عودة. فبعدما شجع الفلسطينيين على هذا النهج لا يستطيع العالم العربي الآن أن يكون فلسطينياً اكثر من الفلسطينيين. ولذلك يصبح الفلسطينيون رأس الحربة في مسألة التطبيع، كما يصبح فلسطينيو مؤسسة المرحلة هم الممهدون، وحتى الملحّون على تقديم عناصر إسرائيلية وعريية مشبوهة الى العالم العربي. وجزء كبير من العالم العربي لم يعد يسلم فقط بإسرائيل بل بات يسلم بها كالقوة الإقليمية الأولى بامتياز والمفتاح إلى قلب أميركا، وهو يبحث عن مكان على أجندة شارون، أو أن"يحل شارون عنه"،"يفك شره عنه"كما يقال في العامية الفلسطينية. ويعتبر من يذهب هذا المذهب كل من له علاقة مع اسرائيل ذخراً واستثماراً، كما كان يعتبر من له علاقة بأميركا قبل سنوات. تخيل ان يصبح بعض"عرب اسرائيل" المصطلح هنا مقصود موضع تقدير بسبب علاقاتهم الاسرائيلية تحديداً، اختلط الحابل بالنابل. الانحلال اخلاقي، وقد بات يضر بمعنويات الناس الذين لا يريدون الاستسلام. وبات الاصرار على عدم الاستسلام يثير حنق البعض الذي يعتبر رفض الاستسلام إهانة له. في مثل هذه الحالة يبحث الوعي الوطني الفلسطيني فلا يجد إلا قوى خارج الإطار الوطني التقليدي تصعد النضال ضد الاحتلال بمعزل عن برنامج سياسي واضح ويتعزز ذلك في أن رؤوس هذه القوى مطلوبة ميدانياً للاحتلال. وفي ظرف يتم فيه تكثيف الاستيطان وتهويد القدس، وتنفيذ بنية الضم التحتية بشكل كامل، ويعلن فيه شارون صراحة أنه لن يكون هنالك حتى تفاوض على حل دائم مع الفلسطينيين يتم أيضا إشغال الساحة الفلسطينية السياسية بالخلافات الداخلية على مناصب ومصالح ومزايا وغيرها. وتجري محاولة حثيثة لجر المقاومة الى الصراع الداخلي وامتصاصها فيه. ويتجه التعامل مع القضية الفلسطينية نحو مرحلة جديدة، أساسها اعتماد أمريكا واسرائيل مبدأ الدولة الفلسطينية على جزء من الارض كحل للقضايا التي حلّت بالشعب الفلسطيني منذ النكبة. والمهم ان دولاً عربية اساسية كبيرة وصغيرة باتت تتبنى"الدولة الفلسطينية القابلة للحياة"كشرط، أصحّ أن نقول كحجة مقنعة كأنها شرط، للتطبيع مع اسرائيل. أنظمة وفئات عربية تصمت خبثا أو حتى تزاود في مراحل المواجهة مع الاحتلال وتتحين فرصة فشل المواجهة وغرق الناس في الاحباط للتطبيع مع إسرائيل. وليست هذه قوى ديموقراطية كما تدعي، ولا هي قوى إصلاح، فغالباً ما يطرح التطبيع مقايضة بدل الإصلاح. والقوى الديموقراطية فعلا تنشد العدالة للشعب الفلسطيني أيضا وتنشد العدالة والديموقراطية لا التعددية الطائفية لشعوبها هي ايضاً. القوى المنحطة سياسياً والمنحلة أخلاقياً والمتفسخة إنسانياً والجبانة التي تحاول الاستفادة من عدوانية أميركا وتحاول ان تتجنب ضغوطها للإصلاح في الوقت ذاته، مدشنة مرحلة"النفط كمقابل الغناء"تزدهر عند أفول الحركة الجماهيرة وتنتعش عندما تذوي روح المقاومة وتختال عندما تنكفؤ نفوس الناس احباطاً، وهي تحث الناس على قبول اي شيء ترضى به الولاياتالمتحدة من أجل هدوء يمنحها فرصة لممارسة استغلالها للدولة وللسلطة مستعينة بالمنصب أو بعلاقات القرابة والنسب وغيرها من أجل الإثراء والفساد والإفساد. وهي ترغب أن يجري هذا كله في ظل الهدوء الأمني مع بعض الإصلاحات وأموال الدعم الاجنبي التي تسمن البعض ولكنها لا تغني عن جوع البعض الآخر. ملاحظة: أوصل النظام العراقي السابق شعبه الى حضيض مرحلة النفط مقابل الغذاء. أما مرحلة"النفط مقابل الغناء"فهي استعارة الكاتب لتصوير الانتقال من مرحلة إفساد الدين وتسييسه من قبل الأنظمة الريعية لاستخدامه اساس لشرعيتها الى إفساد الثقافة ككل في مرحلة الاستفادة من عدوانية أميركا ضد الخصوم، مع تجنب اسقاطات هذه العدوانية على الداخل بالتكيف بالمظهر مع بعض مطالبه، وذلك بنشر مظاهر الانحلال الثقافي المدفوع الثمن من دون تبني مطالب ديموقراطية حقيقية. كاتب عربي.